لسنوات طويلة، كان يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره نموذجاً للتكتل الإقليمي الناجح، خاصة بعد التوسع الكبير الذي حققه( 28 دولة،( لكن تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد في عام 2016، قد أثار التساؤل بقوة حول مستقبله. وعلى الرغم من تعثر خروج بريطانيا من الاتحاد، لسنوات، بسبب الخلافات حول شروط الخروج، فإن الفوز الكبير الذي حققه حزب المحافظين بزعامة بوريس جونسون في الانتخابات التي أجريت في ديسمبر 2019، قد منحت تفويضاً كبيراً لجونسون للخروج من الاتحاد بحلول 31 يناير 2020، خاصة أنه حقق أكبر انتصار لحزب المحافظين منذ فوز مارجريت ثاتشر عام 1987، بحصوله على 365 مقعداً.
يمثل خروج بريطانيا من الاتحاد ضربة ليست بالهينة له بالنظر إلى الثقل الذي تمثله فيه على المستويين الاقتصادي والسياسي؛ حيث يعني خروجها فقدان الاتحاد 12.5% من سكانه، ونحو 15% من قوته الاقتصادية، فضلاً عن فقدان 73 مقعداً في البرلمان الأوروبي. كما أن انسحاب بريطانيا سوف يؤدي إلى تشكيل محور تجاري بريطاني – أمريكي عبر الأطلسي مناوئ للاتحاد الأوروبي، بشكل أو بآخر، ما سيؤثر بالسلب على العلاقات بين الاتحاد والولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى أن وجود بريطانيا داخل الاتحاد كان يخفف من الموقف الأمريكي المضاد له.
وكشف استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا “بريكست”، أن الموقف السلبي من الاتحاد لا يتوقف على بريطانيا فقط، وإنما يمتد إلى بعض الشعوب الأوروبية الأخرى، حيث أظهر استطلاع رأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث في يونيو 2016، أن غالبية الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع لا يؤيدون الاتحاد الأوروبي، وبلغت نسبتهم في اليونان 71 في المئة وفي فرنسا 61 في المئة، وانخفضت نسبة التأييد الشعبي للاتحاد في فرنسا إلى 17%، من عام 2015 إلى العام 2016، وانخفضت النسبة بمقدار 16 نقطة مئوية في إسبانيا خلال نفس الفترة، وفي إيطاليا انخفضت بنسبة 6%.
ولا تتوقف التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي عند هذا الحد وإنما تمتد إلى جوانب عديدة أخرى لعل أهمها:
١- صعود التيارات الشعبوية في العديد من الدول الأوروبية، بما تتبناه من مواقف مضادة للاتحاد الأوروبي، بسبب توجهاتها التي تركز على الوطنية الضيقة. وقد نجح العديد من هذه التيارات في الدخول إلى البرلمانات الأوروبية وهذا ساعد على التواصل والتنسيق بين قادتها داخل مؤسسات الاتحاد، ومن هؤلاء مارين لوبن، زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا، التي أعلنت أكثر من مرة رغبتها في خروج فرنسا من الاتحاد، وتنظيم استفتاء مشابه لـ”بريكست”في حال وصولها إلى قصر الإليزيه، وخيرت فيلدر زعيم حزب الحرية في هولندا الذي يدعو الى خروج بلاده من الاتحاد.
٢- اتساع الخلافات بين دول الاتحاد بشكل كبير حول الكثير من القضايا، ولعل هذا ما بدا خلال السنوات الماضية حول قضايا الهجرة بشكل خاص، فضلا عن العلاقة مع روسيا، وقضايا السياسة الخارجية بشكل عام، وربما هذا ما دفع وزير خارجية لوكسمبورج في يوليو 2018 إلى القول إن الاتحاد معرض للخطر لأن دولاً فيه لم تعد حريصة على قيم التضامن فيما بينها.
٣-موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعادي للاتحاد الأوروبي والمشجع على انفصال بريطانيا عنه، حيث يريد ترامب التعامل مع الدول الأوروبية منفردة وليس ضمن تكتل، حتى يمكنه ممارسة الضغط عليها في المفاوضات التجارية. وخلال زيارته إلى بريطانيا في يونيو 2019، حثها على الانسحاب من الاتحاد دون اتفاق، وأكد استعداده لعقد اتفاق تجاري وتحالف اقتصادي أقوى معها، بل وشجعها على عدم دفع المستحقات المالية للاتحاد الأوروبي.
٤- يذهب البعض إلى أن التوسع الكبير للاتحاد الأوروبي، خاصة بضمه الكثير من دول أوروبا الشرقية، كان أحد أسباب ضعفه ويمكن أن يكون أحد مصادر تفككه، بعد أن كان يُنظر إليه على أنه أحد مظاهر قوته، وذلك بالنظر إلى اختلاف القيم بين دول أوروبا الغربية ودول أوروبا الشرقية، واعتقاد هذه الأخيرة إنها لا تُعامل بندية من قبل دول أوروبا الغربية في الاتحاد.
وفي ضوء ما سبق، قدمت المفوضية الأوروبية ورقة في مارس 2017 حول مستقبل الاتحاد الأوروبي تضمنت عدة سيناريوهات هي: الاستمرار بالشكل الحالي، والعودة لصيغة السوق المشتركة (تكتل تجاري فقط)، تحالفات الراغبين؛ بمعنى تحول الاتحاد إلى تكتلات فرعية تضم كل منها الدول المتشابهة والقادرة على العمل معاً، ونسبية التعاون؛ بمعنى توسيع التعاون في المجالات محل الاتفاق وتقليلها في المجالات محل الخلاف، وتطوير الاتحاد وتعزيز التعاون بين دوله.
لا شك في أن الاتحاد الأوروبي يواجه بمشاكل معقدة، ساهمت في فقدانه للزخم الذي ميزه لسنوات طويلة، ما ينال من قوته وتأثيره على الساحة الدولية، لكن لا يُتوقع أن يؤدي خروج بريطانيا منه، إلى تفككه، بالنظر إلى الاعتبارات التالية:
• إن بريطانيا كان لها وضع خاص داخل الاتحاد الأوروبي، حيث لم تكن مندمجة بشكل كامل فيه لم تكن ضمن العملة الأوروبية الموحدة، وكانت أقرب إلى الولايات المتحدة على الدوام منه إلى الاتحاد الأوروبي.
• هناك دول أوروبية لديها حرص كبير على بقاء الاتحاد الأوروبي وتماسكه مثل فرنسا وألمانيا. وهذه الدول سوف تتعاون بشكل كبير من أجل الحفاظ على الاتحاد خلال الفترة القادمة. وفي هذا السياق يتبنى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون توجهاً داعياً إلى تطوير الاتحاد الأوروبي وتفعيله وإصلاحه، وهو ما عبر عنه في مقال نشرته عدة صحف أوروبية في مارس 2019 بقوله “لا يمكننا السماح للقوميين الذين ليس لديهم حلول باستغلال غضب المواطنين”، وقدم العديد من المقترحات الإصلاحية للاتحاد مثل إنشاء وكالة أوروبية لحماية انتخابات الدول الأعضاء من الهجمات الإلكترونية والتلاعب، وفرض حظر على تمويل الأحزاب السياسية من قبل قوى أجنبية، وتجريم خطاب الكراهية عبر الإنترنت، وإصلاح منطقة شنجن لحرية التنقل، وغيرها.
• ثمة من يرى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يؤدي إلى اتساع الإحساس بالخطر على مستقبل الاتحاد، ما سيدفع الى مزيد من التضامن والوحدة بين دولة، وليس العكس.