من الأهمية بمكان دراسة ما تواجهه منطقة الشرق الأوسط من شكل جديد من أشكال الحروب، يحاول العدو من خلاله استهدافها بصورة لم تشهدها من قبل، بهدف إسقاط الدولة من الداخل بدلاً من الحروب التقليدية. وسقوط أي دولة عربية يؤثر بشدة في الأمن القومي العربي وفي استقرار المنطقة بأكملها، لذا فإن تناول هذا الموضوع بصورة علمية وأكاديمية يفيد في التغلب على هذا التهديد، فالفهم الصحيح لطبيعة العدائيات هو البداية الحقيقية للنصر.
حروب الجيل الرابع
وقد تزايد في المدة الأخيرة الاهتمام بحروب الجيل الرابع (Fourth Generation Warfare)، التي أخذت شكلاً جديداً، واستحدثت وسائل وأساليب جديدة، وذلك تزامناً مع التطور التكنولوجي المستمر، خاصة في مجال الاتصالات والمعلومات. وأهداف الهجوم في حروب الجيل الرابع ليست عسكرية فقط، بل تمتد إلى الجوانب المجتمعية، وتعتمد على استراتيجية الهدم من الداخل، وذلك باستهداف المجتمع المدني بكل مكوناته بدلاً من الدخول في مواجهة مسلحة ضد القوات المسلحة للدولة المستهدفة.
وتنطوي حروب الجيل الرابع على متغيّر حيوي هو أن التهديد ينبع من الداخل، بحيث يتم تحديد عناصر وعوامل داخلية معينة لتوظيفها وتحريكها، من أجل تحقيق أهداف هذه الحروب، ومن هنا تنبع أهمية تعميق قيم الولاء والانتماء للوطن، وتبرز كذلك أهمية الالتفاف والتوحُّد والالتحام حول قياداته، كما تتضح خطورة التنظيمات والجماعات العابرة للحدود التي تتجاوز الولاءات الوطنية والانتماءات الجغرافية للأرض والسكان، حيث تصبح هذه الجماعات أداة طيّعة يمكن توظيفها بسهولة في شن حروب ضد الأوطان من الداخل.
وتنقسم أدوات حروب الجيل الرابع وأساليبها إلى داخلية وخارجية، حيث تعمل الأدوات الداخلية على زعزعة الاستقرار، وإنهاك قوى الدولة، وإسقاطها من الداخل، بينما تعمل الأدوات الخارجية على حرمان النظام الحاكم من الاستفادة من أي مساعدات خارجية إقليمية أو دولية، عن طريق تشويه صورة نظامها السياسي. وتستخدم الجماعات والتنظيمات والكيانات الإرهابية وسائل وتقنيات غير تقليدية لإنهاك الدولة بشكل منهجي للوصول إلى الانهيار الاجتماعي الداخلي، حتى يتمكن الطرف المخطط من تحقيق أهدافه وتحطيم الخصم تماماً.
وحروب الجيل الرابع ليس لها ساحات قتال محددة، ولكن تنتشر في كل الدولة المُستهدَفة في وقت واحد، بما فيها المناطق السكانية الحضرية والريفية. وتتجنب الدولة المعتدية اكتشاف الدولة المستهدفة هذا الشكل من الحرب، وتعتمد على استهداف نقاط الضعف في مواطني الدولة المُستهدَفة لجميع الأعمار في المجتمع، وكذلك نقاط الضعف في الأطر القانونية ووسائل الإعلام والمنظمات الدولية والاتفاقيات والأنشطة الاقتصادية والسلطة السياسية، والمعنوية وأيضاً عن طريق التأثير المعنوي السلبي في الخصم، لإقناع الدولة المُستهدَفة باستحالة تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وأن هذه الأهداف غير قابلة للتنفيذ، أو أن تنفيذها مكلف للغاية مقارنة بالعائد المرجوّ منها.
أهمية الموضوع
وتنبع أهمية تناول هذا الموضوع في الوقت الراهن من أسباب عدَّة، لعل أهمها أن دول منطقتنا العربية واجهت تهديدات وتحديات مختلفة على مدى العصور، واختلفت هذه التهديدات والتحديات من حيث الشدة والمدّة الزمنية التي تستغرقها خلال تاريخنا الطويل، وكان العامل الرئيسي للتغلب على هذه التهديدات والتحديات هو وعي الشعب الذي شكل قوة بشرية صلبة تغلبت على هذه التهديدات والتحديات بعزم وإصرار. ومن الأمور التي تثير التعجب أن العوامل التي تساعد على النمو السريع للوعي من إعلام على اختلاف أنواعه، وكذلك وسائل التواصل المختلفة وأدواته، لم تكن متوافرة بدرجة كبيرة في هذه الأوقات من التاريخ، ولم يكن مستواها التقني عالياً مقارنة بوقتنا هذا، ولكن ذلك لم يكن عقبة أمام نمو الوعي الذي كان أساساً لتشكيل القوة البشرية الصلبة التي كانت سلاحاً تغلَّب على إمبراطوريات ودول عظمى طردها أجدادنا، وحافظوا على وحدة الأرض والشعب.
أشكال الحرب الحديثة
وقد تغيَّر شكل الحرب في عصرنا هذا، ليأخذ نمطاً جديداً يعتمد على استراتيجية هدم الدولة من الداخل، مستهدفاً ومستخدماً كل مكونات القطاعات المدنية بصفتها هدفاً رئيسيّاً بدلاً من استهداف القوات المسلحة. وبرغم أن بعض الكتابات تناولت هذا الموضوع، فإن بعض الأمور ما زالت مبهمة، ما قد يؤثر في فهمنا لحروب الجيل الرابع، والتعامل معها، أو على الأقل يؤثر في القدرة على تخطّي المحن والصعوبات والشدائد، وكان ذلك دافعاً لتناول الموضوع بأسلوب علمي أكاديمي، ليكون قدر الاستطاعة إضافةً تفيد في تنمية الوعي بصورة صحيحة، خاصة أن الفهم الصحيح لطبيعة التهديدات والتحديات هو الأساس السليم والقوي لمواجهتها والتغلب عليها، وأن التأخر في المواجهة العلمية الرصينة يُصعّب من المواجهة بدرجة كبيرة، إضافة إلى أثرها السلبي الكبير في الأمن القومي العربي.
محتويات الكتاب
ولذلك يتناول الكتاب السياق التاريخي، ويتتبَّع مسار أجيال الحروب، وصولاً إلى حروب الجيل الرابع في الفصل الأول، لكي يُتعرّف إلى تطور الحروب على مرّ الزمن، وأنها لا تأخذ شكلاًا ثابتاً أبداً. ثم تطرَّق في الفصل الثاني إلى محاولة توضيح حروب الجيل الرابع من خلال تعريفات عدد من الأكاديميات والخبراء في العالم، واستراتيجية تنفيذها. وللأمانة الأكاديمية، فقد تناول الكتاب أيضاً الانتقادات التي تعترض على وجود هذا الشكل من الحروب، والرأي العلمي فيها. وتناول الفصل الثالث تعريفات الأمن القومي ومفاهيمه، وتأثير هذا الشكل من الحروب في الأمن القومي في كل مجالاته، ثم في كيان الدولة المستهدَفة. وأوضح الفصل الرابع وهو الأخير تعريفات الاستراتيجية ومفاهيمها، وكيفية بنائها، وكذلك أسلوب التحليل الاستراتيجي للوقوف على محددات الاستراتيجية وركائزها، لكي تُبنى بصورة واقعية، ثم كيفية تقييم تحديات هذا الشكل من الحروب وتهديداته ومخاطره على الدولة المستهدفة، لتكون هذه العناصر مجتمعة أساساً علميّاً وعمليًاً للاستراتيجية المقترحة في الكتاب لمواجهة حروب الجيل الرابع، التي جاءت ختاماً لهذا الفصل.
وقد خلص المؤلف إلى أنه، من الأفضل أيضاً عند التعرُّض لمفهوم معين، أن يتناول عدداً من التعريفات والآراء التي توضحه، حتى لا يفرض اتجاهاً واحداً على القارئ، ويترك له مساحة كبيرة لتكوين رأيه وقناعاته.
معلومات المؤلف
اللواء طيار الدكتور هشام محمد إمام الحلبي
يشغل منصب مستشار في أكاديمية ناصـر العسكرية العليا
عضو مجلس إدارة، وعضو الهيئة الاستشارية لمركز بحوث الشـرق الأوسط والدراسات المستقبلية بجامعة عين شمس، وعضو المجلس المصـري للشؤون الخارجية، وعضو مجلس إدارة الجمعية المصـرية للأمم المتحدة
يعمل محاضـراً بأكاديمية ناصـر العسكرية العليا في موضوعات الأمن القومي والاستراتيجية والصـراعات المستقبلية، والمتغيرات الحالية والمستقبلية في أشكال الحروب والصـراعات
محاضـر في العديد من الجامعات والمعاهد العلمية المصرية