الموضوع الديني

محمد بن القاسم الثقفي.. فاتح بلاد السند

سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:

محمد بن القاسم الثقفي، قائد أحد جيوش الفتح، اشتهر بكونه فاتح بلاد السند. كان والده «القاسم الثقفي «والياً على البصرة، وهو ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي.

نسبه ونشأته

ولد عام 72هـ بمدينة الطائف في أسرة معروفة، فقد كان جده محمد بن الحكم من كبار ثقيف، وفي عام 75هـ عُيِّن الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على العراق والولايات الشرقية التابعة للدولة الأموية، في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان، فعَيَّن الحجاج عمَّه القاسم والياً على مدينة البصرة، فانتقل الطفل محمد بن القاسم إلى البصرة، فنشأ محمد بين الأمراء والقادة: فوالده أمير، وابن عم أبيه الحجاج أمير، وأكثر بني عقيل من ثقيف قوم الحجاج أمراء وقادة، وكان لذلك الأثر الكبير في شخصية الطفل محمد.

بنى الحجاج مدينة واسط التي صارت معسكراً لجنده الذين يعتمد عليهم في الحروب، وفي هذه المدينة وغيرها من العراق نشأ وترعرع محمد بن القاسم وتدرب على الجندية، حتى أصبح من القادة وهو لم يتجاوز بعد 17 عاماً من العمر.

فتح السند

كانت بلاد السند (باكستان الآن) هدفاً لحركة الفتح الإسلامي أيام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أرسل عامله على البحرين عثمان بن أبي العاص جيشاً بقيادة أخيه “الحكم” إلى ساحل الهند عند مدينة “تانة” وذلك سنة 15 هجرية،  ثم إلى مدينة “بروص” ثم إلى “خور الديبل” وحقق خلالها عدة انتصارات، ولكن الخليفة خاف من مواصلة الغزو خوفاً على المسلمين من بُعد الديار، وكان ذلك أيضاً رأي أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة أرسل الحارثة بن مرة العبدي إلى السند فأغار على أطرافها وظفر منها وظل بها حتى استشهد في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة 42 هجرية.

حدث تطور كبير في غزو السند أيام معاوية بن أبي سفيان، حيث أمر القائد الشهير المهلب بن أبي صفرة بغزوها، ثم غزاها عبدالله بن سوار العبدي، ثم سنان بن سلمة الهذلي ففتح “مكران” ومصَّرها وأسكنها العرب، وهذا أول جزء من غربي البنجاب يدخل في دولة الإسلام، وبعد ذلك فصل المسلمون بين بلاد الهند وبلاد السند، فلما تولى الحجاج بن يوسف الثقفي جعل من أولوياته فتح بلاد السند، وقد رأى أن هذا الفتح لن يتم إلا بجيش قوي وقائد محنك، ووقع الاختيار على “محمد بن القاسم” وكان ذلك سنة 89 هجرية، حيث جاءته الفرصة بعد أن استولى قراصنة السند من الديبل بعِلْم من ملكهم» داهر«  في عام 90 هـ على 18 سفينة بكل ما فيها من الهدايا والبحارة والنساء المسلمات، اللائي عمل آباؤهن بالتجارة وماتوا في سرنديب وسيلان، فصرخت مسلمة من بني يربوع  »وا حجاجاه، وا حجاجاه»، وطار الخبر للحجاج باستغاثتها.

حاول الحجاج بن يوسف الثقفي استرداد النساء والبحارة بالطرق السلمية، ولكن» داهر« اعتذر بأنه لا سلطان له على القراصنة، فثارت ثائرة الحجاج، وأعد جيشاً تلو الآخر، الأول بقيادة عبدالله بن نهبان فاستشهد، ثم أرسل الحجاج بديل بن طهفة البجلي فاستشهد أيضاً،

فاستشاط الحجاج غضباً بعد أن رأى قادة قوّاته يتساقطون شهيداً تلو شهيد، فأقسم ليفتحن هذه البلاد، وينشر الإسلام في ربوعها، فقرّر القيام بحملة منظمة، ووافق الخليفة الوليد بن عبدالملك، بعد أن تعهد له الحجاج أن يرد إلى خزينة الدولة ضعف ما ينفقه على فتح بلاد السند.

وقع اختيار الحجاج على محمد بن القاسم الثقفي ليقود جيش الفتح، لِما رآه فيه من حزم وبسالة وفدائية، فجهّزه بكل ما يحتاج إليه في ميدان القتال من عتاد، وتحرك محمد بن القاسم الثقفي بجيشه المكون من 20 ألف مقاتل من صفوة الجنود، فاجتاز الجيش حدود إيران في عام 90هـ إلى الهند، وبرزت مواهب محمد بن القاسم الفذة في القيادة وإدارة المعارك، فحفر الخنادق، ورفع الرايات، والأعلام، ونصب المنجنيقات، ومن بينها منجنيق يقال له العروس، كان يقوم بتشغيله خمسمائة، تُقْذَفُ منه الصخور إلى داخل الحصون فيدكها دكاً.

معركة الراور

بعد ذلك اتجه نحو بلاد السند، فبدأ بفتح مدينة بعد مدينة لمدة سنتين، ثم زحف إلى الديبل (كراتشي حالياً)، فخندق الجيش بخيوله، وأعلامه، واستعد لمقاتلة الجيش السندي المكون من 50 ألف مقاتل، بقيادة الملك »راجا داهر« حاكم الإقليم، في معركة مصيرية عام 92هـ،  فانتصر المسلمون، وقُتل ملك السند في الميدان، وسقطت العاصمة السندية في أيدي المسلمين.

فتح مدينة الكيرج (مومباي حالياً)

تابع محمد بن القاسم تقدمه في بلاد السند، وخضعت له مدنها، ولم يبقَ أمامه إلا قوة الملك

»دوهر« ملك الكيرج، فأرسل محمد بن القاسم الغنائم إلى الحجاج، وكانت ضِعْف ما أنفقه، فقال الحجاج: شفينا غيظنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا (60) ألف ألف درهم ورأس داهر.

مات الحجاج بن يوسف الثقفي في عام (95هـ) أثناء معركة الكيرج، والتي استطاع فيها المسلمون بقيادة محمد بن القاسم الانتصار وقتل ملك الكيرج  »دوهر«، ولكن استمر محمد بن القاسم الثقفي في فتوحاته لبقية أجزاء بلاد السند، ونجح في بسط سلطانه على إقليم السند، وفتح مدينة الديبل في باكستان، وامتدت فتوحاته إلى ملتان في جنوب إقليم البنجاب، وانتهت فتوحاته عام 96هـ عند الملتان، وهي أقصى ما وصل إليه محمد بن القاسم من ناحية الشمال، فرفرف عليها علم الإسلام، وبذلك قامت أول دولة إسلامية في بلاد السند والبنجاب (باكستان حالياً).

عزل محمد بن القاسم الثقفي

تابع محمد بن القاسم فتوحاته حتى وصل إلى مملكة  »قنوج«، على حدود الهند، فأوفد رسله إلى ملكها يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فردّ الرسل بعد أن أساء إليهم، فأعدّ محمد بن القاسم (10) آلاف فارس، وبدأ يتهيأ للقتال، وأثناء ذلك وصلت الأخبار بوفاة الوليد بن عبدالملك وبيعة سليمان بن عبدالملك خليفة للمسلمين، فأمر الخليفة بعزل محمد بن القاسم الثقفي وعين مكانه »يزيد بن أبي كبشة«.

حاول بعضُ أنصار محمد بن القاسم إغراءَه بإعلان العصيان والتفرد بحكم بلاد السند البعيدة عن مركز الخلافة، لكنه رفض، وأعلن الولاء والطاعة لخليفة المسلمين سليمان بن عبدالملك.

صفاته

بدت على محمد بن القاسم الثقفي أمارات النجابة والشجاعة وحُسن التدبير في الحرب منذ نعومة أظفاره، مما جعل الحجاج بن يوسف الثقفي يعينه أميراً على ثغر السند وهو لم يتجاوز 17 عاماً، وكان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير، وفي العدل والكرم، إذا قورن بكثير من الأبطال، وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة، ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء، وقد سحر الهنود بعدله وسماحته، فتعلقوا به تعلقاً شديداً.

وكان من دأب محمد بن القاسم الثقفي أن يجنح إلى الصلح والسلم ما وسعه ذلك، وقد أوصاه بذلك الحجاج بن يوسف الثقفي: «إذا أردت أن تحتفظ بالبلاد فكن رحيماً بالناس، ولتكن سخياً في معاملة من أحسنوا إليك، وحاول أن تفهم عدوك، وكن شفوقاً مع من يعارضك، وأفضل ما أوصيك به أن يعرف الناس شجاعتك، وأنك لا تخاف الحرب والقتال«.

وكان محمد بن القاسم يتصف بالتواضع الرفيع، فكان في جيشه من يكبر أباه سنّاً وقدراً، فلم تجنح نفسه معهم إلى الزهو والمباهاة، ولكنه لم يكن يقطع أمراً إلا بمشورتهم، بَنَى المساجد في كل مكان يغزوه، وعمل على نشر الثقافة الإسلامية مبسطة ميسرة.

استطاع محمد بن القاسم أن يبهر الهندوس بشخصيته القوية الحازمة، وقد تعجبوا من شجاعته وحسن قيادته لجيش كبير وهو دون الثامنة عشرة، وبالفعل أسلم عدد كبير من الزُّط وهم من بدو الهنود وانضم منهم أربعة آلاف رجل يقاتلون مع محمد بن القاسم وكان لهم أثر كبير في القتال لخبرتهم بالبلاد ومعرفتهم للغة الهنود.

كانت الأخبار قد وصلت إلى ملك الهند الوثني “داهر” فاستعد للقاء المسلمين بجيوش كبيرة مع سلاح المدرعات الشهير وهي الفيلة، وقد داخله الكبر والعجب لضخامة جيوشه واستخف بالمسلمين لقلتهم، ولكنه فوجئ بالإعصار الإسلامي يعبر نهر “مهران” الفاصل بينه وبين المسلمين، ويجد “داهر” الذي كان على ظهر فيل كبير نفسه وجهاً لوجه مع محمد بن القاسم وجنوده، واقتتل الفريقان قتالاً مهولاً لم تشهد مثله أرض السند من قبل، ويرى “داهر” جنوده صرعى من حوله تتخطفهم سيوف المسلمين، فنزل من على ظهر فيله المنيع ليقاتل بنفسه حتى يأتيه قدره المحتوم ويقتله المسلمون، وبمقتله أدرك المسلمون ثأرهم وانفتحت أمامهم بلاد السند على مصراعيها.

وفاته

وصل محمد بن القاسم الثقفي إلى العراق وبقي هناك حتى مات في عام 95هـ، عن عمر يناهز 23 عاماً، ويقع ضريحه في مدينة النعمانية بمحافظة واسط.

إعداد: نادر نايف محمد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض