في الكثير من الجيوش، عادة ما تكلف قيادة قوات الاحتياط بمهام في وقت السلم ووقت الحرب على حد سواء. فتتولى قيادة قوات الاحتياط على سبيل المثال في وقت السلم تنظيم وحدات الاحتياط وتدريبها، وتجنيد عناصر جديدة، وإعداد خطط التعبئة واعتمادها وتنفيذها. وحيث أن الهدف هو الحفاظ على قدرات الجيش على تعبئة قوات الاحتياط لديه بسرعة وتحت أي ظروف. لذا لا تقتصر التعبئة على مجرد استنفار القدرات العسكرية الكامنة، بل تمثل مجهوداً دفاعياً وطنياً شاملاً له آثاره على كامل الكتلة السكانية للدولة.
كما تتضمن التعبئة التخطيط لدمج وحدات الدفاع المدني والمتعاقدين المدنيين في العمليات العسكرية والإعداد لتجهيز المرافق الصناعية الدفاعية، والبنية التحتية الحيوية، وشركات الدفاع المدني ذات الصلة. أما في وقت الحرب، فتتولى قيادة قوات الاحتياط مسؤولية توفير ألوية قوات احتياطية معبأة لقادة العمليات.
وعلى مدى العقدين الماضيين، طورت الكثير من الجيوش الكبرى، خصوصاً الغربية منها، قدراتها التكنولوجية، ظناً منها أن ذلك وحده قد يضمن لها درجة عالية من الهيمنة على خصومها، مما أدى إلى تحول التركيز نحو زيادة استخدام التكنولوجيا باهظة الثمن وتقليل الاعتماد على العنصر البشري، متناسية دوره الرئيسي في التفوق التشغيلي للجيوش، فلن يكون هناك نصر ممكن بدون العنصر البشري وبكثافة.
تناقش هذه الدراسة كيف يتم توظيف جنود الاحتياط في الحروب الحديثة، وذلك من خلال نموذج الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، ثم تُبرز الدراسة أهم الدروس المستفادة منها، وفي نهايتها تعرض الدراسة أهم خيارات الجيوش لتنظيم واستخدام جنود الاحتياط.
توظيف جنود الاحتياط في الحروب الحديثة: الحرب الروسية الأوكرانية نموذجاً
بما أن الحرب الروسية الأوكرانية هي أحدث حروب عالمنا المعاصر، فيمكن للمقارنة بين توظيف جنود الاحتياط في الجيشين الروسي والأوكراني أن تكون مصدراً مهماً لاستخلاص أهم خيارات الجيوش لتنظيم واستخدام جنود الاحتياط في الحروب الحديثة.
بداية، يجب الإشارة إلى أن كليهما قد نهل من الثقافة السوفييتية قي توظيف جنود الاحتياط في الحروب، وفي القلب منها التجييش الجماهيري، وكيفية دمج أكبر عدد ممكن من المدنيين في الجيوش وقت الحروب بأسرع وقت ممكن. وبمرر الوقت، ونظراً لتفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال أوكرانيا عنه في بداية تسعينات القرن الماضي تمايز النموذجان.
قبل عام 2014، كان توظيف الاحتياطي الأوكراني متواضعاً، حيث كان لا يعتمد على الكم، بل يعتمد على شريحة محدودة من جنود الاحتياط، ولكنها شريحة مؤهلة تأهيلاً عالياً، وذلك تماشياً مع النهج الغربي. ولكن بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم تغير الأمر وتطور ليصل إلى محاولة تجييش كافة المواطنين القادرين، وذلك للوصول لما يسمي «أمة مسلحة».
وفيما يتعلق بالجيش الروسي، أدت الصعوبات التي واجهها في جورجيا في عام 2008 إلى إصلاحات تنظيمية عميقة في توظيف جنود الاحتياط تركزت في إعطاء الأولوية لنوعية وتكوين الجنود على أعدادهم.
وتشير الدراسات في هذا المضمار إلى أن تلك السياسات الجديدة من جانب الجيشين لم تتمكن من تحقيق أهدافها بالكامل قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة عام 2022، .
في نهاية هذا الجزء من الدراسة، يمكننا القول إنه في حين يستهدف الكرملين إبقاء المدنيين الروس بعيداً عن الصراع من أجل الحفاظ على دعمهم له، تسعى الحكومة الأوكرانية لتجييش الأمة الأوكرانية بأكملها في معركة الدفاع عن أراضيها. وقد أدى ذلك إلى استراتيجيات مختلفة لتوظيف جنود الاحتياط. وعلى الرغم من أوجه القصور الأساسية مثل نقص المعدات وضعف التدريب، فقد عززت قوات الاحتياط الأوكرانية الجيش الأوكراني بقدرات مناورة حاسمة في كثير من الأحيان، وقد لعب بعضها دوراً حيوياً في وقف أو إبطاء تطور الهجوم، وذلك بزيادة قوتها مع تطور الحرب.
أهم دروس الحرب الروسية الأوكرانية في توظيف جنود الاحتياط
1 - المستوى التنظيمي
قبل وقت طويل من هجوم عام 2022، أنشأت كل منطقة (إقليم) مكاتب تجنيد ضمن هياكلها الإدارية، بالإضافة إلى شبكة من مراكز الاستدعاء المسؤولة عن استيعاب تدفق المتطوعين وجنود الاحتياط. وقد وفرت هذه الشبكة، القائمة على السلطات المحلية، رابطاً قوياً ووثيقاً مع المجتمع المدني برمته، مما ساعد على انخراط المتطوعين بسرعة وفعالية في الخدمة العسكرية. على الرغم من وجود تلك الهياكل، لم يتم تدريب الرجال أو تجهيزهم بشكل مناسب. فعندما بدأ الهجوم، كانت قوات الدفاع الأوكرانية لا تزال في طور تدريب وتجهيز نواة قوامها 10.000 من جنود الاحتياط. وكانوا يفتقرون إلى التدريب الأساسي، وتنقصهم معدات الاتصال، والحماية الفردية والمركبات.
ومع ذلك، حتى لو لم تكن هذه الوحدات بالضرورة مناسبة تماماً للاندماج في الجيش الأوكراني، إلا أنها ساعدت بمرور الوقت في نجاح التصدي للهجوم الروسي على الجبهة الشمالية نحو كييف، وأيضاً في منطقة سومي، تشيرنيهيف، خاركيف، لوهانسك، دونيستك، زابوريجيا وميكولايف.
ومع ذلك، فإن البنية العسكرية الفعالة المندمجة بشكل جيد في المجتمع المدني الأوكراني لم تخل من العيوب: لقد أثر ذلك سلباً في مركزية القيادة، ففي نهاية عام 2021، لم يكن لدى قيادة الاحتياط الأوكراني تسلسل قيادي عملياتي متكامل واحد، فلقد اعتمد على وزارة الداخلية وعلى الإدارات المحلية. وكان من المقرر الانتهاء من توحيد قيادة الألوية الإقليمية بموجب أوامر رئيس أركان الجيش الأوكراني في يناير 2022، أي قبل الهجوم الروسي مباشرة. في بداية الهجوم الروسي، كان الاتصال والتنسيق مع الوحدات العسكرية النظامية أقل من المثالي. أدى هذا إلى تباطؤ قدرة الجيش الأوكراني على تنسيق عمل وحدات الاحتياط التي تم توظيفها بعد ذلك بحكم الأمر الواقع بطريقة مستقلة ولا مركزية في الميدان. وفي حين أن هذا وفر قدراً كبيراً من المرونة والصمود، إلا أنه في المقابل شتت الجهود. استغرق الأمر عدة أشهر قبل أن يتم دمج وحدات الاحتياط الأوكرانية بشكل كامل في خطط وعمل الجيش الأوكراني. وهذا درس مهم للجيوش الغربية في أهمية وحتمية سلسلة القيادة والسيطرة لجنود الاحتياط.
2 - المستوى التكتيكي
كان التحدي الذي يواجه الجيش النظامي هو الحفاظ على الجبهة في انتظار وصول وحدات الاحتياط. فحتى لو لم تكن جاهزة للعمل بكامل طاقتها، كان على الجيش الأوكراني إشراك وحدات الاحتياط الأوكرانية على الجبهة لتفادي الانهيار. وأثبتت تلك القوات في أحيان كثيرة قدرتها على المشاركة فوراً في قتال عالي الكثافة، وثانياً قدرتها الكبيرة على التكيف والتعلم مع تطور ميدان المعارك. إحدى نقاط القوة الرئيسية لتعبئة جنود الاحتياط الأوكرانيين تمثلت في قدرة القادة العسكريين على الاعتماد على الخلفية المدنية لهؤلاء المقاتلين الجدد، مما سمح بمبادرات مبتكرة ومتنوعة على المستويات التكتيكية لم تكن متاحة تقليدياً داخل الهياكل العسكرية. على سبيل المثال، طور جنود الاحتياط برامج لحساب نيران المدفعية على الأجهزة اللوحية وتم توزيعها على القوات الأوكرانية.
3 - مستوى التوازن بين العنصر البشري والتكنولوجيا العالية
من أهم دروس الحرب الروسية الأوكرانية أنه لا يمكن التضحية بكثافة العنصر البشري ولا بالتكنولوجيا العالية، وأنه يجب ضبط التوازن بين كثافة العنصر البشري والتكنولوجيا وفقاً لسياق تحدياتها الأمنية والعسكرية.
4 - مستوى التخطيط الاستراتيجي
الاستثمار في قوات الاحتياط باعتبارها أداة من أدوات الردع، وذلك بإصلاح منظومة التجنيد التي تشكل أساس نظام قوات الاحتياط وزيادة ميزانية التعبئة، ومن خلال تدريبات متواكبة مع بيئة التهديدات المتغيرة وتوسيع نطاق قوات الاحتياط وتكليفها بواجبات متنوعة والتعلم من النماذج الملهمة.
أهم خيارات الجيوش لتنظيم واستخدام جنود الاحتياط
تستند الخيارات التالية إلى الدروس المستفادة التي سبق عرضها في تلك الدراسة.
الخيار الأول: احتياطي عملياتي مدرب تدريباً عالياً
منذ الاشتباكات الأولى في صراع شديد الحدة، تكبد الجيشان الروسي والأوكراني خسائر فادحة يصعب تقديرها وللتعويض عن بعض هذه الخسائر، طعَّم الجانبان جيشيهما بوحدات الاحتياط المخصصة لتعويض وتجديد قواتهما، كما كان مخططاً له، ثم قاما بإجراء التعديلات المناسبة على نظام الاحتياط لتتكيف مع مقتضيات ومتغيرات الحرب بينهما.
للتمكن من تجديد أو تعزيز القوات العملياتية، فإن الخيار الأول هو إذاً إنشاء احتياطي عملياتي مدرب تدريباً عالياً ومجهزاً، يسهل دمجه مباشرة داخل الوحدات القتالية. ويبقى أن القيد الرئيسي أمام هذا النموذج هو نقص المعدات، فهذا الخيار لا يسمح بزيادة القدرة على المناورة، ولكن فقط بالحفاظ على القدرة القتالية للوحدات المشاركة بالفعل.
الخيار الثاني: قوات احتياط قادرة على القيام بمناورة جماعية مستقلة
وبناء قوات احتياط قادرة على القيام بمناورة جماعية في وقت قصير لدعم الوحدات النظامية العاملة أو تعزيزها أو التخفيف من الضغط عليها. وخلافاً للخيار الأول، يجب أن تكون هذه الوحدات قادرة على الاشتباك بشكل مستقل مع إمكانية دمجها في سلسلة القيادة فيما بعد.
الخيار الثالث: احتياطي عسكري يغطي كامل التراب الوطني
وذلك ببناء «أمة مسلحة»، يربط في سياقها المدنيون حياتهم المهنية والشخصية بالتزامهم بحماية بلدهم والدفاع عنها.
ومما لا شك فيه أنه ليس هناك خيار أفضل من الآخر، ولكن السياق هو الذي يحدد الخيار الأمثل، كما لكل خيار نقاط قوته ونقاط ضعفه.
خاتمة
مَثَّلَ الصراع الروسي الأوكراني منعطفاً في استخدام قوات الاحتياط من قبل الدول الأخرى. على سبيل المثال، حددت فرنسا هدفاً يتمثل في وجود جندي احتياطي واحد لكل جنديين عاملين. بمعنى آخر، 100.000 جندي احتياطي لجيش عامل قوامه 200.000 جندي. هذا الهدف عرضه وزير القوات المسلحة، سيباستيان ليكورنو، خلال فريق عمل يوم 21 نوفمبر 2022 لإعداد قانون البرمجة العسكرية للفترة 2024-2030. وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الهدف في خطابه أمام القوات المسلحة في 20 يناير 2023.
أما بخصوص سؤال: الكثافة العددية أم التكنولوجيا؟ فالحرب الروسية الأوكرانية أثبتت أن التخلي عن أي منهما يمكن أن يكون قاتلاً. وذلك يمثل معضلة حقيقية حتى بالنسبة لكبرى الجيوش الغربية ذات الموارد المالية المحدودة، في ظل تزايد أسعار المعدات العسكرية وسياق مجتمعات أكثر انغلاقاً على متطلبات الحروب. ولعل الحل يكمن في اختيار المؤشر الذي يتحرك بين الاختيارين، أي في اختيار نموذج واحد مع الاحتفاظ بالقدرة على عكس القرار على المدى المتوسط.
على أية حال، يبدو من المؤكد أنه على الرغم من أن التكنولوجيا المتقدمة ضرورية، فإنها ليست كافية وحدها ولا يمكن أن تحل محل الكثافة العددية للجنود. أولاً لأسباب تكتيكية، ولكن أيضاً وقبل كل شيء لأنه ليس هناك انتصار محتمل في صراع شديد الحدة دون انخراط الدولة بأكملها في حالة الحرب.
نختتم هذه الدراسة بإلقاء الضوء على خارطة الطريق المكونة من أربع خطوات والمتعارف عليها لتقييم وتطوير قوات الاحتياط في الأدبيات الأكاديمية:
1. تقييم هيكل قوات الاحتياط وأدوارها ومهامها الحالية، وذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية:
- هل قوات الاحتياط لديها القدرة على التعبئة بسرعة للحرب؟
- هل يبدو أن قوات الاحتياط لديها القدرة على تنفيذ مهامها المحددة بفعالية؟
- هل لدى قوات الاحتياط القدرة على التطور من أجل مواكبة بيئة التهديدات المتغيرة؟
2. تحليل القدرات المستقبلية الضرورية لقوات الاحتياط.
3. تحديد عوامل التمكين المطلوبة.
4. التوصيات الواجب تنفيذها لتطوير قوات الاحتياط وتمكينها وكيفية توظيفها التوظيف الأمثل.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات(