وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يعرف الأمن الصحي بأنه: «الأنشطة المطلوبة الاستباقية والتفاعلية على حدٍّ سواء لتقليل خطر حوادث الصحة العامة وتأثيرها الذي يعرّض صحة السكان الذين يقطنون المناطق الجغرافية والحدود الدولية للخطر».
مفهوم الأمن الصحي
يُعَد الأمن الصحي مصطلحاً أو إطاراً لقضايا الصحة العامة التي تتضمن التزام الحكومات على مستوى العالم مسؤولية حماية الصحة لسكانها على الصعيد الوطني من التهديدات الصحية الخارجية كما في الجائحات.
دخل مصطلح “الأمن الصحي” أو “السيادة الصحية”، حيز التداول الدولي رسمياً منذ العام 1994، حيث تم تعريف الأمن البشري تعريفاً شاملاً، يُغطي فئات رئيسية هي: الأمن الاقتصادي، والغذائي، والصحي، والبيئي، والشخصي، والمجتمعي، والسياسي. وعلى الرغم من انتشار هذا المفهوم على نطاق واسع، فإن تعريفه ونطاقه لم يتطورا بشكل جيد.
أهمية الأمن الصحي
واجه الأمن الصحي حول العالم في القرن الحادي والعشرين تحولاً مهماً في تاريخ الصحة العامة. فقد شهد مجال الأمن الصحي تطورات كبيرة تمثلت بـتنامي مخاطر تفشي الأمراض والأوبئة، والحوادث الصناعية والكوارث الطبيعية وحالات الطوارئ الصحية الأخرى على إمكانية أن تتحول بسرعة إلى تهديدات أمنية حول العالم.
بحلول تحديات أمنية جديدة ناتجة عن الزيادة في قابلية الإصابة بالأمراض المعدية العالمية، ظهرت حاجة أكبر للالتزام العالمي والتعاون في سبيل الصحة العامة. حيث أصبحت الأمراض والجائحات وحالات الطوارئ الصحية الأخرى، مصدر قلق متزايداً لصانعي السياسات العالمية والحكومات لما لها من عواقب وخيمة على صحة السكان وتداعيات على الحياة الاجتماعية وإعاقة النشاط الاقتصادي وباقي قطاعات التنمية كالسياحة والتعليم والمواصلات وغيرها.
مجالات الأمن الصحي ومكوناته
الأمراض المستجدة المُعْدية:
وهي الأمراض الناشئة التي تظهر لدى السكان لأول مرة، أو التي ربما كانت موجودة سابقاً، لكن وقوعها أو مداها الجغرافي يتزايد بسرعة، مُتسبِّبة بتداعيات اقتصادية تتجاوز تكاليفها الصحية الفورية وقد تعيق التجارة والسفر أو تُسبِّب حالة ذعر عامة.
الحوادث الكيميائية والمخاطر الإشعاعية
تعتبر أحد أبرز المخاطر التي يواجها الأمن الصحي العالمي، سواء في مناطق النزاع أو في نطاق الحوادث التي تتعرض لها محطات إنتاج الطاقة النووية، وكذلك إتلاف النفايات البتروكيماوية بشكل عشوائي يمكن أن يؤدي إلى كوارث طبيعية وبشرية
العنف والنزاعات وحالات الطوارئ الانسانية
تشكل الحروب والهجمات الإرهابية وكوارث الطبيعة (فيضانات، زلازل، براكين…) والتغيُّر المناخي، أحد أهم التهديدات للصحة العالمية، وأحد أهم الروابط بين الأمن الصحي والأمن البشري.
انعدام الأمن الغذائي
يعتبر إحدى أخطر المشاكل في قطاع الصحة العامة، حيث تواجه الدول منخفضة الدخل مخاطر الجوع وسوء التغذية والأمراض المزمنة وفقر الدم. وفي الماضي، كانت الشواغل تتعلق بالحصول على الغذاء، ونقص الإمدادات، والجوع، ونوعية خدمات الصرف الصحي، غير أن التركيز الأساسي للأمن الغذائي ينصب حالياً على عامل الصحة، أي على نوعية الغذاء في حد ذاته. فيما تنصب اهتمامات الدول الغنية الصناعية على مسألة الاستدامة باعتبارها مجالاً استراتيجياً يتعلق بالأمن القومي.
علاقة الصحة بالأمن الوطني
أمن الدولة لا يتحقق بناء على ما تمتلكه من قدرات عسكرية فقط، وإنما بما تمتلكه أيضاً من مصادر قوة أخرى اقتصادية وسياسية وثقافية وصحية وغيرها.
تشهد الفترة الحالية تطوراً مهماً في مفهوم الأمن الوطني فقد سَرَّعت جائحة (كوفيد-19) من نسق السباق الدولي لتعزيز ما أصبح يعرف بــ ”السيادة الصحية”، ليتحول القطاع الصحي من خدمة عامة إلى أحد مكونات الأمن الاستراتيجي.
هذا التوجه لربط القطاع الصحي بالمجال الأمني لم يأتِ من فراغ، بل فرضه سياق سياسي برز في تسعينات القرن الماضي. فقد أدى الهجوم بغاز السارين عام 1995 وإرسال جراثيم الجمرة الخبيثة في عام 2001 إلى توعية صانعي السياسات في البلدان الصناعية بتعرُّض سكانها للأسلحة الكيميائية والبيولوجية.
وفي جميع الأحوال، نحن أمام مرحلة جديدة سيتطور فيها مفهوم الأمن الوطني، والتركيز على البعد الصحي كمكون جوهري في هذا المفهوم، وستشهد مرحلة ما بعد القضاء على جائحة (كوفيد-19) اهتماماً كبيراً بدعم القطاع الطبي الذي يعاني بالفعل نقصاً في الكوادر والإمكانيات اللازمة لتطويره في الكثير من الدول، وهو ما أسهم في تفشي هذه الجائحة وسقوط الملايين كضحايا لها، ما بين وفيات ومصابين، كما ستشهد هذه المرحلة عملاً مكثفاً من قبل الدول المختلفة على تحصين أمنها الوطني في مواجهة خطر الحروب البيولوجية.
دور جائحة كوفيد ١٩ في صياغة الدور الحيوي للقطاع الصحي
فرضت جائحة كورونا على الحكومات وضع القطاع الصحي على رأس أجندتها للأمن القومي، إذ بدا واضحاً أن العالم لم يكن مستعداً بشكل كافٍ لمواجهة هذا الوباء.
كما أن للأزمة دوراً كبيراً في تأكيد الدور الحيوي للكوادر الطبية، التي تمثل خط الدفاع الأول لكل المجتمعات، وهو ما دفع إلى ظهور مفهوم «الجيش الأبيض»، حيث تقود هذه الكوادر هذه المعركة بكل بسالة، كما يفعل الجنود الشجعان في ميادين الحرب.
ما بعد جائحة كورونا
لا شك في أن الأمن الوطني، كمفهوم وسياسات، يعد أحد أهم المجالات التي قد تشهد تغييرات جذرية في الفترة المقبلة، لا سيما بعد أن انكشفت هشاشة منظومة الأمن الصحي في العديد من الدول المتقدمة التي بدت عاجزة عن التعامل مع هذا الفيروس واحتواء انتشاره السريع، ولهذا فإن مرحلة ما بعد كورونا قد تشهد إعادة النظر في مفهوم الأمن الوطني لتعيد الاعتبار إلى الأمن الإنساني بمفهومه الشامل الذي يتضمن أمن الفرد، والمجتمع، والدولة معاً، وتضع الأمن الصحي في مقدمة الأولويات التي ينبغي على جميع دول العالم إدراجها ضمن سياسات الأمن الوطني الشامل.
من المهم صياغة رؤية نافذة في كيفية تطوير البرامج اللازمة لمواجهة هذه التحديات، واتباع أساليب متعددة التخصصات وتوفير موارد أساسية لتنفيذ الإجراءات الصحية الفعالة. ومبادرات تطوير الكشف عن الأمراض والوقاية منها والتصدي للأمراض المعدية عبر مراقبة الصحة العامة والشراكات بين الدول، فنحن بالفعل أصبحنا نعيش في قرية صغيرة، يمكن أن تنتشر فيها الأمراض والأوبئة بسهولة، ولا يمكن مواجهة هذه المخاطر دون تعاون وتكاتف دولي فاعل ودعم المؤسسات والمنظمات الدولية المعنية بقضية الصحة.
وأخيراً، نستذكر مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ال مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي “رعاه الله”: “بقي العالم لسنوات يتجادل.. من يقود الآخر، هل تقود السياسة الاقتصاد؟ أم الاقتصاد يقود السياسة؟ من العربة ومن الحصان؟ واكتشفنا في زمن كورونا أن الحصان وعربته تحملهما الصحة وتقودهما مرغمين حيث تريد، وأن السياسة والاقتصاد يتقزمان أمام فيروس يجعل دهاة العالم في حيرة وخوف وتيه”.
الدكتورة بدرية الحرمي، استشاري الصحة العامة، جمعية الإمارات للصحة العامة