توسعت استخدامات الطائرات المسيرة بشكل واسع في الحروب الحديثة، وهو ما يتضح من متابعة الحرب الروسية – الأوكرانية، إذ يتم استخدام كافة أنواع الطائرات المسيرة للقيام بعمليات متعددة، من الاستطلاع والتجسس واكتساب الهدف، إلى المهام التدميرية، كاستهداف أفراد القوات المسلحة للخصم، أو حتى تدمير المدرعات العسكرية. ونظراً لهذا التطور، فإن العديد من المحللين العسكريين يتوقعون أن تكون المقاتلات المسيّرة الشبحية هو التطور الطبيعي القادم.
ويؤكد ذلك الاعتقاد إعلان وزير شؤون سلاح البحرية الأمريكي، راي مابوس، أن المقاتلة «إف – 35» يجب أن تكون آخر طائرة مقاتلة مأهولة ستشتريها البحرية الأمريكية، أو تطير بها على الإطلاق. ومنذ ذلك الحين، تم بنجاح اختبار طائرات مسيّرة فتاكة توفر سرعات ومدى أكبر، وقدرة أكبر على التخفي، كما أطلقت القوات الجوية للولايات المتحدة برنامج تطوير سريع لإنتاج طائرات مسيرة هجومية منخفضة التكلفة مع أداء أكثر تقدماً يشبه أداء الطائرات المقاتلة، غير أن الولايات المتحدة ليست وحدها هي التي تطور مثل هذا النوع من المسيرات، إذ إن هناك 20 دولة تنتج طائرات مسيرة لأغراض قتالية، بما في ذلك الدول الثلاث الكبرى، الولايات المتحدة وروسيا والصين. وسوف تلقي هذه الدراسة الضوء على أبرز هذه المقاتلات، وتداعياتها على الصراعات الحديثة.
مقاتلات مسيّرة شبحية
تتعدد الأمثلة على نماذج المقاتلات المسيرة، والتي هي إما تحت الإنتاج، وإما تم تصنيعها ودخلت بالفعل الخدمة، ولعل أبرز الأمثلة في هذا الإطار ما يلي:
استخدام روسيا مقاتلة مسيرة ضد أوكرانيا: تشير مصادر غربية إلى أن روسيا قامت بالفعل باستخدام المقاتلة المسيرة بعيدة المدى «إس 70 أوخوتنيك» (S-70 Okhotnik) أو «الصياد» لتنفيذ هجمات ضد أوكرانيا، في يونيو 2023، حيث ضربت المنشآت العسكرية الأوكرانية في مناطق سومي وكريمنشوك، لتكون بذلك أول دولة تقوم بإنتاج طائرة مسيرة شبحية، قادرة على حمل صواريخ موجهة، واستخدامها في عمليات قتالية، ولتسبق بذلك الولايات المتحدة والصين.
ويلاحظ أن المسيّرة الروسية الجديدة من إنتاج شركتي سوخوي وميج. ويتم إنتاجها إلى جانب مقاتلات الجيل السادس، إذ إنه من المتصور أن يكون الهدف من إنتاج «الصياد» أن تقوم بمرافقة، وتوفير الإسناد القتالي للمقاتلات الروسية المأهولة، على غرار مقاتلة الجيل الخامس «سوخوي – 57». وتخطط روسيا مستقبلاً لأن تكون المقاتلة الأخيرة قادرة على التحكم في عدة مقاتلات مسيّرة من طراز «الصياد» خلال فترة زمنية وجيزة. وتصل سرعة المقاتلة المسيرة الروسية إلى 1000 كيلومتر في الساعة، ويصل مداها إلى 6000 كيلومتر، كما تستطيع حمل أسلحة تصل زنتها إلى حوالي 2.8 طن من الأسلحة. وهناك قناة اتصال أو رابط بيانات يستند إلى الذكاء الاصطناعي، وذلك لتمكين المقاتلة «سو – 57» و«إس 70» من التواصل الفعّال، حتى لو تعرضت للتشويش، كما يمكنها أيضاً توفير النقل المتزامن للبيانات في جميع الاتجاهات، بما في ذلك جو – أرض أو جو – جو، مع زيادة نطاق البيانات المرسلة.
وبرزت عدة تقديرات تشكك في قدرة روسيا على إنتاج المقاتلة المسيرة، وذلك على أساس أن موسكو لا تمتلك محركات كافية لاستخدامها في هذه النوعية من الطائرات المسيرة، خاصة وأن الخطة الروسية الأصلية تعتمد على استخدام محركات الديزل من طراز «ريد آي 03» (RED A03) الألمانية الصنع، وبطبيعة الحال، فإنه من غير الوارد أن تستطيع موسكو استيراد هذه النوعية من المحركات بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والعقوبات الغربية الجماعية ضد موسكو. ومن جهة أخرى، فإن روسيا، وفقاً للتحليل السابق، تبحث عن تطوير بديلين للمحرك الألماني. الأول هو المحرك التوربيني «في كي – 800 إس إم» (VK-800SM)، غير أنه من غير المقرر أن يحصل المحرك على الشهادة الرسمية حتى نهاية عام 2024. كما أنه لن يبدأ الإنتاج التسلسلي لـ 30 محركاً سنوياً حتى عام 2025. أما الخيار الثاني، فهو محرك «آي بي دي – 500» (APD-500)، والذي تم تطويره من قبل المعهد المركزي الروسي لمحركات الطيران المملوك للدولة بالتعاون مع المعهد المركزي للبحث العلمي للسيارات ومحركات السيارات. وتشكك نفس التقديرات السابقة في قدرة روسيا على إنتاجه، غير أنه من الواضح من رصد «الصياد» فوق أوكرانيا أن روسيا تمكنت من التغلب على العقبات السابقة. وسوف تشرع في إنتاج المسيرة بدءاً من العام الحالي.
تجريب واشنطن مقاتلة مسيرة في منتصف 2023: أعلن مختبر أبحاث القوات الجوية الأمريكية، في 2 أغسطس 2023، أن برنامج الذكاء الاصطناعي نجح في إطلاق مقاتلة مسيرة من طراز «إكس كيو – 58 آي فالكيري» (XQ-58A Valkyrie)، وأن الطلعة الجوية للمقاتلة المسيرة استمرت ثلاث ساعات في 25 يوليو 2023، بفلوريدا. وجاءت الرحلة التجريبية بعد عامين من العمل على المقاتلة. وقد تمت التجربة السابقة مع المقاتلة الأمريكية من طراز «إف – 15». ويلاحظ أن إمكانية بناء أساطيل من الأسلحة الذكية، ولكن غير المكلفة نسبياً، والتي يمكن نشرها بأعداد كبيرة سوف يسمح لمسؤولي البنتاجون بالتفكير بطرق جديدة حول هزيمة قوات العدو.
وتخطط الولايات المتحدة أن تقوم المقاتلة المسيرة الجديدة إما بدعم المقاتلات الأمريكية المأهولة، وإما التحليق في أسراب من المقاتلات المسيرة لتنفيذ عمليات عسكرية. وتستطيع المقاتلة المسيرة الأمريكية التحليق لمسافة تصل إلى 4800 كيلومتر.
مقاتلات شبحية صينية مدعومة بالذكاء الاصطناعي: أكد خبراء عسكريون صينيون، في 2019، أن الصين تخطط لدمج الذكاء الاصطناعي في أنظمة الطائرات المسيرة، حتى تتمكن من إنتاج مقاتلات مسيرة، وذلك لتمكينها من التحليق بمفردها وتحديد الأهداف واتخاذ القرارات لتعزيز قدرتها القتالية، وذلك وفقاً لـ «لي يي دونغ»، كبير مصممي سلسلة الطائرات بدون طيار الصينية «وينج لونج».
وترجع رغبة الصين في إنتاج مقاتلات مسيرة تعمل بالذكاء الاصطناعي إلى حقيقة أن الطائرات المسيرة تعمل اليوم من خلال طيار أرضي يقوم بتوجيهها من المحطات الأرضية، غير أن هذا النمط من الطائرات المسيرة يجعلها عرضة للتشويش على الإشارات التي تربطها بمركز القيادة، وذلك من خلال الحرب الإلكترونية، ومن ثم يُفقد الطائرة قدرتها القتالية، غير أن تثبيت أنظمة الذكاء الاصطناعي على المقاتلات المسيرة يمكن أن يحل هذه المشكلة، إذ إنها سوف تكون قادرة على اتخاذ قرارتها بشكل مستقل، حتى في حالة فقدها الاتصال بالمحطة الرئيسية، كما أن الطائرات المسيرة التي تسافر لمسافات طويلة تواجه مشكلة أخرى، وهي تأخر نقل البيانات، وهو أمر حيوي في حالة القتال الجوي الذي تتغير فيه مواقف المعركة بسرعة كبيرة، وتحتاج إلى قرارات حاسمة. ويبدو أن الذكاء الاصطناعي سوف يقدم الحل لمثل هذه المشاكل.
التداعيات على معارك المستقبل
يلاحظ أن تطور إنتاج الطائرات المسيرة الشبحية سوف يحفز البحث عن تطوير أنظمة دفاع جوي مضادة لها، بالإضافة إلى تحفيز الجهود الرامية إلى تطوير الذكاء الاصطناعي، ويمكن توضيح ما سبق على النحو التالي:
تراجع دور البشر: سوف يثير تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الحروب الحديثة في إثارة الأسئلة حول تأثير ذلك على القانون الدولي الإنساني، والمعني بمحاربة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وقت المعارك القتالية، إذ إنها سوف تثير الجدل والنقاش حول الدور الذي يجب أن يلعبه البشر في الصراعات التي تخوضها برمجيات مصممة للقتل، وهو جدال صعب بالنسبة للولايات المتحدة، نظراً لسجلها من الضربات الخاطئة التي تشنّها طائراتها المسيرة، والتي تلحق خسائر في صفوف المدنيين.
فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز، في إحدى تحقيقاتها، عن وثائق صادرة من البنتاجون الأمريكي تكشف عن معلومات استخباراتية مغلوطة، وعمليات استهداف خاطئة، وسنوات من سقوط آلاف القتلى بين صفوف المدنيين من بينهم العديد من الأطفال باستخدام الطائرات المسيرة. وإذا ارتكبت هذه الأخطاء من جانب الطائرات المسيرة، والتي يوجهها البشر، فإن مخاطر توظيف الذكاء الاصطناعي الكامل في توجيه المقاتلات، وإعطاء الآلة التقدير في إصدار القرارات بالقتل قد يترتب عليها انتهاكات جسيمة أكبر لحقوق الإنسان.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الجدل الإنساني لن يقف أمام اتجاه الدول لتطوير مقاتلات مسيرة، إذ إن امتلاك إحدى الدول الكبرى لمقاتلات مسيرة سوف يدفع حتماً باقي الدول لتطوير أنظمة مماثلة، وذلك دون اكتراث كبير بهذا الجدل الأخلاقي، إذ إن مثل هذه الجوانب قد ينظر إليها على إنها تحديات قابلة للمعالجة في المستقبل. مع ذلك يجب على الدول أن تأخذ مثل هذا العامل في الاعتبار وعدم الاستهانة به.
الحاجة إلى نظم دفاع جوي: تكشف التطورات السابقة أن العديد من الدول بات بإمكانها تطوير مقاتلات مسيرة، والتي سوف تدخل الخدمة خلال فترة وجيزة، بل ومن المتوقع أن يتم إنتاج هذه المسيرات بأعداد كبيرة، بحيث يمكن تكوين أسراب منها، ولا شك أن مثل هذا الأمر سوف يعزز من الجهود العسكرية الرامية إلى تطوير نظم دفاع جوي قادرة على اعتراض أسراب المقاتلات المسيرة. ويلاحظ أنه لا يوجد، حتى الآن، نظم دفاع جوي قادرة على توفير الحماية للدولة من هجمات الطائرات المسيرة بشكل كامل، غير أن البعض يرى أنه ينبغي دمج المقاتلات المسيرة مع نظم الدفاع الجوي لمواجهة مثل هذا التحدي.
وعلى الجانب الأخر، يرى البعض الآخر ضرورة تطوير الذكاء الاصطناعي، ودمجه في نظم الدفاع الجوي، بحيث يمكن اتخاذ قرارات سريعة ودقيقة للتعامل مع تهديدات الطائرات المسيرة. كما يقترح البعض الآخر الاعتماد على الحرب الإلكترونية وأسلحة الليزر. وفيما يتعلق بالحرب الإلكترونية، فقد كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية عن أهميتها في مواجهة الطائرات المسيرة، إذ تطلق أوكرانيا عشرات الآلاف من الطائرات المسيرة شهرياً، غير أن أغلبها لا يصل إلى هدفه، بسبب كفاءة الحرب الإلكترونية الروسية، والتي وصفها البعض باعتبارها «مقصاً غير مرئي يقطع الاتصال لجهاز يتم التحكم فيه عن بعد»، وفقاً لميكولا كوليسنيك، قائد وحدة الطائرات المسيرة الأوكرانية.
ومن جهة أخرى، فإن تطوير أسلحة الليزر لمواجهة تحديات الطائرات المسيرة بات قريباً، ففي عام 2017، بدأ الجيش البريطاني في تطوير «دراجون فاير» (DragonFire)، وهو أول سلاح ليزر طويل المدى وعالي القوة. وفي 19 يناير 2024، أظهر الجهاز قدرته على إسقاط طائرات مسيرة لأول مرة. وعلى الرغم من أن تطوير أسلحة الليزر يكلف الكثير، فإن تكلفة الطلقة الواحدة يمكن أن تصل إلى دولار واحد، بينما يصل سعر الصاروخ الواحد إلى أكثر من مليون دولار. ونظراً لأن سلاح الليزر لا يحتوي على مقذوفات مادية، فلا تثار مخاوف أبداً بشأن إمكانية نفاد الذخيرة أيضاً، فهو يمكنه إطلاق النار طالما أنه يحتوي على مصدر للطاقة. وصحيح أن مثل هذه الأنظمة تستخدم لإسقاط طائرات مسيرة صغيرة أو متوسطة الحجم، غير أن مثل هذه التكنولوجيات السابقة يمكن تطويرها كذلك لمواجهة مقاتلات المستقبل المسيرة.
مخاطر اختراق المسيرات: إذا كان من المسلَّم به أن أي جهاز مسيَّر، مثل الطائرات أو المركبات المسيرة المدنية، هي عرضة للاختراق والهجمات الإلكترونية، فإن الأمر ليس بهذه السهولة بالنسبة إلى الأنظمة العسكرية، إذ يتم تجهيز الطائرات المسيرة العسكرية ببروتوكولات مصادقة وتشفير قوية للحماية من الوصول غير المصرح به لها. وبالإضافة إلى ذلك، يتم تنفيذ تدابير الأمن المادي لحماية الطائرات المسيرة من العبث المادي. ومع ذلك، فإن ما سبق لا يعني أن هذه الطائرات محمية تماماً من الهجمات الإلكترونية، أو السيبرانية، إذ إنه بمراجعة الحرب الروسية – الأوكرانية، تمكنت روسيا، وكما سبقت الإشارة، من إسقاط العديد من الطائرات المسيرة الأوكرانية باستخدام التشويش الإلكتروني، كما سرت معلومات في وسائل الإعلام تتحدث عن رفض واشنطن إمداد أوكرانيا بطائرات مسيرة أمريكية حديثة، خوفاً من أن تسقط في يد روسيا، ولذلك فإن الهاجس المتعلق بإمكانية اختراق طائرات مسيرة سوف يظل أمراً محتملاً، وهو ما يتطلب من الدول توجيه استثمارات لتأمين مقاتلاتها المسيرة من الاختراق، حتى لا يتم اختراقها، وتوجيهها لشن هجمات ضد الدولة المطلقة لها.
الخلاصة
يمكن القول إن تطوير المقاتلات المسيرة هو التطور الطبيعي في ظل تنامي استخدام الطائرات المسيرة، متوسطة وصغيرة الحجم، في المعارك الحديثة حول العالم، بالإضافة إلى تنامي تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي تجعل من إمكانية تطوير مقاتلات مسيرة حقيقة واقعة في المستقبل القريب، خاصة وأن روسيا والولايات المتحدة تمتلكان بالفعل نماذج تجريبية لها، وسوف تشرعان في إنتاجها قريباً. ومع ذلك، فإنه يلاحظ أن تطوير هذه المنظومات العسكرية سوف يؤدي إلى مخاطر غير هينة، خاصة فيما يتعلق بمدى قدرتها على تجنب الإضرار بالمدنيين، وكذلك الحاجة إلى تطوير أنظمة دفاع جوي مضادة لها، بالإضافة إلى حمايتها من الاختراق الخارجي.
» د. شادي عبدالوهاب (أستاذ مشارك بكلية الدفاع الوطني أبوظبي (