شكلت قمة حلف شمال الأطلنطي )ناتو) التي عقدت في العاصمة الإسبانية مدريد خلال الفترة 28-30 يونيو2022 ، نقطة تحول مهمة في تاريخ الحلف العسكري الأبرز في العالم ومهامه واستراتيجياته المستقبلية، فبعد سنوات طويلة من الجدل حول جدوى استمرار الحلف بعد انتهاء مصدر التهديد الرئيسي الذي قام من أجله، بتفكك الاتحاد السوفييتي وتلاشي الخطر الشيوعي، جاءت الحرب الروسية الأخيرة على أوكرانيا لتعيد الزخم مرة أخرى لهذا الحلف وتمنحه مبررات جديدة ليس فقط للبقاء والاستمرارية وإنما أيضاً للتطور وتعزيز القدرات العسكرية للحلف وزيادة تماسكه الداخلي، وتحديث استراتيجيته الدفاعية بما يستجيب للتطورات الراهنة والمستقبلية. ومن هنا جاء تبني قمة مدريد مفهوماً استراتيجياً جديداً للحلف، يرسم ملامح التحولات في مبادئه التوجيهية وأولوياته للفترة ما بين الأعوام (2030-2022)
انطلاقاً من ذلك، تناقش هذه الورقة ما طرحته الوثيقة الجديدة للحلف من تغيرات في رؤيته ومفهومه الاستراتيجي وأولوياته خلال المرحلة المقبلة، والأدوات التي يسعى الحلف لامتلاكها من أجل تعزيز قدرته على مواجهة التهديدات الجديدة التي حددتها الوثيقة، ومستقبل الحلف في ضوء هذه التغيرات.
تطور استراتيجية الحلف العسكرية
تأسس حلف شمال الأطلسي (ناتو) في 4 أبريل 1949، كتحالف أمني جماعي يستهدف توفير الدفاع الجماعي المتبادل بين دوله الأعضاء عبر الوسائل العسكرية والسياسية في حال ما تعرض أي بلد عضو في الحلف لأي تهديد أو اعتداء خارجي. وقد قام هذا التحالف بالأساس لمواجهة التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي السابق، أو «الخطر الشيوعي» الذي اجتاح شرق أوروبا آنذاك.
وقد بدأ الحلف بـ 12 دولة وقعت على معاهدة تأسيسه، هي: الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلجيكا وكندا والدنمارك وفرنسا وآيسلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج والبرتغال. ثم انضمت إليه تركيا واليونان في عام 1952 وألمانيا الغربية عام 1955 ثم إسبانيا عام 1982، قبل أن يبدأ الحلف رحلة التوسع شرقاً بضم 14 دولة من دول الكتلة الشرقية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، ليصل عدد أعضاء الحلف إلى ثلاثين عضواً مع بداية الحرب الروسية – الأوكرانية مطلع العام 2022، ومن بين هؤلاء الدول أعضاء في حلف وارسو الذي اسسه الاتحاد السوفييتي عام 1955 كتحالف مناهض للناتو، ودول تقع على حدود روسيا أو في مجالها الحيوي، وهو وما اعتبرته الأخيرة مصدر تهديد خطير لأمنها القومي.
- وتوضح الخريطة مراحل توسع حلف الناتو المختلفة وترتيب انضمام الدول الأوروبية إلى الناتو وفقا لعام الانضمام.
أما على صعيد استراتيجيات الحلف العسكرية، فقد شهدت بدورها تغيرات وتطورات مختلفة بحسب طبيعة المرحلة التي مر بها هذا التحالف ورؤيته لمصادر التهديد والخطر التي يجب عليه أن يواجهها. فعقب تأسيس الحلف وحتى نهاية الحرب الباردة عام 1990، ارتكزت استراتيجيته على تبني سياسة ردع فعالة في مواجهة التهديد السوفييتي بالأساس، بما في ذلك التهديد النووي الذي يشكله. واستندت سياسة الردع هذه إلى المادة 5 من معاهدة واشنطن المؤسسة للحلف والتي تؤسس لمبدأ الدفاع الجماعي حيث تنص على أن «يتفق الأطراف على أن أي هجوم مسلح على عضو أو أكثر من الدول الأعضاء في الحلف في أوروبا وأمريكا الشمالية يعدّ هجوماً يستهدف جميع الأعضاء وسيتخذ كل عضو الإجراء الذي يراه ضرورياً، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، من أجل إعادة إرساء الأمن وضمانه في منطقة شمال الأطلسي».
ورغم تغير المفاهيم الاستراتيجية التي بنيت عليها الاستراتيجية العسكرية للحلف طوال فترة الحرب الباردة، فإنها لم تخرج عن هذه الرؤية الاستراتيجية العامة القائمة على الردع والدفاع الجماعي. وتم تأكيد ذلك في أول مفهوم استراتيجي تبناه الحلف وأعلنه في ديسمبر 1949، والذي كان بمثابة أول وثيقة إطارية تحدد التوجّهات الاستراتيجية للمنظمة. وفي عامي 1952 و1957 تبنى الحلف ثاني وثالث مفهوم استراتيجي له على التوالي، وركز المفهومان بصورة خاصة على إدارة الردع النووي، حيث أكدت الوثيقتان ضرورة الرد على أي عدوان يكون ضد الدول الأعضاء بحرب تستخدم فيها كل الوسائل حتى الأسلحة النووية منها، وبحيث يكون الرد بقوة أكبر من القوة المستخدمة في الهجوم لردع العدو وإقناعه بأنه سيتكبد خسائر أكبر في حال التفكير في العدوان، فيما عرف بـ»استراتيجية الانتقام الشامل». ولكن هذه الاستراتيجية تعرضت لاختبار مصداقية برهن أن تطبيقها صعب. ومن ثم تم في عام 1967 طرح استراتيجية بديلة هي «استراتيجية الرد المرن» أو الرد التدريجي من خلال إعطاء الحلف المرونة في الرد في حالة وجود تهديد لسيادة واستقلال الدول الأعضاء في الحلف والتدرج في رد الفعل بحسب التحدي على أن يكون الرد النووي وسيلة أخيرة للردع.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، بدأت التساؤلات تدور حول مستقبل حلف الناتو ومدى جدوى استمراره بعد انتهاء الخطر الذي قام أصلاً لمواجهته، ومن هنا بدأ الحلف يغير من مفاهيمه الاستراتيجية، ولاسيما مع ترافق انهيار الاتحاد السوفييتي مع مجموعة من التحولات العالمية التي برزت مطلع عقد التسعينات وما رتبته من تهديدات، مثل الحرب في يوغسلافيا وكوسوفو، التي مثلت تحدياً لحلف الناتو اضطر معه للتدخل فيها بدلاً من الاكتفاء بمراقبتها، وكذلك الحال مع تنامي ظاهرة التطرف والإرهاب والتحديات الأخرى التي غيرت البيئة الاستراتيجية العالمية التي يعمل فيها حلف الناتو.
ونتيجة لذلك، سعى الناتو إلى تبني استراتيجيات ومفاهيم جديدة تستجيب لمعطيات البيئة الأمنية العالمية المتغيرة، وتحاول في الوقت نفسه حل معضلة الحلف المتمثلة في كيفية تحقيق الاتساق بين ميثاقه الذي لا يتيح له التدخل خارج أراضيه ومواجهة التهديدات الأمنية الناشئة خارج الحدود والتي باتت تهدد مصالح أعضائه. وفي هذا السياق، تبنى الحلف المفهوم الاستراتيجي الخامس له عام 1991، والذي يثني على إقامة شراكات مع خصوم قدامى بعد انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. كما صدرت عام 1997 وثيقة تأسيسية مهمة بين الناتو وروسيا، تمثل التزاماً مهماً للحلف بأنه «لا ينوي ولا يخطط ولا يعتزم نشر أسلحة نووية أو تخزينها في أراضي أعضاء جدد».
وفي عام 1999، أصدر الحلف مفهومه الاستراتيجي السادس، والذي أضاف مهمة جديدة لحلف الناتو، هي «إدارة الأزمات»، وأكد على ضرورة أن يضع في اعتباره الإطار الكوني «إذ يمكن أن تتأثر المصالح الأمنية للحلف ودوله بسبب مخاطر تتجاوز مجرد العدوان على أراضي أحد أعضائه، بما فيها الأعمال الإرهابية، والجريمة المنظمة، وإعاقة تدفق الموارد الحيوية إلى الدول الأعضاء». ووفقاً لهذا المفهوم، فقد اتسعت مجالات التدخل العسكري للحلف لتشمل الأسباب الإنسانية، وعمليات حفظ السلام، ومنع الانتشار النووي، سواء داخل أوروبا أو خارجها.
وعلى الرغم من أن مصطلح الإرهاب ذكر مرة واحدة في هذا المفهوم الاستراتيجي السادس، فإن هذه الظاهرة سرعان ما فرضت نفسها باعتبارها من أخطر التهديدات بعد ذلك بعامين وتحديداً في عام 2001 عندما هزت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر قلب الولايات المتحدة الأمريكية الدولة القائدة لحلف الناتو، ليجد الحلف نفسه مضطراً للتدخل العسكري في أفغانستان إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وبالفعل فقد كانت هذه هي المرة الوحيدة التي جري فيها تفعيل «المادة 5» من «معاهدة واشنطن» – بند الدفاع الجماعي – منذ قيام «الناتو» عام 1949.
واستجابة لهذا التغير، والتغيرات الأخرى، التي شهدتها البيئة الأمنية الدولية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصدر الناتو مفهومه الاستراتيجي السابع في عام 2010، والذي ركز فيه على أنظمة الدفاع الصاروخي باعتبارها أحد العناصر المركزية للدفاع الجماعي، وكذلك على مسألة محاربة الإرهاب في أفغانستان «وعبر العالم»، كما تعهد بالسعي لوضع حد للأسلحة النووية، ولكنه قرر الحفاظ على الرادع النووي طالما أن مثل هذه الأسلحة موجودة في العالم. كما اعتبرت الوثيقة أن اللجوء إلى السلاح النووي غير مرجح إلى حد بعيد، لكن الترسانات الاستراتيجية من هذه الأسلحة تبقى الضمانة القصوى لأمن دول الحلف.
وأعادت الوثيقة التأكيد على المهمة التي أشار إليها المفهوم الاستراتيجي السادس والمتعلقة بإدارة الأزمات، مشيرة إلى أن الأزمات والصراعات التي تدور خارج أراضي الناتو قد تهدد مصالحه بشكل مباشر، وبالتالي يتعين على الناتو التدخل حيثما أمكنه وعندما تقتضي الحاجة ذلك للحيلولة دون اندلاع الأزمات أو إدارتها، حال وقوعها، ثم إعادة الاستقرار إلى المنطقة بعد انتهائها.
وربما كان التغيير الأهم الذي تضمنه المفهوم الاستراتيجي السابع للناتو، هو ذلك المتمثل في الموقف من روسيا، حيث تم وصف روسيا بأنها شريك استراتيجي، وتم السماح لها بالمشاركة في اجتماعات قمة الحلف في لشبونة عام 2010، وهو تغيير جوهري بالنظر إلى حقيقة أن الحلف تأسس بالأساس لمواجهة التهديد السوفييتي (الروسي).
الحرب الأوكرانية والمفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف
مثّلت أزمة أوكرانيا 2022 مفترق طرق أمام الناتو وفرصة لإظهار فعاليته والتأكيد على أهمية دوره بالنسبة للدول الأعضاء، بعد سنوات طويلة واجه فيها الحلف شكوكاً حول جدوى استمراريته، بعد اختفاء العدو الذي تأسس لمواجهته وهو الاتحاد السوفييتي السابق، إلى درجة، دفعت دولة مثل ألمانيا، من بين دول أخرى، إلى حل الحلف وتفكيكه، فيما اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2019 أن الحلف دخل في «حالة موت دماغي».
وعلى الرغم من أن الناتو لم يتدخل مباشرة في الحرب الروسية- الأوكرانية، فإن دوره كان حاسماً في منع توسع الحرب إلى داخل حدود الدول الأعضاء في الحلف ولاسيما الشرقية، وكذلك في دعم صمود أوكرانيا عسكرياً من خلال الدعم العسكري المباشر الذي قدمته دول الحلف لأوكرانيا والذي حال دون تحقيق روسيا نصراً عسكرياً سريعاً كما كانت تخطط. ومن هنا كان هناك اتفاق واسع بين الباحثين والمتابعين على أن الحرب أعادت الزخم من جديد للحلف وأكدت أهميته من جديد لدوله الأعضاء ولشعوبها.
وكان إحدى النتائج المباشرة للحرب الروسية- الأوكرانية أن تراجعت فنلندا والسويد، الدولتان غير المنتسبتين تاريخياً إلى الناتو، لأول مرة عن موقفهما الحيادي، والتقدم بطلب للانضمام للحلف خلال قمة مدريد أواخر يونيو 2022، وهو الطلب الذي تمت الموافقة عليه خلال قمة الحلف وصادقت عليه بالفعل أغلب الدول الأعضاء. وأكد هذا الموقف، بما لا يدعم مجالاً للشك أهمية التأثير الذي أحدثته الأزمة الأوكرانية في الذهنية الأوروبية ومدى اقتناع الدول الأوروبية بأهمية الحلف وبدوره في حماية أوروبا والدفاع عن أمنها.
كما سمح «التهديد الروسي» أيضاً بالتخلص من الانتقادات الأمريكية تجاه نقص مساهمة الأوروبيين العسكرية في الحلف، وبشكل خاص ألمانيا. وفي هذا الإطار، الموقف الألماني الذي أعلنه المستشار أولاف شولتز في 27 فبراير 2022 بإجراء مراجعة تاريخية للسياسة الدفاعية الألمانية، وإضافة 100 مليار يورو إلى رصيد ميزانية الدفاع، وتأكيد أن برلين ستخصص من الآن وحتى 2024 أكثر من 2 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي لجيشها، وهو مطلب كانت الولايات المتحدة تلح عليه منذ سنوات.
باختصار، جاءت الحرب الأوكرانية لتعيد الزخم من جديد لحلف الناتو، وتؤكد على أهمية دوره، وحرص أعضائه على تعزيز دوره المستقبلي باعتباره الضامن لأمن الأوروبيين.
وانعكس ذلك بشكل واضح على المفهوم الاستراتيجي الثامن الذي تبناه الحلف خلال قمة مدريد الأخيرة بعنوان «المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو 2022»، حيث أكدت الوثيقة أن الحرب التي شنها الاتحاد الروسي على أوكرانيا أدت إلى زعزعة السلام وتغيير البيئة الأمنية المحيطة بالحلف بشكل خطير، قبل أن تعلن بوضوح أن «الاتحاد الروسي يمثل أكبر تهديد مباشر لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية»، بعد أن كان شريكاً في المفهوم الاستراتيجي السابق.
كما دفعت الظروف التي أوجدتها الحرب بدول الحلف إلى تأكيد تعاونها وتعزيز قدراتها في مجال الردع والدفاع، ومن هنا جاء التأكيد على أن الناتو سيستمر في تعزيز قدرات الردع والدفاع الخاصة به لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي عبر تطوير دفاع جوي وصاروخي متكامل بهدف «حرمان أي خصم محتمل من أي فرص محتملة للعدوان»، وهو ما سيتطلب تعزيز الجاهزية الجماعية للأعضاء، وتحسين القدرة على الانتشار والاستجابة والتكامل. وفي المجال النووي أعادت الوثيقة التأكيد على أنه طالما بقيت الأسلحة النووية موجودة، فإن حلف الناتو سيبقى تحالفاً نووياً. كما اعتبرت الوثيقة أن الاستخدام المحتمل للمواد الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية ضد الناتو من قبل أطراف معادية وغير حكومية لايزال يشكل تهديداً لأمن دول الحلف. ولمواجهة هذه التهديدات والمخاطر، أكدت الوثيقة أن الحلف سيتجه إلى تسريع عملية التحول الرقمي وتعزيز الدفاعات الإلكترونية والابتكار والتركيز على زيادة الاستثمارات في التقنيات الناشئة، فضلاً عن تعزيز المرونة على المستوى الوطني وعلى مستوى الحلف ضد التهديدات العسكرية وغير العسكرية. ولم تكتف الوثيقة بالتهديدات العسكرية التي أبرزتها الحرب الروسية على أوكرانيا والتي أوجدت بيئة أمنية شبيهة إلى حد كبير بفترة الحرب الباردة، وإنما أفردت مساحة كبيرة لما يوصف بالتهديدات اللامتماثلة، ومن أبرزها:
1 - التهديد الإرهابي، الذي وصفته الوثيقة الجديدة بـ «التهديد المباشر غير المتكافئ لأمن مواطنينا والسلام والازدهار الدوليين»، مشيرة إلى سعى المنظمات الإرهابية إلى مهاجمة الحلفاء أو تحريضهم على شن هجمات عليهم، وقيامهم بتوسيع شبكاتهم وتعزيز قدراتهم والاستثمار في تقنيات جديدة لتحسين وصولهم وقدرتهم الفتاكة.
2 - التهديدات السيبرانية والفضائية، حيث أشارت الوثيقة إلى سعى ما وصفتها بـ«الجهات الخبيثة» إلى إضعاف البنية التحتية الحيوية لدول الحلف والتدخل في خدماتها الحكومية واستخراج المعلومات الاستخباراتية وسرقة الملكية الفكرية وإعاقة أنشطتها العسكرية، معتبرة أن الحفاظ على الاستخدام الآمن والوصول غير المقيد إلى الفضاء والفضاء الإلكتروني يعد مفتاحاً للردع والدفاع الفعالين. ووصلت الوثيقة إلى حد اعتبار أن التعرض لهجمات سيبرانية خبيثة أو عمليات عدائية في الفضاء أو قادمة منه يصلح سبباً لتفعيل المادة الخامسة من معاهدة واشنطن المؤسسة للناتو الخاصة بالدفاع الجماعي المشترك ضد من يقوم بهذه الهجمات.
3 - التغيرات المناخية، وقد أولى المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف هذه القضية أهمية خاصة، حيث تم ذكر «تغير المناخ» 11 مرة في الوثيقة مقارنة بمرة واحدة في وثيقة عام 2010. واعتبرت الوثيقة أن تغير المناخ سيكون له تأثير عميق على أمن الحلفاء، واصفاً هذا التهديد بأنه «أزمة وتهديد مضاعف، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الصراع والهشاشة والمنافسة الجيوسياسية».
ومن بين التغيرات اللافتة في المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو، الموقف من الصين، فللمرة الأولى في تاريخه يصنف الحلف الصين باعتبارها «تحدياً» لأمن ومصالح وقيم دوله الأعضاء، متهماً بكين بالسعي إلى التحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسية والبنية التحتية الحيوية والمواد الاستراتيجية وسلاسل التوريد، واستخدام نفوذها الاقتصادي لخلق التبعيات الاستراتيجية وتعزيز نفوذها، والسعي لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد بما في ذلك المجالات الفضائية والإلكترونية والبحرية، مشيراً إلى وجود حالة من الغموض بشأن استراتيجية الصين وأهدافها من وراء زيادة قدراتها العسكرية. كما انتقدت الوثيقة تعميق الصين شراكاتها الاقتصادية مع روسيا. وفي إشارة لافتة وذات دلالة بهذا الشأن، شارك قادة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا في قمة مدريد الأخيرة مع نظرائهم من دول الحلف الثلاثين تأكيداً على سير الحلف خلف الولايات المتحدة في تركيز الاهتمام على منطقة شرق وجنوب شرق آسيا.
مستقبل حلف الناتو في ضوء المفهوم الاستراتيجي الجديد
لقد أعطت الحرب الروسية- الأوكرانية لحلف الناتو زخماً جديداً وأعادت إليه الاعتبار كأبرز وأهم وأقوى تحالف دفاعي في العالم، فيما جاء المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف 2022 ليضع الأسس التي من شأنها تعزيز مكانة ووضع الحلف مستقبلاً، سواء من خلال الالتزام الواضح من الدول الأعضاء بتعزيز قدرات الردع والدفاع للحلف بالاعتماد على مزيج متكامل من القدرات الدفاعية النووية والتقليدية والصاروخية تكملها القدرات الفضائية والإلكترونية، أو من خلال وضع خارطة طريق للتعامل مع التهديدات اللامتماثلة، بما في ذلك قضايا الإرهاب والأمن السيبراني وتغير المناخ، أو عبر التعهد بتسريع التحول الرقمي لدول الحلف وتكييف هيكل قيادة الناتو لعصر المعلومات وتعزيز دفاعاته الإلكترونية وشبكاته وبنيته التحتية، والعمل على تعزيز الابتكار وزيادة استثماراتنا في التقنيات الناشئة والمعطلة للاحتفاظ بقابلية بالتفوق الشامل، أو من خلال زيادة جهود توقع الأزمات بهدف منعها أو إدارتها بشكل لا يضر بأمن دول الحلف، أو عبر مواصلة سياسة الباب المفتوح والتوسع لضم دول حليفة جديدة، وغير ذلك الكثير من التعهدات والالتزامات التي ضمنتها وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديد للناتو، والتي تؤكد جميعها أن الناتو سيعزز وضعه المستقبلي بوصفه التحالف العسكري الأكبر والأقوى عالمياً والأكثر قدرة على ردع التهديدات.
ومع ذلك، فإن بعض ما تضمنته هذه الوثيقة قد يدفع بالناتو في الاتجاه المعاكس، ولاسيما ما يتعلق هنا بالموقف من الصين، لأن هذا الموقف الذي تبناه الحلف قد يدفع الصين للتقارب بصورة أكبر مع روسيا في مواجهة التحالف الأطلسي الذي ينظر إليهما باعتبارهما مصدر تهديد، وقد يعيد حالة الاستقطاب الدولي من جديد، كما كان الحال في الحرب الباردة، بين قطب أطلسي وقطب صيني – روسي. أضف إلى ذلك أن اتجاه الحلف لتوسيع نطاق عملياته العسكرية والأمنية لتغطي مناطق أوسع من العالم سيزيد من الأعباء عليه، وقد يثر الانقسامات بين دوله الأعضاء بشأن جدوى هذا التوسع، ولاسيما إذا اتجه الوضع إلى مواجهة في منطقة شرق وجنوب شرق آسيا.
لكن الواضح في المشهد الحالي هو أنه في ضوء نتائج الحرب الروسية – الأوكرانية، وما تضمنه المفهوم الاستراتيجي للحلف من تعهدات والتزامات غير مسبوقة، فإن السيناريو الأقرب هو أن حلف الناتو سيعزز من قدراته وتماسكه ومن ثم مكانته باعتباره التحالف العسكري الأبرز في العالم على الأقل في المستقبل القريب.
» د. فتوح هيكل (مدير الأبحاث في مركز تريندز للبحوث والاستشارات)