سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:
صحابي وقائد عسكري مسلم، كان مولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد تبناه قبل بعثته، وهو أول الموالي إسلاماً، ومن السابقين الأولين للإسلام، والوحيد من بين أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي ذُكر اسمه في القرآن. شهد زيد العديد من غزوات النبي، كما بعثه قائداً على عدد من السرايا. استشهد زيد في غزوة مؤتة وهو قائد جيش المسلمين أمام جيش من البيزنطيين والغساسنة يفوق المسلمين عدداً.
سيرته
ولد زيد بن حارثة قبل الهجرة النبوية بسبع وأربعين سنة، في ديار قومه بني كلب أحد بطون قضاعة، تعرض زيد للأسر وهو غلام صغير حيث اختطفته خيل بني القين بن جسر قبل الإسلام، حين أغارت على ديار بني معن أهل أمه وكان معها في زيارة لأهلها، فباعوه في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم. فلما تزوجها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهبته له. ثم مر زمن، وحج أناس من قبيلته كلب، فرأوه فعرفهم وعرفوه، ثم عادوا وأخبروا أباه بمكانه، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب يفتدونه. والتقوا النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا فداءه، فدعاهما إلى تخيير زيد نفسه، إن شاء بقي، وإن شاء عاد مع أهله من دون مقابل. ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «فأنا من قد علمت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما»، فقال زيد: «ما أنا بالذي أختار عليك أحداً. أنت مني بمكان الأب والأم»، فتعجّب أبوه وعمه وقالا: «ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟!»، قال: «نعم. إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً»، فلما رأى النبي محمد منه ذلك، خرج به إلى الحِجْر، وقال: «يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني». فلما رأى ذلك أبوه وعمه اطمأنا وانصرفا. فصار زيد يُدعي «زيد بن محمد».
إسلامه وصحبته للنبي محمد
ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الإسلام، كان زيد من السابقين الأولين للإسلام، فكان إسلامه بعد خديجة بنت خويلد وعلي بن أبي طالب، وقبل أبي بكر الصديق، وهو أول الموالي إسلاماً. ومنذ إسلامه، صحب زيد النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى يثرب، فهاجر زيد ونزل ضيفاً على كلثوم بن الهدم، ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، آخى بين زيد بن حارثة وحمزة بن عبدالمطلب، وقيل بينه وبين أسيد بن حضير.
شهد زيد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر، وهو الذي كان البشير إلى المدينة المنورة بالنصر. ثم شارك بعدها في غزوات أحد والخندق وخيبر، وشهد صلح الحديبية، كما استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة حين خرج إلى المُرَيسِيع، وعُرف عن زيد أنه من الرُماة المهرة. كما عقد له النبي صلى الله عليه وسلم اللواء في سبع سرايا، ثم عقد النبي صلى الله عليه وسلم له لواء غزوة مؤتة، وجعله القائد الأول على ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين يُقاتلون عدواً من الروم والغساسنة يفوقونهم عُدّةً وعتاداً، فأوصى المسلمين بترتيب القادة فقال: «فإن قُتل فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبدالله بن رواحة»، وقد صدق حدس النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قُتل زيد في المعركة طعناً بالرماح، وكان ذلك في جُمادى الأولى سنة 8 هـ، وكان عُمره يوم قُتل 55 سنة.
زواجه من زينب بنت جحش وإبطال التبني
تبنّى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، فكان أهل مكة يدعونه «زيد بن محمد»، وزوّجه من ابنة عمته زينب بنت جحش ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ (الأحزاب:36). ثم طلّق زيد زوجته زينب، وأراد النبي محمد الزواج منها، ولكنه تردد في الزواج منها كونها زوجة سابقة لمُتبنّاه إلى أن جاء الوحي يأمره بالزواج منها: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ (الأحزاب:37)، فأبطلت الآية الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دعيُّه، كما نزلت آية: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ (الأحزاب:5)، فأبطلت التبنّي ذاته، فدُعِيَ يومئذٍ زيد بن حارثة، ودُعي المقداد بالمقداد بن عمرو، وكان يقال له قبل ذلك المقداد بن الأسود، وكان الأسود بن عبد يغوث الزُهري قد تبناه، ودعي الأدعياء إلى آبائهم. وقد صدّق على ذلك قول ابن عمر: «ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد. فنزلت ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله»، إلا أن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش كان مدعاةً لتلاسن بعض أهل المدينة من المنافقين وطعنوا في الزواج، وقالوا: «محمد يُحرّم نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه زيد»، فنزلت آية: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ (الأحزاب:40).
صفته وأسرته
كان زيد بن حارثة قصيراً، شديد الأدمة، أفطس، وقيل كان شديد البياض، أحمر، وكان ابنه أسامة آدم شديد الأدمة. أما أسرته فقد زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم من مولاته وحاضنته أم أيمن، فولدت له أسامة، ولما تبنّاه زوّجه ابنة عمته زينب بنت جحش ثم طلّقها، وتزوّج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فأنجبت له زيداً لكنه مات صغيراً، ورُقية ماتت أخرى صغيرة ولكن بعد أبيها، ثم طلّقها وتزوّج درة بنت أبي لهب، ثم طلّقها وتزوّج هند بنت العوام بن خويلد أخت الزبير بن العوام.
مكانته
لم يُسَمَّ أحد من الصحابة في القرآن باسمه إلا زيد بن حارثة، كما كان لزيد بن حارثة مكانة عالية عند النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي أنه قال له: «يا زيد، أنت مولاي ومني وإلي وأحب القوم إلي»، وكان أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم يُسمونه «حِبُّ رسول الله»، ولما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وسلم مقتل زيد وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة في مؤتة، استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فقال: «اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لزيد، اللهم اغفر لجعفر، ولعبدالله بن رواحة»، ثم زار أهل بيت زيد، وأجهش بالبكاء حتى انتحب لما رأى بكاء رقية بنت زيد، فقال له سعد بن عبادة: «يا رسول الله ما هذا؟»، قال: «هذا شوق الحبيب إلى حبيبه». وحين قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث بعثاً، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، طعن بعض الناس في إمرته، فقام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم طعنتم في إمرة أبيه من قبله. وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده».
كما قالت عائشة بنت أبي بكر عن زيد: «ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سريّة، إلا أمره عليهم، ولو بقي لاستخلفه». وحين فرض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لأسامة بن زيد عطاءً من بيت مال المسلمين أكثر مما فرض لابنه عبدالله بن عمر، كلمه عبدالله في ذلك، فقال: «إنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وإن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك».
إعداد: نادر نايف محمد