في الوقت الذي يمثل فيه وباء كورونا محنة معقدة ومركبة في العالم كله، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة لم تنظر إليه من هذا الجانب فقط، وإنما رأت فيه، إلى جانب المحنة، منحة وفرصة يمكن أن تستفيد منها في الكثير من المجالات. وفي هذا السياق يأتي إعلانها في مطلع شهر مايو 2020 عن التوصل لعلاج يسهم في الحد من أعراض الفيروس، طوره «مركز أبوظبي للخلايا الجذعية» ويتضمن استخراج الخلايا الجذعية من دم المريض وإعادة إدخالها بعد تنشيطها.
وقد مثل العلاج إنجازاً حضارياً كبيراً للدولة، ومن هنا جاء توجيه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، التهنئة إلى شعب دولة الإمارات والمقيمين على أرضها، بهذه المناسبة، مؤكدين «أن دولة الإمارات تولي حياة الإنسان وصحته وسلامته أهمية قصوى، وتضعه على قمة أولوياتها وخططها».
على الرغم من إن الإعلان عن هذا العلاج ارتبط بظروف محددة تتعلق بوباء كورونا، فإنه لم يكن وليد اللحظة أو حتى من باب التجاوب السريع المعهود من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، مع مشكلة عالمية أرقت حكومات دول متقدمة وصلت في البحث العلمي والابتكار التكنولوجي ما وصلت وحققت فيه من الإنجازات ما حققت، ولكن المتأمل في هذا الإنجاز العلمي الكبير لدولة عربية فتية آلت علي نفسها أن تسير وفق رؤية ثاقبة لقيادة حكيمة وخطط استراتيجية مدروسة ومحددة لوضع تلك الرؤية موضع التنفيذ، يدرك أن هذا الإنجاز كان نتاجاً طبيعياً للخطط والرؤى الاستراتيجية التي تبنتها الدولة على مدى العقود الماضية، والجهد الكبير الذي تم بذله لسنوات طويلة، وتجسيداً لمضامين وأهداف رؤية الإمارات 2021، التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، في عام 2010. 3 تلك الرؤية التي تستلهم آفاقها من برنامج العمل الوطني الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، واعتمده أصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات، والتي ضمت ستة محاور وطنية تمثل القطاعات الرئيسية التي يتم التركيز عليها في العمل الحكومي ومن بينها القطاع الصحي.
وفي نفس العام (2010) جاءت مبادرة إنشاء أول كيان بحثي وعلاجي بواسطة زراعة الخلايا الجذعية في الشرق الأوسط من جانب شركة «إم إس سي» المتخصصة في التوريدات الطبية لتكون دولة الإمارات العربية المتحدة مؤهلة لريادة المنطقة العربية في مجال العلاج بواسطة الخلايا الجذعية، 5 إضافة لكونها أول دولة عربية اهتمت بذلك القطاع الصحي المهم بعد إنشائها أول مركز متخصص بدبي في تخزين دم الحبل السري بالمنطقة عام 2006 بطاقة تخزين تبلغ 10 آلاف عينة، حيث تم استخدام عدد كبير منها في إجراء عمليات الخلايا الجذعية.
ولا يمكن فصل هذا الإنجاز عن رؤية دولة الامارات العربية المتحدة الاستراتيجية الواضحة والشاملة لتشجيع البحث العلمي والابتكار، والتي تتضح في أكثر من مظهر أهمها: رؤية الإمارات 2021 التي هدفت لأن تكون دولة الإمارات من أفضل دول العالم بحلول عام 2021، وتؤكد الرؤية تحت عنوان: متَّحدون في المعرفة، على: اقتصاد معرفي وتنافسي، مدفوع بالابتكار والبحث والعلوم والتكنولوجيا، بقيادة كفاءات إماراتية ماهرة، حيث توظف الدولة كافة الطاقات الكامنة لرأس المال البشري المواطن، عبر تعظيم مشاركة الإماراتيين، وتشجيع الريادة، وبناء القيادات في القطاعين الحكومي والخاص، وجذب أفضل الكفاءات والحفاظ عليها.
وإضافة لرؤية الإمارات 2021، هناك «أجندة الإمارات للعلوم المتقدمة 2031»، و»منصة الإمارات للمختبرات العلمية» التي أطلقت عام 2018 وتعمل على ربط المختبرات في الدولة بالعلماء والخبراء، وتضم المنصة 6 من أكبر المؤسسات البحثية في دولة الإمارات وهي: مركز محمد بن راشد للفضاء، وجامعة خليفة، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، والجامعة الأمريكية في الشارقة، ودائرة الطاقة – أبوظبي، والمركز الدولي للزراعة الملحية ICBA كما أن هناك كذلك: الاستراتيجية الوطنية للابتكار، وسياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وصندوق محمد بن راشد للابتكار، ومرصد المُستقبل، وغيرها.
دلالات ومعان عميقة
ينطوي إعلان وزارة الاقتصاد عن منح براءة الاختراع للطريقة المبتكرة التي يتم بها جمع الخلايا الجذعية والتي قام بتطويرها فريق من الأطباء والباحثين في مركز أبوظبي للخلايا الجذعية، على العديد من المعاني والدلالات المهمة لعل أهمها:
1
هذا التطور بمثابة إعلان واضح وقوى يثبت أن دولة الإمارات العربية المتحدة تلعب دوراً مهماً في السياسة الصحية العالمية وتضع لنفسها موضع قدم مهم في مجال الابتكارات العلمية الصحية يتضافر مع الجهود الدولية الحثيثة للحد من انتشار هذا الفيروس الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له من قبل من ناحية آثاره وتداعياته الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
2
كما سيساهم العلاج الجديد في تعزيز مكانة الدولة لتكون نموذجاً عالمياً في الرعاية الصحية وإنتاج العلاجات الطبية. ولا شك في أن الاهتمام الإعلامي الكبير على المستوى العالمي بهذا العلاج، قد عزز من اسم دولة الامارات العربية المتحدة في العالم وقدم صورة إيجابية عنها، لدى الرأي العام الدولي.
3
من خلال هذا الإنجاز الصحي، لم تقدم الإمارات صورة إيجابية عنها هي فقط في العالم، وإنما عن العالم العربي كله. حيث إن الصورة النمطية المأخوذة عن المنطقة العربية في أذهان شعوب العالم، هي أنها منطقة صراعات ومشاكل وتطرف وغيرها من المظاهر السلبية الأخرى، لكن دولة الإمارات دائماً ترسل إلى العالم رسائل إيجابية عن المنطقة، في مجال التطور الحضاري والتنموي. ولهذا يمكن القول إن العالم العربي كله يفخر بهذا الإنجاز، وأن ما تحقق هو إنجاز عربي بتخطيط وتنفيذ إماراتي.
4
سيكون لهذا العلاج أثر إيجابي بعيد الأمد على استراتيجية دولة الإمارات الهادفة إلى بناء اقتصاد قائم على المعرفة؛ حيث تؤمن الدولة أن المعرفة هي المصدر الرئيسي للثروة، ومن هنا تعمل على امتلاك هذه المعرفة وتوطينها وعدم التوقف عند استيرادها فقط، ليس في المجال الصحي، فحسب وإنما في مختلف المجالات الأخرى.
5
يؤكد هذا العلاج أمراً أساسياً هو أن دولة الإمارات تسعى إلى التقدم والتطور ليس بالمعايير العربية أو الإقليمية فقط، وإنما بالمعايير العالمية، ولديها الثقة في ذاتها التي تجعلها مستعدة لمنافسة الدول الكبرى والتفوق عليها في الكثير من المؤشرات والجوانب، بما في ذلك الجوانب العلمية الدقيقة والمتخصصة.
6
التوصل إلى هذا العلاج يعبر عن الموقع المتميز لقطاع الصحة ضمن استراتيجية التنمية في دولة الامارات العربية المتحدة، وهو ما يتضح من النسبة الكبيرة التي يتم تخصيصها لقطاع الصحة في الميزانية الاتحادية كل عام، كما يتضح من الأشكال الجرافيكية المرفقة أعلاه: 8
وعلى الرغم من حداثة مركز أبوظبي للخلايا الجذعية (ADSCC)، بوصفه مركزاً متخصصاً للرعاية الصحية والبحوث المتطورة على الخلايا الجذعية، إلا أن نتائج التجارب السريرية التي أجريت على المصابين بفيروس كورونا المستجد والتي أظهرت نجاعة العلاج في عشرات الحالات تثبت أن هذا المركز ولد عملاقاً وأنه تطور طبيعي ومثمر لرؤية الإمارات 2021 في مجال الرعاية الصحية وتطبيق عملي لاستراتيجيتها في التعامل مع الأوبئة والمخاطر الصحية المستجدة، الأمر الذي استحوذ على اهتمام العديد من محطات التلفزيون ووكالات الأنباء العالمية التي تناولت في تقاريرها الإخبارية وتحليلاتها الصحفية هذا الإنجاز العلمي الكبير واعتبرته مساهمة مهمة في الجهود العالمية لمكافحة وباء كورونا، يضاف إلى ما سارعت إليه دولة الإمارات العربية المتحدة من إجراءات وقائية للحد من انتشار الفيروس تطبيقاً لبروتوكولات الوقاية والعلاج المعتمدة من منظمة الصحة العالمية، والمتمثلة في البقاء في المنزل، والتباعد الاجتماعي، وتدابير الوقاية من العدوى ومكافحتها من خلال تبني نظام التعليم والعمل عن بعد والذي يسهم بقدر كبير في الحد من العدوى وانتشار الفيروس، حيث أثبتت الدولة بما تمتلكه من بنية تكنولوجية متطورة قدرتها الواضحة على التعامل مع تلك الظروف المستجدة، الأمر الذي قلل إلي حد كبير من تأثيرات هذا الفيروس الاقتصادية والاجتماعية خاصة في مجالي العمل والتعليم.
ولا شك في أن النتائج المشجعة التي توصل إليها مركز أبوظبي للخلايا الجذعية والحالات الإيجابية التي ثبت شفاؤها باستخدام هذا العلاج المطور هي خطوة في طريق التنمية المستدامة التي تنتهجها دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي يأتي علي رأس أولوياتها صحة وسلامة الإنسان الذي هو هدف التنمية ووسيلتها في ذات الوقت، ومن خلاله يترسخ دور الإمارات البارز وحرصها على المساهمة في مجال البحث والتطوير لمعاضدة الجهود العالمية لحماية الإنسانية من هذا الوباء الخطير.
» أ.د/ إمام حسنين خليل عطاالله )أستاذ القانون – جامعة زايد(