سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:
هو أبو عبدالله عَمْرو بن العاص القرشي (575 م ـــــ 664 م)، صحابي وقائد عسكري، وأحد القادة الأربعة في الفتح الإسلامي للشام، وقائد الفتح الإسلامي لمصر.
كان عمرو من سادة قريش في الجاهلية، ومن فرسانها. أرسلته قريش إلى النجاشي ملك الحبشة ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده. حضر عمرو بن العاص غزوة بدر مع قريش ضد المسلمين، ثم حضر غزوة أحد، ثم غزوة الخندق. ولمّا عادت قريش إلى مكة بعد صلح الحديبية ذهب إلى الحبشة عند النجاشي، فوجده اعتنق الإسلام، فاعتنق الإسلام هناك على يد النجاشي في السنة الثامنة للهجرة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة، التقى خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فدخل ثلاثتهم المدينة المنورة معلنين إسلامهم. وحينها قال الرسول: «إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها».
استعمله أبو بكر قائداً عسكرياً في حروب الردة، ثم وجَّهه لفتح فلسطين على رأس سبعة آلاف مقاتل، ففتح سبسطية ونابلس واللد، ثم هبط جنوباً ففتح رفح، وعسقلان، وكان قد فتح غزة، وحاصر قيسارية، وبدأ حصار بيت المقدس، ثم انضم إليه أبو عبيدة بن الجراح، فأصبح تحت قيادة أبي عبيدة. ولما أُصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلفه على الشام.
بداية قتال عمرو في فلسطين
عندما وصل عمرو بن العاص مع قواته إلى أرض فلسطين، عَلِمَ باجتماع جيش العدو، وأنهم يزيدون على مائة ألف فارس، فجلس عمرو للمشورة، وعقد الراية وأعطاها عبدالله بن عمر بن الخطاب، وضم إليه ألف فارس، وأمرهم بالمسير للقاء جيش الروم، فالتقى ابن عمر طليعة من جيش الروم فهزمهم، ورجع المسلمون بعد أن جمعوا الغنائم والأموال، وفي اليوم التالي تجمع الروم للقتال مرة أخرى، وأقبل عمرو ورتب أصحابه وجعل في الميمنة الضحاك بن قيس الفهري، وفي الميسرة سعيد بن خالد، وأقام على الساقة أبا الدرداء، وعمرو بن العاص على القلب، وانتصر المسلمون في هذه المعركة كذلك بعد أن قتلوا من الروم نحو خمسة عشر ألف فارس.
معركة أجنادين
كتب الروم في الشام إلى هرقل يعلمونه بما كان من الأمر، فأمر هرقل بخروج الجيوش الرومية، وجعل جيشاً جراراً في مقابلة كل أمير من المسلمين، فبعث إلى عمرو بن العاص أخاه تذارق في تسعين ألفاً، وبعث جرجة بن توذرا إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان، وبعث الدراقص إلى شرحبيل بن حسنة، وبعث القيقار (اللقيتار بن نسطورس) في ستين ألفاً إلى أبي عبيدة بن الجراح.
لما علم أبو بكر، كتب إلى خالد بن الوليد بالعراق يأمره بالمسير إلى الشام في نصف الجيش، ويُأَمِّرُه على قيادة الجيوش في الشام بدلاً من أبي عبيدة، بينما عاد عمرو بن العاص نحو أجنادين الواقعة بين الرملة وبيت جبرين، وتوقف فيها ينتظر وصول جيش تذارق، ولما وصل تذارق انضم إليه نصارى العرب وغيرهم من أهل الشام آملين أن ينالوا نهائياً من المسلمين ويخرجوهم من فلسطين، لكن عمرو بن العاص أذاقهم مرّ الهزيمة.
فتح بيت المقدس
بعد هزيمة جيش الروم، كان سهلاً على جيش عمرو بن العاص دخول البلدات تباعاً، ففتح سبسطية الواقعة إلى الشمال الغربي من نابلس، ثم فتح نابلس، وأعطى أهلها الأمان على أنفسهم وأموالهم ومنازلهم على أداء الجزية والخراج، ثم فتح اللد ونواحيها، ثم هبط جنوباً ففتح رفح، وعسقلان، وكان قد فتح غزة في عهد أبي بكر. كما قاد عمرو بن العاص عملية حصار بيت المقدس بوصفه قائد الجبهة الفلسطينية، وواجه مقاومة ضارية من جانب حاميتها وسكانها، ووجد مشقة بالغة في امتصاص الهجمات البيزنطية، فأرسل إلى الأرطبون يطلب منه التسليم مثل بقية المدن ووعده بالأمان. واستعمل البيزنطيون المنجنيقات من فوق الأسوار.
وطال أمد الحرب، واضطر عمرو بن العاص، في هذه الظروف القتالية الصعبة، أن يكتب إلى عُمر بن الخطاب في المدينة المنورة يطلب منه المساعدة، فاستجاب لطلبه وأرسل إلى أبي عبيدة لينجده، وصحبه خالد بن الوليد. وأرسل إلى يزيد بأن يبعث أخاه معاوية لفتح قيسارية كي يشغل البيزنطيين على أكثر من جبهة، كما خرج عُمر بنفسه إلى الشام ليكون قريباً من مجرى الأحداث.
تسلم أبو عبيدة فور وصوله قيادة القوات الإسلامية، وعلم الروم أن عُمر آتٍ، فأدركوا أن مدينتهم لن تستطيع الاستمرار بالمقاومة وأن سقوطها أضحى مسألة وقت، فانسحب الأرطبون مستخفياً في قوة من الجند إلى مصر. وتسلم بطريرك المدينة صفرونيوس مقاليد الأمور، فعرض عليه أبو عبيدة الإسلام أو الجزية أو الحرب. واختار البطريرك تسليم المدينة لعُمر شخصياً، واستلم عُمر فور قدومه مفاتيح القدس، وأعطى عمر النصارى ما يٌعرف بالعهدة العمرية.
فتح مصر
اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية حين جاء إلى الشام ليتفقد أحوالها بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها. وقال: «إنك إن فتحْتها كانت قوةً للمسلمين وعونًا لهم». فعهد إليه قيادة الفتح ووضع بتصرفه خمسة آلاف جندي، وطلب منه أن يجعل ذلك سراً. وهكذا سار عمرو بن العاص إلى مصر مخترقاً صحراء سيناء ومتخذاً الطريق الساحلي.
وصل الجيش إلى العريش فوجدها خالية من القوات البيزنطية، فدخلها. ثم انحرف جنوباً تاركاً طريق الساحل، حتى وصل إلى الفرما.
ضرب عمرو الحصار على الفرما، وتحصنت حاميتها البيزنطية وراء الأسوار، وجرت مناوشات بين الطرفين استمرت مدة شهر، ثم اقتحمها المسلمون، بعدها سار إلى بلبيس، وضرب عمرو الحصار على المدينة وقاتل حاميتها الرومية شهراً. وكان الروم قد تحصنوا فيها بقيادة الأرطبون، وكان بها «أرمانوسة» ابنة المقوقس، وقد جهزها بأموالها وجواريها وغلمانها وهي في طريقها نحو قيسارية لتتزوج من قسطنطين الثالث. ودخل المسلمون مدينة بلبيس. وأرسل عمرو بن العاص أرمانوسة في جميع مالها إلى أبيها المقوقس، في صحبة قيس بن سعد بن عبادة.
سار عمرو بن العاص من بلبيس متاخماً للصحراء، فمر بمدينة عين شمس ثم هبط إلى قريةٍ على النيل اسمها «أم دنين»، وتقع إلى الشمال من حصن بابليون، وعسكر قريباً منها. ولما علم المقوقس بذلك قَدِمَ من الإسكندرية إلى حصن بابليون ليُشرف على القتال بنفسه. وجرت مع حامية المدينة بعض المناوشات على مدى عدة أسابيع لم تسفر عن نتيجة حاسمة. فأرسل عمرو إلى الخليفة عمر يستحثه في إرسال مدد. فأرسل له مدداً بقيادة الزبير بن العوام، ويذكر المؤرخون المسلمون أن المدد كان اثني عشر ألف مقاتل، واغتبط المسلمون بقدوم كبار الصحابة أمثال: الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وسقطت بعدها حامية أم دنين. وتمكن بعض الروم وقادتهم من الفرار إلى حصن بابليون. وبعد وصول الإمدادات بدأ عمرو في إرسال الفرق العسكرية للسيطرة على الأقاليم المختلفة، فأرسل فرقة من الجنود للسيطرة على مدينة الفيوم، وتوغلت في جنوبي الدلتا فاستولت على أثريب ومنوف.
ولايته الأولى على مصر
بعد تمام فتح مصر، كتب عمر بن الخطاب إلى واليه عمرو بن العاص يسأله عن أوضاع البلاد طالباً منه أن يصفها إليه، فكتب عمرو بن العاص رسالة إليه يشرح أحوال مصر ووصفها، وأصبح عمرو والي مصر المعين من قبل الخليفة عمر بن الخطاب، وبدأ عمرو بالقيام بالإصلاحات والأعمال الإدارية.
وفاته وضريحه
توفي ليلة عيد الفطر سنة 43 هـ في مصر وله من العمر تسع وثمانون سنة، ودفن قرب المقطم.
دهاؤه
عُرف عمرو بالدهاء والذكاء والفطنة قبل الإسلام وبعده، حتى وُصف بأدهى العرب أو «داهية العرب». ولقبه عمر بن الخطاب في معركة أجنادين بأرطبون العرب، وقال: «لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عما تنفرج»، ويقصد بذلك أن كلا القائدين أدهى الرجال في قومه. وقال عامر الشعبي: «أدهى العرب أربعة: معاوية، وعمرو والمغيرة، وزياد. فأمّا معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة للمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير».
إعداد: نادر نايف محمد