سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ، الفقيه القاضي والقائد المغوار:
أن يكون المسلم متميزاً في باب معيَّن من أبواب الخير فهذا شيءٌ عظيم يستحقُّ أن يُثني عليه الناسُ ويذكرونه، ولكن أن يكون المسلم فقيهاً وعالماً ومحدِّثاً وقاضياً ومعلِّماً ومجاهداً وأميراً للجيوش وقائداً لأساطيل أعالي البحار، ومرابطاً في سبيل الله حتى الموت، فهذا النوع من الرجال الأبطال لا بُدَّ أن نُؤَرِّخ له وبماء الذهب، وبطلنا هو أبو عبدالله أسد بن الفرات بن سنان الأمير الكبير، والفقيه البارع، والمحدِّث الثقة، وأمير المجاهدين.
مولده ونشأته
ولد أبو عبدالله أسد بن الفرات بن سنان في سنة 142 هجرية بمدينة حران في ديار بكر بالشام، ثم انتقل في سنة 144 هجرية إلى بلاد المغرب مع أبيه الفرات بن سنان الذي كان قائداً للمجاهدين الذين خرجوا لنشر الدين الإسلامي في بلاد المغرب، واستقر مع أبيه في مدينة القيروان.
ونشأ منذ صغره على حفظ كتاب الله وحب العلم ومجالسة العلماء، وأصبح معلماً للقرآن وهو دون الثانية عشرة من عمره، كما نجح في تحصيل العلوم الشرعية وبرع في الفقه وكان يميل دائماً إلى إعمال العقل.
سافر أسد بن الفرات إلى المدينة النبوية لسماع الموطأ من الإمام مالك مباشرة، ولاحظ الإمام مالك حرص أسد بن الفرات على سماع الحديث وشغفه بالعلم، ثم رحل بعد ذلك إلى العراق وفيها التقى كبار تلاميذ أبي حنيفة، ثم ارتحل من العراق إلى مصر وكان فيها أكثر تلاميذ مالك علماً وورعاً.
وفي سنة 181 هجرية عاد أسد بن الفرات إلى مدينة القيروان بعد رحلة علمية طويلة شاقة ولكنها كانت ناجحة علمياً؛ إذ تنقل فيها بين المدينة المنورة ومكة وبغداد والكوفة والفسطاط في طلب العلم، حتى صار من كبار علماء المغرب، وإماماً من أئمة المسلمين الذين بلغوا درجة الاجتهاد، وجلس بجامع عقبة بن نافع وأقبل عليه الناس من كل مكان من المغرب والأندلس، واشتُهِر أمره وشاع علمه وارتفع قدره، وكان أسد بن الفرات شديد الضبط والتحرير والدقة لكتبه حتى صار مضرب الأمثال في ذلك.
جهاده
كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، فقد ورث حب الجهاد عن أبيه الذي كان أمير المجاهدين في (حران)، حيث حمله أبوه أسد وخرج به مجاهداً في سبيل الله، فنشأ شجاعاً وكان جندياً جريئاً وبحَّاراً مغامراً واشترك، وهو ما زال في سن الشباب، في العديد من المعارك البحرية في مياه البحر المتوسط. كانت إفريقيا (تونس) واقعـة تحت حكـم دولة الأغالبة التي استقلت بحكم البلاد منذ سنة 184 هجرية ولكنها كانت تابعة للدولة العباسية، وكانت هذه الدولة في بداياتها معنيَّة بأمر الجهاد ونشر الإسلام، واتجه اهتمام ولاة هذه الدولة إلى الجزر الكبرى الواقعة في البحر المتوسط مثل جزيرة صقلية وكورسيكا وسردينيا وغيرها. ولكن التركيز الأكبر كان على جزيرة صقلية التي تعتبر من أكبر جزر البحر المتوسط مساحة وأغناها من حيث الموارد الاقتصادية وأفضلها موقعاً. وانتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكراً وذلك منذ عهد الصحابة وحاولوا فتحها مرات عديدة. وفي سنة 212 هجرية لما استُنفر الناس للجهاد وفتح صقلية هُرعوا لتلبية النداء، فجُمعَت السفن من مختلف السواحل، وكلَّف حاكم تونس آنذاك (ابن الأغلب) أسد بن الفرات على الحملة البحرية بالرغم من كبر سنه الذي بلغ سبعين سنة، وكان أسد بن الفرات شديد الحرص على الخروج في هذه الغزوة كواحد من المسلمين، ولكن الحاكم أصر على أن يتولى قيادة الحملة العسكرية ويكون قاضياً، فجمع له القيادة الميدانية والروحية نظراً لتأثيره في الناس وحبهم له.
فتح صقلية
كان أسد بن الفرات مع توسعه في علمه فارساً شجاعاً مقداماً، ففي أواخر حياته وقعت العديد من الإضرابات بجزيرة صقلية، والتي كانت تتبع الدولة البيزنطية، حيث وقع نزاع على حكم الجزيرة بين رجلين أحدهما اسمه يوفيميوس، وتسميه المراجع العربية فيمي، والآخر اسمه بلاتريوس، وتسميه المراجع العربية بلاطة، وانتصر الأخير على فيمي الذي فر هارباً إلى إفريقيا واستغاث بالأمير زيادة الله بن الأغلب حاكم إفريقيا، وطلب منه العون في استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة، وقد طلب أسد بن الفرات أن يكون مع المجاهدين في الحرب ضد الروم في جزيرة صقلية، فأبى الأمير خوفاً عليه، فألح أسد في طلبه وقال: وجدتم من يسير لكم المراكب من «الملاحين»، وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة.
وكان يريد أن يكون جندياً متطوعاً لا يريد الإمارة، فلما أعطاها له الأمير تألم وقال له: أَبعد القضاء والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟! فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة فأنت قاضٍ وأمير، وكان أول من جُمع له المنصبان، واجتمع الناس لوداع الجيش والأمير أسد بن الفرات، فقال أسد للناس في وداعهم: والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم تبلغوا به الدنيا والآخرة. وزحف الجيش إلى جزيرة صقلية سنة 212هـ
خرج أسد بن الفرات من القيروان في حملة عسكرية قَوامها عشرة آلاف جندي من المجاهدين المشاة وسبعمئة فارس بخيولهم في أكثر من مئة سفينة خرجت من ميناء مدينة سوسة الساحلية التونسية.
وفي سنة 212 هجرية تحرك الأسطول تجاه جزيرة صقلية ووصل إلى بلدة (فازر) في طرف الجزيرة الغربي بعد ثلاثة أيام من الإبحار، ودخل أسد بن الفرات على رأس جنده إلى شرقي الجزيرة، وهناك وجد قوة عسكرية رومانية بقيادة (فيمي) الذي كان قد طلب سابقاً مساعدة حاكم تونس لاستعادة حكمه على الجزيرة وعرض (فيمي) على القائد أسد بن الفرات الاشتراك معه في القتال ضد أهل صقلية، ولكن القائد المسلم العالِم بأحكام شريعته المتوكل على الله رفض ذلك.
وتمكن أسد بن الفرات من الاستيلاء على العديد من القلاع أثناء سيره إلى أن وصل إلى أرض المعركة عند سهل (بلاطة) نسبة إلى حاكم صقلية الذي أعد جيشاً ضخماً بلغ تعداده مئة ألف مقاتل، وهو يمثـل عشرة أضعاف جيش المسلمين.
وخطب أسد في جيشه فذكرهم بالجنة ووعْد الله عز وجل لهم بالنصر، وتلا عليهم بعض آيات من القرآن، وهو يحمل اللواء في يده، ثم اندفع للقتال والتحم مع الجيش الصقلي، واندفع الجنود المسلمون وراءه ودارت معركة طاحنة كان الأسد العجوز يقاتل فيها قتال الأبطال الشجعان، حتى أن الدماء كانت تجري على درعه ورمحه من شدة القتال وكثرة مَن قتلهم بيده وهو يحمِّس الجنود ويثبت عزائم المسلمين حتى تمكنوا من هزيمة الجيش الصقلي الذي فر قائده من أرض المعركة إلى روما.
وعلى إثر هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة (سرقوسة) وشدد عليها الحصار وجاءته الإمدادات من تونس وأوشكت المدينة على السقوط ولكن مع الأسف حل بالمسلمين وباء خطير يُعتَقَد بأنه الكوليرا.
وفاة أسد بن الفرات
بعد هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة سرقوسة ومدينة بَلَرْم، فشدَّد عليها الحصار، وجاءته الإمدادات من إفريقيا، واستطاع أسد بن الفرات أن يحرق الأسطول البيزنطي، الذي جاء لنجدة بَلَرْم، وأوشكت المدينة على السقوط، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث حلَّ بالمسلمين وباءٌ شديد، أغلب الظنِّ أنه الكوليرا أو الجدري، فاستشهد بسببه عدد كبير من المسلمين في مُقَدِّمتهم القائد المقدام أسد بن الفرات، فلاقى الموت مرابطاً مجاهداً بعيداً عن أهله وبيته وحلقات دروس العلم، مجافياً لفراشه وداره، مُؤْثِرًا مرضاة ربه ونصرة دينه، وذلك في شعبان سنة (213هـ= 828م)، ودُفن بمدينة قصريانه، وهكذا جمع أسد بن الفرات بين خصال الخير كلها من علم وورع، وجهاد وشهادة.