منذ بداية الأزمة في ليبيا، برزت محاولات عدة للتسوية السلمية، والتي كان من أبرز محطاتها: اتفاق الصخيرات في 2015، واجتماعات باريس في يوليو 2017، ومؤتمر باليرمو في نوفمبر 2018، ومحادثات موسكو في يناير 2020، ومؤتمر برلين في يناير 2020.
على مدى السنوات الماضية كان الدور التركي الداعم للميليشيات الإخوانية الإرهابية، في إطار مشروع أردوغان للهيمنة الإقليمية من خلال المشروع الإخواني، هو العائق الأساسي للتوصل إلى حلول سياسية للأزمة في ليبيا. وإذا أخذنا آخر محاولات التسوية السياسية وهو مؤتمر برلين في بداية العام الجاري، فإنه في الوقت الذي حضر فيه الرئيس التركي أردوغان فعاليات المؤتمر، كان يجهز لنقل ميليشيات مسلحة من سوريا إلى طرابلس عبر أراضى بلاده، مستغلاً الثغرة في قرار المؤتمر بشأن حظر نقل أو تدفق أسلحة إلى ليبيا، دون النص على حظر نشر القوات.
أولا: المظاهر:
وفي كل مراحل الصراع في ليبيا على مدى السنوات الماضية، تمثل تركيا رافداً أساسياً لإمداد الميليشيات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق بقدرات تسلح نوعية كمنظومات الدفاع الجوي والطائرات دون طيار، وهي الداعم الرئيسي لها والذي حال دون سقوطها ودحر ميليشياتها من قبل الجيش الوطني الليبي، حتى الآن.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أهم مظاهر الدعم العسكري التركي لميليشيات حكومة الوفاق خلال الشهور الأخيرة في الآتي:
1
في نوفمبر 2019 وقعت حكومة الوفاق مع تركيا مذكرة تعاون أمني وعسكري، هدفت إلى محاولة «شرعنة» الدعم العسكري التركي لها. وقد قوبلت هذه الاتفاقية بانتقادات واسعة إقليمياً ودولياً، خاصة أن رئيس حكومة الوفاق فايز السراج من الناحية القانونية لا يمتلك حق توقيع اتفاقيات أجنبية، بالنظر إلى أن اتفاق الصخيرات عام 2015 الذي أوجد هذه الحكومة قد انتهى قانونياً.
2
في يناير 2020 قال الرئيس التركي أردوغان، إن بلاده بدأت في إرسال قوات إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق. وكان هذا قبل مؤتمر برلين حول ليبيا بأيام، ولم يتوقف إرسال هذه القوات بعد المؤتمر. وفي هذا السياق تشير التقارير إلى أن تركيا قد أرسلت الآف المقاتلين التابعين لها في سوريا إلى ليبيا لمساعدة ميليشيات السراج خاصة بعد أن ضيق الجيش الوطني الليبي عليها الخناق في طرابلس بشكل كبير، وقد اعترف أردوغان نفسه بإرسال المقاتلين السوريين في فبراير 2020 بقوله « تركيا متواجدة هناك عبر قوة تجري عمليات تدريب. هناك كذلك أشخاص من الجيش الوطني السوري» .
3
عندما أطلق الاتحاد الأوربي في مارس 2020، العملية العسكرية «إيريني»، لمراقبة حظر توريد السلاح إلى ليبيا، كانت تركيا هي الدولة الوحيدة التي اعترضت على هذه العملية، وقالت إنها غير قانونية، وطالبت الدول المشاركة فيها بمراجعة مواقفها، وتحدتها بقولها إنها لن توقف دعمها لحكومة السراج.
4
في أبريل 2020، تحدثت تقارير عن أن أنقرة دعمت ميليشيات حكومة الوفاق بمقاتلات من طراز «إف 16». وفي بداية مايو 2020 بدا الرئيس التركي وكأنه يدير المعركة بنفسه ضد الجيش الوطني الليبي إلى جانب ميليشيات السراج، حينما قال إن «أخباراً سارة جديدة ستردنا من ليبيا.. بفضل الدعم المقدم من تركيا إلى الحكومة الشرعية في ليبيا » .
5
في الوقت الذي دعا فيه الأمين العام للأمم المتحدة إلى هدنة عالمية لمواجهة أزمة فيروس كورونا، فإن تركيا استغلت انشغال العالم في الاهتمام بمواجهة الفيروس لتقدم دعم عسكري مباشر لحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج وأرسلت قطعاً بحرية رست بالقرب من الشواطئ الليبية لتهاجم الجيش الوطني الليبي.
6
وبعد انسحاب الجيش الوطني الليبي من قاعدة «الوطية» العسكرية، يوم 18 مايو 2020، احتفلت تركيا رسمياً وإعلامياً بشكل لافت للنظر، في اعتراف مباشر منها بتورطها في الصراع في ليبيا ودعمها عسكرياً للميليشيات التابعة لحكومة الوفاق. وحاولت تركيا الإيحاء بأن سيطرة ميليشيات السراج على القاعدة يمثل انتصاراً كبيراً لها، على الرغم من إن الجيش الوطني الليبي قال إن انسحابه من القاعدة انسحاب تكتيكي ولن يؤثر على سير المعارك.
هذا التدخل العسكري التركي في ليبيا، يتكئ بشكل أساسي على موقف حكومة الوفاق التي تتواجد وتفرض نفسها على الشعب الليبي دون أن تحظى بثقة مجلس النواب، ومن ثم وجدت ضالتها فى تركيا كداعم أكبر بدا مستتراً ثم تجلى بشكل سافر مع صدور قرار البرلمان التركي بالتدخل العسكري في ليبيا في يناير2020 بذريعة حماية المدنيين، فضلاً عن دعمها لجماعة الإخوان المسلمين فى ليبيا بحيث يكون لهم دور فاعل في أي تسويات سياسية مستقبلية
ثانياً: المنطلقات
وفي هذا السياق، فإن ليبيا تكتسب أهميتها بالنسبة إلى تركيا وأردوغان من أكثر من زاوية أهمها:
1
تعد الثروة النفطية والرغبة في الفوز بعقود إعادة الإعمار أحد أهم عوامل الجذب الليبي لدى تركيا لمزاحمة كل من مصر واليونان وقبرص في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط والحصول على نصيب وافر من نفط ليبيا الذي يشكل أكبر احتياطيات إفريقيا (حوالي 34 مليار برميل) فيما تستورد تركيا 95% من طاقتها الإستهلاكية من الخارج.
2
ترى تركيا في حكومة الوفاق امتداداً لحركة الإسلام السياسي في الشمال الإفريقى بعد أن فشلت فى مصر والمغرب. وربما يأمل أردوغان فى أن تكون ليبيا إحدى بواباته الإقتصادية إلى قلب إفريقيا مستقبلاً، كما يستخدمها فى شحن المهاجرين والإرهابيين إلى أوروبا لاستخدامهم كورقة ضغط عقاباً على رفض الاتحاد الأوروبي قبول انضمام تركيا إليه.
3
في إطار العزلة التي تتعرض لها تركيا في البحر المتوسط خاصة فيما يتعلق بخلافاتها مع دوله حول التنقيب عن الغاز وترسيم الحدود البحرية، فإن أردوغان يرى في وجود حكومة الوفاق الموالية له في طرابلس أمله الأساسي في الحفاظ على نفوذه في جنوب البحر المتوسط، والالتفاف على العزلة التي يعانيها في المنطقة.
4
من خلال تدخله العسكري في ليبيا إضافة إلى سوريا، يحاول أردوغان تحقيق هدفين: الأول هو إشغال الجيش في معارك خارجية خوفاً من أي محاولة للانقلاب عليه. الهدف الثاني هو توجيه نظر الشعب في الداخل إلى قضايا خارجية وإيهامه بتحقيق انتصارات وهمية فيها، لتشتيت انتباهه بعيداً عن الأزمة الاقتصادية الخانقة في الداخل.
5
يحاول أردوغان إقامة قاعدة عسكرية تركية في ليبيا، على غرار القاعدة التركية في قطر والصومال، وتحدثت مصادر وتقارير عدة خلال الفترة الماضية عن أن أنقره تجري بالفعل مفاوضات مكثفة مع حكومة الوفاق لإقامة قاعدة عسكرية مصغرة قرب طرابلس.
6
أهمية ليبيا بالنسبة إلى أردوغان تنبع، إضافة إلى كل ما سبق، من إنها على الحدود مع مصر وتونس. حيث إن مجاورتها لمصر يمكن أردوغان من استخدامها ورقة ضغط ضد القاهرة، فيما مجاورتها لتونس تمكنه من تعزيز العلاقات مع الإخوان المسلمين هناك ومن ثم إيجاد موضع قدم مؤثر له في منطقة شمال إفريقيا.
7
أخيراً فإن حضور تركيا في ليبيا يجعل أردوغان قادراً على استخدام الورقة الليبية في ممارسة الضغط على أوروبا بل وابتزازها من خلال التهديد بقضايا الأمن واللاجئين وغيرها.
ثالثا: المآلات
لكن على الرغم مما سبق، فإن هناك العديد من الاعتبارات التي تدعو للقول إن مشروع أردوغان في تركيا محكوم عليه بالفشل في النهاية، لعدة أسباب أهمها:
1
ثمة قلق إقليمي كبير من الدور التركي في ليبيا، لأن أطرافاً إقليمية كثيرة ترى في هذا الدور تهديداً جدياً لأمنها الوطني، وفي مقدمتها مصر، ومن ثم تعمل على التصدي له بكل الطرق الممكنة. وحتى الجزائر التي زارها الرئيس التركي محاولاً تحييدها أو جلبها إلى جانبه في ملف ليبيا، لا تريد وجوداً عسكرياً تركياً على حدودها.
2
الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من خلافاته حول ملف ليبيا، فإنه متفق حول رفض الدور العسكري التركي هناك، وهذا ما وضح من موقفه الرافض لمذكرة التفاهم الأمني والعسكري بين أنقرة وحكومة السراج.
3
روسيا تصاعد دورها بشكل ملحوظ على الساحة الليبية خلال الفترة الماضية، وتعتبر أن وقوف اردوغان إلى جانب السراج بمثابة تحدٍّ لها، ولا يتوقع أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ذلك خلال الفترة القادمة على الرغم من «الانتصارات» الصغيرة والمؤقتة التي تحققها ميليشيات حكومة الوفاق بين كل فترة وأخرى.
4
ثمة توافق إقليمي ودولي على إن «انتصار» أردوغان في ليبيا، سوف يؤدي إلى نتائج خطيرة على الأمن الإقليمي والدولي، وهذا يضع حدوداً لطموحاته على الساحة الليبية.
أخيراً فإن مشروع أردوغان في ليبيا هو جزء من المشروع الإخواني في المنطقة، وهو مشروع فاشل ومنهار ولم يعد له أي فرصة في الحضور في ظل الرفض الدولي له من ناحية، واكتشاف شعوب المنطقة حقيقته من ناحية أخرى.
» سحر محمد صالح باحثة في الشؤون الاستراتيجية