تكتسي قصص التجسس في مختلف أنحاء العالم بطابع الإثارة والغموض، فما أن يبدأ الحديث عن عالم الجاسوسية يطغى الحماس ويزيد الاهتمام بهذا الأسلوب الأمني لما يحويه من أسرار وفنون مبتكرة ومتطورة غيرت وجه البشرية وموازين القوى في جميع المجالات على مر العصور. وتُجمع الكتب المتخصصة في المجال العسكري على أن عالم التجسس والاستخبار نشأ منذ زمن بعيد عندما أدرك الباحثون عن السلطة والحكم في مختلف بقاع العالم أن خسائر الحروب كبيرة جداً، وكان لا بد للمحاربين والجيوش من توظيف ثاني أقدم مهنة في العالم في مهامهم الحربية للتقليل من خسائرهم ورفع فرص نصرهم. وقد تطورت أساليب وأدوات التجسس بشكل كبير، وأصبح عنصر الابتكار والخروج عن المألوف عاملاً حاسماً في نجاح أي مهمة تجسسية، لأن عنصر السرية يعد أمراً مهماً للغاية في هذه الوظائف بمختلف أنواعها البشرية والحيوانية والتقنية.
وكانت الجيوش المحاربة قديماً تعتمد بصورة كبيرة على العديد من الحيوانات في تنفيذ مهامها العسكرية، وفي الوقت الراهن ومع تعاظم التطورات التكنولوجية في المجال العسكري قل الاعتماد على الحيوانات في هذا القطاع ولكن مازال بعضها يلعب دوراً مهماً في العديد من جيوش العالم. ولعل استخدام الحيوانات لتأدية المهام التجسسية العسكرية بدلاً من البشر، خير دليل على أهمية وخطورة هذه المهام العسكرية التي تساهم في رسم خريطة القوى العالمية.
الصقر «هدسون»
تتعدد القصص والروايات التاريخية والتقارير الحديثة التي تتحدث عن استخدام الحيوانات في التجسس، ففي ديسمبر الماضي 2019 تحدثت تقارير إعلامية عن صقر جارح أثار الجدل بين موظفي وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، حيث يصل صباح كل يوم خلال الساعات الأخيرة من دوام موظفي الوكالة، ويقف على درج مقابل لمقر الاستخبارات ويبدأ بمراقبتهم لنحو ساعة وهم يضعون اللمسات الأخيرة على تقارير سرية لوكالة الأمن القومي.
وتقول التقارير إن بعض الموظفين ظنوا في البداية أن هذا الطائر المريب ربما يكون مزوداً بأجهزة للتجسس، ولكن تبين بعد ذلك أنه صقر طبيعي، كما أشارت التقارير إلى أن مقر وكالة الاستخبارات محصن بشكل كبير ويمكنه إحباط محاولات التجسس حتى لو كانت عن طريق الطيور. وقد أطلق على الصقر اسم هدسون تيمناً بمحلل سابق في مقر وكالة الاستخبارات الأمريكية.
ويبدو أن تاريخ توظيف الطيور في الحروب ونقل الرسائل والتجسس هو ما دفع بعض موظفي وكالة الـCIA للاعتقاد بأن الصقر هدسون طائر تجسس. وكثيراً ما تثير الطيور حالة من الريبة لدى أجهزة الاستخبارات في مختلف دول العالم، ففي عام 2013، احتجزت السلطات المصرية طائر لقلق للاشتباه فيه. لكن تبين أن الطائر بريء، وأن علماء فرنسيين وضعوا فيه أجهزة خاصة لتتبع حركات الطيور.
طيور التجسس
وفي الحرب العالمية الثانية كان يتم تثبيت كاميرات صغيرة على الحمام الزاجل لتصوير المناطق المعادية والتعرف على بعض المواقع مثل القواعد الجوية والمعسكرات المعادية، كما كانت الغربان تلعب دوراً كبيراً في عمليات التجسس، فيما كانت تجرى تجارب مهمة على أنواع مختلفة من الطيور المهاجرة والخفافيش والبوم والببغاوات وذلك لتطوير عمليات التجسس.
وفي سبتمبر الماضي 2019، كشفت وثائق نشرتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أن واشنطن قامت بعمليات تجسس على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة مستخدمة طيوراً وحيوانات برية وبحرية.
وأشارت الوثائق الأمريكية، إلى أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية حاولت إطلاق حمام محمل بالكاميرات من السفارة الأمريكية في موسكو بغرض التجسس، كما درست إطلاق الطيور من فتحات مخصصة من داخل السيارات بالقرب من الأماكن الحساسة للتجسس على المواقع العسكرية للاتحاد السوفييتي آنذاك.
ونشر موقع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية صورة لحمامة تم تثبيت كاميرا على صدرها تزن 35 غراما بحبل لا يتجاوز وزنه 5 غرامات، ويبدو أنها جهزت للطيران فوق أماكن روسية حساسية.
حيوانات برية وبحرية
كما لجأت الولايات المتحدة إلى الدلافين والقطط والكلاب لجمع معلومات استخباراتية عن “العدو”، في إشارة إلى الاتحاد السوفييتي، حيث جرت محاولات لاستخدام نوع من المحفزات الكهربية للمخ لإرشاد الكلاب عن بعد، ورغم ذلك فإن العديد من هذه المحاولات مازالت سرية. وكانت هناك عملية سابقة أطلق عليها «أكوستيك كيتي» تضمنت زرع أجهزة تنصت داخل قط.
وبحلول عام 1967 كانت الاستخبارات الأمريكية قد أنفقت أكثر من 600 ألف دولار على ثلاثة برامج لتدريب الحيوانات والطيور وهي Oxygas للدلافين، و Axiolite للطيور، و Kechel للقطط والكلاب.
وأظهرت الصور التي نشرتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية استخدام الدلافين في التجسس حيث تظهر إحدى الصور دولفيناً يحمل سترة بيضاء تم تثبيتها حول جسده، وتحمل جهازاً يستخدم على ما يبدو، في تتبع السفن واكتشاف الغواصات السوفييتية في أعماق البحار. وعلى الرغم من أن برنامج التجسس الأمريكي باستخدام الحيوانات قد أطلق في العام 1960 بشكل تجريبي، فإنه لم يتم تطبيقه بعدما تبين أنه غير مجد، وذلك وفق وثيقة تتعلق بالاختبار الميداني للبرنامج يعود تاريخها للعام 1976.
وفي منصف العام الماضي 2019، كشف خبراء بحريون في النرويج عن تحويل روسيا مجموعة من الحيتان إلى سلاح، حيث يمكن استخدامها كقوة للعمليات الخاصة والتجسس، وتم الإمساك بحوت أبيض مزود بطوق بالقرب من ساحل قرية «إنغا» النرويجية، بعدما لفت الأنظار إليه بالهجوم على مجموعة من قوارب الصيد وحاول شد الأحبال الموجودة بها، ووجدت عبارة «جهاز سانت بطرسبورغ» على الطوق الذي كان يحيط بالحوت والذي بدا ككاميرا أو سلاح، الأمر الذي نفته موسكو.