أجرت فرنسا للمرة الأولى في تاريخها تدريبات عسكرية في الفضاء بالتعاون مع شركائها الأوروبيين كألمانيا وإيطاليا إضافة إلى الولايات المتحدة. وتمت هذه التدريبات التي حملت اسم «آستر إكس» وأجريت في شهر مارس 2021، وحضرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشكل افتراضي، وشاركت فيها مؤسسات عسكرية ومدنية ضمن تمرين متكامل من أجل الدفاع عن الفضاء ضد أعداء افتراضيين يهددون المصالح الفرنسية، واستهدفت هذه التدريبات بالأساس تقييم قدرة فرنسا وحلفائها على حماية أقمارها الاصطناعية.
وتمثل هذه الخطوة الفرنسية أحدث المظاهر الدالة على المخاوف الدولية من تزايد الاتجاه نحو عسكرة الفضاء، والتهديدات التي يمكن أن يمثلها، وكيفية الاستعداد لمواجهة مثل هذه التهديدات، ولاسيما في ظل تزايد الاعتماد العالمي على تكنولوجيا الفضاء في مختلف القضايا التنموية والحياتية، وهي الأمور التي ستحاول هذه الورقة إالقاء الضوء عليها من خلال المحاور التالية:
أولاً: دلالات الخطوة الفرنسية:
تنطوي الخطوة الفرنسية على العديد من الدلالات المهمة، من بينها:
تنامي النظر للفضاء باعتباره ساحة للتنافس العسكري بين القوى الدولية وأداة من أدوات الحروب المستقبلية للدول، ومن ثم يجب الاستعداد للتعامل مع كافة السيناريوهات المطروحة في هذا الصدد. وكانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي قد عبرت عن هذه النظرة في حوار لها العام الماضي أكدت خلاله ضرورة «العبور من النظرة إلى الفضاء على أنّه ملكية مشتركة في خدمة العلوم، إلى فضاء لا تزال القوى تتنافس ضمنه حول الهيمنة العالمية». ويبرز هنا أيضاً تصريح قائد أركان سلاح الجو الفرنسي الجنرال فيليب لافيني في أكتوبر 2018، والذي قال فيه: اذا خسرنا حرب الفضاء، فاننا سنخسر الحرب ببساطة.
تعدد مصادر التهديد العسكري الفضائي وضرورة التخطيط الاستباقي لمواجهتها، وهو أمر يمكن تبينه من الأهداف الواسعة والسيناريوهات المتعددة التي ركزت عليها هذه التدريبات. فهذه التدريبات الافتراضية تقوم على مواجهة 18 سيناريو متخيلاً في الفضاء، من بينها سيناريو متخيل لأزمة بين دولة تملك مؤهلات فضائية وبلد آخر تربطه معاهدة دفاع مشترك مع فرنسا تجد فرنسا نفسها بموجبه في فضاء حرب يتحرك فيه أكثر من عشرة آلاف هدف، وتتمخض عنه تهديدات باختراق المجال الجوي الفرنسي. ومن ذلك أيضاً سيناريو افتراضي بقيام دولة معادية بالتعرّض إلى قمر اصطناعي فرنسي أو بسقوط حطام أقمار صناعية على الأراضي الفرنسية تهدد السكان المدنيين. وشملت المناورات كذلك التحقق من أنظمة الدفاع الخاصة بفرنسا وحلفائها والتي بمقدورها أن ترد على تهديدات تستهدفها من مسافة تتعدى الثلاثة آلاف كيلومتر.
حرص فرنسا على تعزيز موقعها ضمن خريطة القوى المهيمنة فضائياً. فهذه التدريبات تندرج ضمن خطة استراتيجية فرنسية تستهدف تطوير القدرات العسكرية الفضائية الفرنسية في سياق تحول فيه الفضاء إلى ساحة تنافس شرسة بين القوى الدولية الكبرى، وهي تعكس رغبة فرنسا في إيجاد موطئ قدم في الفضاء الشاسع، وهي الرغبة التي عكستها سلسلة الإجراءات التي اتخذتها باريس في السنوات القليلة الأخيرة؛ ففي عام 2019، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنشاء قيادة عسكرية مخصصة للفضاء في شكل هيكل تنظيمي جديد داخل وزارة الدفاع والجيوش الفرنسية، تكون له السيطرة الكلية على العمليات العسكرية الفضائية ومجابهة الأخطار التي قد تحدق بالمنظومة الفرنسية المتعلقة بالأقمار الصناعية في الفضاء، وتغير اسم رئاسة أركان سلاح الجو الفرنسي إلى رئاسة أركان سلاح الجو والفضاء، وهو مصطلح يرسم حدوداً جديدة. كما تضع فرنسا موازنة سنوية بملياري يورو مخصصة لمسائل الفضاء العسكرية والمدنية، ورغم أهمية هذه الميزانية، فإنها لا تزال بعيدة عن القوى المتصدرة للمشهد، وهي: الولايات المتحدة (50 مليار دولار) والصين (10 مليارات) وروسيا (4 مليارات) بحسب أرقام الحكومة الفرنسية.
تعكس هذه التدريبات رغبة أكبر من جانب فرنسا في تعزيز استقلاليتها وموقعها القيادي في تعزيز وجودها الفضائي، فبعد أن كانت فرنسا تشارك فقط كبلد ضيف في التدريبات العسكرية الفضائية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، قامت هي هذه المرة بقيادة التدريب الفضائي انطلاقاً من قاعدة عسكرية في مدينة تولوز. وهذه التدريبات هي الأولى من نوعها التي تقام على الأراضي الأوروبية، وتأتي في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن أهمية بناء أوروبا لقدراتها العسكرية المستقلة.
ثانياً: مظاهر الاتجاه المتنامي نحو عسكرة الفضاء:
الحديث عن عسكرة الفضاء ليس بالأمر الجديد، وإنما يعود إلى ثمانينات القرن العشرين عندما أطلق الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» أو «حرب النجوم» وهي برنامج لتطوير نظام دفاعي صاروخي يعتمد على أحدث التقنيات لإحباط أي هجوم قد تتعرض له الولايات المتحدة بالصواريخ البالستيةورصد لإنجاز هذا الهدف موازنة قدرها 26 مليار دولار. ورداً على ذلك طور الاتحاد السوفييتي برنامجاً باسم قاتل الأقمار الصناعية تمت تجربته بنجاح عندما نجح صاروخ تسيركون 2 في تدمير مركبة فضاء اعتراضية، وفي سبتمبر 1985 أطلقت الولايات المتحدة صاروخاً مضاداً للأقمار الصناعية من طائرة مقاتلة من طراز إف 15 نجح فى تدمير قمرها سولوفيند. أما بالنسبة للصين، فقد أجرت الاختبارات الأولى على صواريخها المضادة للأقمار الصناعية في العام 2005، وفي يناير 2007، نجحت في تدمير مركبة الفضاءFY-1C الخاصة بها بعد خروجها من الخدمة باستخدام صاروخ أرضي مضاد للأقمار الصناعية.
وفي السنوات الأخيرة، تنامى الاتجاه نحو عسكرة الفضاء من قبل القوى الدولية بدعوى حماية المصالح الاستراتيجية بعد تزايد أهمية الفضاء وتوظيفه في المجالات التنموية المختلفة. ففي سبتمبر 2019، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تأسيس القيادة الفضائية الأمريكية لتكون الذراع العملية للجيش الأمريكي في الفضاء، وخلال مراسم التدشين وصف ترامب الفضاء باعتباره أحدث ساحة للحرب في العالم، وحدد مهمة هذه القيادة الفضاية في «المساعدة في ردع العدوان والسيطرة على الفضاء».وفي أبريل من العام نفسه، التحقت الهند بمجموعة الدول القادرة على إسقاط قمر صناعي في الفضاء باستعمال صاروخ، ووصف رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بلاده بأنها قوة فضائية كبرى بعد نجاح تجربة إسقاط القمر الصناعي التابع لها باستخدام دفاعياتها الصاروخية. وفي يوليو 2020 أكدت قيادة الفضاء الأمريكية، امتلاكها «أدلة» على إجراء موسكو اختباراً غير مدمر لسلاح مضاد للأقمار الصناعية في الفضاء.
وفي عام 2019، أصبحت الصين أول دولة ترسل مركبة غير مأهولة إلى الجانب البعيد من القمر. ونتيجة نجاح المهمة، واسمها «تشانغ 5»، أصبحت الصين واحدة من ثلاث دول تحصل على مواد من القمر، وأول دولة تقوم بذلك خلال الـ40 سنة الماضية. وفي مارس 2021 اتفقت الصين وروسيا على إنشاء محطة فضاء مشتركة على سطح القمر. وبعد شهرين من ذلك، أصبحت الصين ثاني دولة تضع مركبة فضاء على سطح المريخ. وفي يونيو من العام نفسه أرسلت الصين أول ثلاثة رواد فضاء لها في أول مهمة مأهولة لها منذ نحو خمس سنوات. وتهدف بكين إلى أن تصبح قوة رئيسية في الفضاء بحلول 2030.
ومنذ عام 2005، تم إجراء أكثر من 20 اختباراً لأنظمة الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية (ASAT) في الفضاء من قبل أربع دول مختلفة، وهو معدل اختبار لم يحدث منذ ستينات القرن العشرين. وهذا الاتجاه المتنامي نحو عسكرة الفضاء تغذية مجموعة من العوامل المهمة، أبرزها:
حالة التنافس المستعر بين القوى الدولية الكبرى في الهيمنة على الفضاء، وأزمة الثقة بين هذه البلدان تجاه نوايا بعضها البعض. ومن أبرز المؤشرات على ذلك الاتهامات المتبادلة فيما بين هذه القوى بتعزيز قدراتها العسكرية الفضائية، والتحذيرات التي أطلقتها وكالة الاستخبارات الأمريكية من قيام الصين وروسيا بتطوير خدمات فضائية «قوية وقادرة» على القيام بأنشطة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، والاتهامات الصينية والروسية للولايات المتحدة بعسكرة الفضاء بعد قيامها بتأسيس فرع «القوة الفضائية» كفرع سادس لقواتها الفضائية، والاتهامات الفرنسية والغربية لروسيا بالتجسس على القمر الاصطناعي الفرنسي «أثينا-فيدوس» عام 2017.
تزايد أعداد القوى الإقليمية والدولية التي تملك تكنولوجيات صاروخية متطورة ولديها القدرة على استهداف الأقمار الاصطناعية في الفضاء، أو تلك التي تسعى إلى امتلاكها، إضافة إلى تطور التكنولوجيات المستخدمة في أقمار التجسس، والتي تشكل جميعها تهديداً لقدرات الدول الكبرى الفضائية.
تزايد أهمية الفضاء في عملية التنمية المستدامة، فالتطورات التي يشهدها قطاع الفضاء أصبحت مكوناً أساسياً في عملية الثورة المعرفية والتطبيقات التكنولوجية التي يستخدمها البشر في مختلف مجالات حياتهم، بدءاً من شبكات الإنترنت عالية السرعة وأجهزة الاستشعار عن بعد وأنظمة الاتصالات الحديثة التي سهلت التواصل بين البشر. كما تعتمد عليها العديد من التطبيقات المبتكرة مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) وإنترنت الأشياء، والكثير من الأنشطة التنموية الجديدة مثل سياحة السفر إلى الفضاء الخارجي، ومحاولة الاستفادة من المصادر الطبيعية المتاحة في الفضاء الخارجي، وغيرها الكثير من الفوائد والمزايا التنموية التي توفرها هذه التكنولوجيا المتطورة لخدمة البشر.
ونتيجة لذلك شهدت الاستثمارات العالمية في مجال الفضاء تسارعاً كبيراً في السنوات الأخيرة، حيث تشير بعض الاحصائيات المنشورة في هذا الصدد إلى تضاعف هذه الاستثمارات بنحو 16 مرة في العام 2019 مقارنة بما كانت عليه في السنوات الخمسة الأولى من الألفية الحالية؛ إذ ارتفعت من نحو مليار دولار خلال الفترة من 2000-2004 لتصل إلى 3.35 مليار دولار في الأعوام من 2010 الى 2014، قبل أن تصل إلى نحو 16.84 مليار دولار خلال الفترة من 2015-2019.
تنامي أعداد الدول التي تستثمر في استكشاف الفضاء، حيث قام نحو 90 بلداً في العالم بإطلاق أقمار اصطناعية لأغراض مختلفة، وتمتلك أكثر من ثلاثين دولة وكالات فضائية وطنية اليوم، وهو ما تخشى بعض القوى الدولية من أن يؤثر على موقعها المهيمن في سباق الفضاء العالمي.
الأهمية الحاسمة التي أصبح يمثلها الفضاء في مجال تحقيق التفوق العسكري للدول، سواء في مجال جمع المعلومات الاستخبارية وتحديد المواقع، أو توجيه الأسلحة والتشويش على الأقمار الصناعية أو استهدافها بشكل مباشر، وتعطيل الاتصالات، والتجسس من الفضاء وغيرها الكثير من المهام والأدوار الحاسمة التي يمكن استثمار الفضاء فيها لتحقيق الهيمنة العسكرية على الأرض وفي الفضاء.
ثالثاً: الاستعداد لسيناريوهات حروب الفضاء وكيفية تفاديها:
ثمة اتفاق واسع بين الباحثين والخبراء العسكريين على أن حرب الفضاء باتت أمراً لا مفر منه، وأن الأمر ليس سوى مسألة وقت، بل إن هناك من يتحدث عن أن هذه الحرب بدأت بالفعل على مستويات أقل، مثل التشويش على الأقمار الاصطناعية والتجسس على بعضها البعض. ومن هنا بدأت كثير من دول العالم التفكير في كيفية الاستعداد لهذه الحروب المستقبلية. وتتم هذه الاستعدادات من خلال أسلوبين رئيسيين:
الأول: التدريبات العسكرية وأنظمة المحاكاة التخيلية، ومن أمثلتها التدريبات العسكرية الفضائية التي أجرتها فرنسا في مارس 2021 بمشاركة دول غربية أخرى، كما تم التوضيح.
الثاني: تطوير الأسلحة الاستراتيجية التي تستطيع استهداف الأقمار الاصطناعية وتدميرها والتشويش عليها، بما في ذلك أنظمة الصواريخ طويلة المدى وأجهزة التشويش والهجمات السيبرانية التي تستهدف الأقمار الاصطناعية والمحطات الأرضية التي تتحكم فيها، أو استخدام أشعة الليزر من أجل تعطيل الأقمار الصناعية، وحتى استخدام الأقمار الاصطناعية في العمليات العسكرية المباشرة (فضاء- أرض)، وغيرها من الأسلحة التي تعكف الدول على تطويرها حالياً.
ولكن التساؤل المحوري هنا هو في كيفية تفادي هذه السيناريوهات التدميرية، وتشجع التوجهات الرامية إلى النظر إلى الفضاء باعتباره ساحة للتعاون البناء في مجال الاستخدامات السلمية بالشكل الذي يخدم البشرية كلها.
الخطوة الأولى: العمل على إزالة أسباب عدم الثقة في توجهات ومواقف القوى الدولية الكبرى نفسها، وهذا الأمر يبدو مثالياً، لأن الطبيعة التنافسية هي الحاكمة والمهيمنة على علاقات هذه القوى الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة والصين.
الخطوة الثانية: وضع قواعد قانونية منظمة لاستخدامات الفضاء السلمية تحول دون أي مظاهر لعسكرة الفضاء. إن الإطار القانوني الدولي الحالي يبدو متساهلاً إلى حد كبير، على الأقل ضمنياً، تجاه تطوير واختبار ونشر القدرات العسكرية الفضائية، فمعاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 لم تحظر وضع أسلحة نووية أو أي نوع آخر من أسلحة الدمار الشامل في الفضاء الخارجي، وليس هناك بشكل عام قيود محددة على اختبار أو نشر أسلحة غير نووية في الفضاء. وفي حين أنه من المتعارف عليه أن ينطبق ميثاق الأمم المتحدة على الأنشطة الفضائية وبالتالي يُحظَر الاعتداء في الفضاء تماماً كما يُحظَر الاعتداء على الأرض، فإنه لا يوجد توافق في الآراء بشأن ما يشكل استخداماً للقوة أو هجوماً مسلحاً ضد القدرات الفضائية. من ناحية أخرى، لا يوجد إجماع دولي حول قواعد السلوك للقيام بالأنشطة العسكرية في الفضاء أثناء أوقات السلم، بما في ذلك الاقتراب من الأقمار الصناعية الأخرى، والعتبة المسموح بها لإطلاق رد مسلح مشروع كشكل من أشكال الدفاع عن النفس. إضافة إلى ذلك، هناك غموض فيما يمكن اعتباره هدفاً عسكرياً مشروعاً أثناء النزاع، وغيرها من الإشكاليات القانونية التي تحتاج إلى تعزيز الإطار القانوني الدولي بما يكفل حظر عسكرة الفضاء.
الخطوة الثالثة: تعزيز التحركات الدولية الرامية إلى مزيد من التعاون الدولي في مجال الاستخدامات السلمية للفضاء بما يحقق الربح لجميع الأطراف.
إن صراعات العالم المشتعلة على الأرض لا ينبغي أن تنتقل للفضاء الواسع، وبدلاً من التفكير في الاستعداد لحروب الفضاء يجب على الدول أن تفكر في كيفية التعاون والاستفادة المشتركة من القدرات الهائلة التي يوفرها الفضاء للمجالات التنموية المختلفة، وهنا يبدو صوت الحكمة أكثر من مهم.
الدكتور – فتوح هيكل
(مدير الأبحاث – تريندز للبحوث والاستشارات)