أعلنت اليابان، التي يطلق عليها «أرض الشمس المشرقة»، في السادس عشر من ديسمبر 2022، على لسان رئيس وزرائها «فوميو كيشيدا»، في خطاب متلفز، استراتيجية دفاعية غير مسبوقة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، من خلال ثلاث وثائق، كحجر أساس للسياسات الخارجية والأمنية للبلاد. وهذه الوثائق تتضمن الملامح الرئيسية للسياسة الدفاعية للدولة، وتحدد الأهداف الدفاعية ووسائل تحقيقها، وحجم الإنفاق العسكري خلال العشرة أعوام القادمة.
تنص الاستراتيجية الجديدة على أن يكون الدفاع هو المحور الأساسي لتعزيز القوة العسكرية، وألا يكون الهدف أن تصبح اليابان دولة عسكرية، بالرغم من التشديد على إمكانية شن هجوم مضاد. وبذلك تنهي اليابان عقوداً من تبني سياسة التعايش السلمي، والالتزام بعدم امتلاك قوة عسكرية.
وأقرت اليابان في استراتيجيتها الدفاعية الجديدة، زيادة ميزانيتها العسكرية السنوية، والتي جاءت معبرة عن تخوفاتها إزاء بعض جيرانها بعبارات أشد مما كانت عليه عند نشر استراتيجيتها للأمن القومي لأول مرة في عام 2013، والتي تضمنت أن اليابان «تسعى إلى شراكة استراتيجية للمنفعة المتبادلة». وهذه التغييرات تشكل تبدلاً كبيراً لهذه الدولة التي تعتمد دستوراً سلمياً أقر غداة هزيمتها في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدأ تطبيقه في عام 1947، وجعل تركيزه على قوة الاقتصاد والتجارة، التي لاحظها الرئيس الفرنسي الأسبق، الجنرال شارل ديجول، عندما استقبل رئيس الحكومة اليابانية عام 1964، وقال: «حسبت أني أستقبل رجلاً سياسياً، وإذا بي أمام تاجر أجهزة الترانزستور». بيد أن تلك الفترة من التاريخ الياباني، التي دفعت الجنرال ديجول إلى إطلاق عبارته تلك، أصبحت جزءاً من الماضي، في ظل التوجه الحالي لليابان نحو إعادة بناء قدراتها العسكرية.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى أنه في الخامس عشر من ديسمبر 2006، أقر البرلمان الياباني إنشاء وزارة دفاع في البلاد، وذلك للمرة الأولى منذ عام 1945، عندما جردتها الولايات المتحدة من حق إنشاء هذه الوزارة. وتحولت وكالة الدفاع اليابانية إلى وزارة، تتمتع بسلطة أكبر، فيما يتعلق بتقديم طلبات اعتماد الموازنة الخاصة بها، رغم أن القوات اليابانية ظلت تسمى «قوات الدفاع الذاتي»، وكانت قبل الحرب تسمى «جيش اليابان الإمبراطوري»، كما تغير وضع القوات العاملة خارج البلاد من كونها «في مهمة غير عادية»، تتطلب موافقة من البرلمان، إلى «مهمة تتولاها وزارة الدفاع». وسيتم تشكيل قيادة مشتركة، تضم الأفرع العسكرية الثلاثة لقوات الدفاع الذاتي: البحرية، والجوية، والبرية، إضافة إلى زيادة قدرة البلاد في مجال الفضاء والحرب السيبرانية.
زيادة الانفاق العسكري
نصت الاستراتيجية الدفاعية الجديدة لليابان على زيادة الإنفاق العسكري، ليشكل نسبة 2 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي للبلاد بحلول عام 2027، كما فعلت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «ناتو». وكانت اليابان قد اعتمدت عام 1976 نصف هذه النسبة، كحد أقصى للإنفاق العسكري. وبذلك سترتفع ميزانية وزارة الدفاع إلى نحو 80 مليار دولار، وهو ما يعادل 10 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي، مما سيجعل اليابان متقدمة في هذا الشأن على دول مثل روسيا والهند، وتحتل المركز الثالث على مستوى العالم، في حجم الانفاق العسكري، حيث تحتفظ الولايات المتحدة بالمركز الأول «إنفاقها العسكري في ميزانية عام 2023 نحو 858 مليار دولار، وهو الأضخم في تاريخها، بزيادة قدرها 136 مليار دولار على ميزانية العام السابق»، ثم تليها الصين في المركز الثاني «إنفاقها العسكري نحو 290 مليار دولار سنوياً». وهذه هي أكبر خطة خماسية لتعزيز القدرات العسكرية لليابان منذ الحرب العالمية الثانية.
ويمكن القول إن قوات الدفاع الذاتي اليابانية تمر حالياً بعملية تحول وانتقال كبيرة، حتى تكون جاهزة للقيام بعدد من المهام غير التقليدية، مثل مواجهة سفن التجسس، وحرب المدن، والقرصنة، والبحث عن العصابات والجماعات الإرهابية، سواء في داخل البلاد، أو في خارجها، في حال اتخاذ القرار السياسي بذلك. وشهدت الفترة الأخيرة قيام كل من القوات البحرية والجوية اليابانية بإدخال تحديثات على قدراتهما التسليحية، حيث تستعد القوات البحرية لنشر طائرات الاستطلاع البحرية طراز P-3C، على الساحل الغربي لليابان، كما قامت القوات البحرية أيضاً، بالاتفاق مع قوات حرس السواحل، بإطلاق النار على السفن المشبوهة بالتجسس، وطالبت القوات الجوية اليابانية بتزويدها بطائرات جديدة للإمداد بالوقود في الجو.
برامج الصناعات الدفاعية المشتركة
ضمن الاستراتيجية الدفاعية الجديدة، ستلتزم اليابان بتعزيز تصنيع الصواريخ بعيدة المدى، وشراء صواريخ أجنبية الصنع، وتم تخصيص مبلغ 5.6 مليار دولار لبرنامج مشترك مع بريطانيا وإيطاليا، أفصح عنه رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، في التاسع من ديسمبر 2022، خلال زيارته لإحدى قواعد القوات الجوية الملكية، لتطوير طائرة مقاتلة خفية، من الجيل السادس، ومن المتوقع أن يكون طيرانها الأول عام 2035، وستفوق قدراتها قدرات المقاتلة F-35 الأمريكية، وستحل محل المقاتلات الأوروبية «يوروفيتر تيفون» المستخدمة في سلاح الجو الملكي البريطاني، والقوات الجوية الإيطالية، والمقاتلات «ميتسوبيشي F-2» المستخدمة في قوات الدفاع الذاتي اليابانية، والتي تم تصنيعها بتعاون شركتي «ميتسوبيشي» اليابانية و«لوكهيد مارتن» الأمريكية لصالح اليابان «سلاح الجو الياباني يستخدم المقاتلات من أنواع F-15J/DJ، وF-2A/B، و RF 4EJ، و F-35A/B». وهذه هي المرة الأولى التي تتعاون فيها اليابان مع دول أخرى – غير الولايات المتحدة – في مشروع رئيسي للصناعات الدفاعية. ويأتي هذا التعاون في إطار «برنامج القتال الجوي العالمي» الهادف إلى الاستفادة من الأبحاث التي بدأها بالفعل الشركاء الثلاثة عام 2018، في مجال التقنيات المتقدمة للقتال الجوي. وتجدر الإشارة هنا الى أنه كان قد سبق لطوكيو اتخاذ قرار وصف بـ «غير المسبوق»، وهو تخليها عن إنتاج مقاتلة جديدة مشاركة مع شركة «لوكهيد مارتن» الأمريكية التي رفضت تزويد طوكيو بالتقنية المتقدمة اللازمة.
اليابان وقضية التسلح النووي
دستور اليابان، يمنعها من أن تكون دولة عسكرية، تهدد جيرانها، والمادة التاسعة منه، والتي جاءت وفق صيغة اتفاقية سان فرانسيسكو للسلام لعام 1951 لإنهاء قوة اليابان العسكرية الإمبراطورية، تحظر المشاركة في عمليات الدفاع الجماعية «نص المادة: تتخلى الدولة رسمياً عن حق السيادة في القتال، وتهدف إلى سلام دولي قائم على العدالة والنظام، ولتحقيق هذه الأهداف، لن يتم الحفاظ على القوات المسلحة ذات الإمكانات الحربية». وفي هذا الإطار، وأخذاً في الاعتبار تمتعها بالمظلة النووية الأمريكية، لخصت اليابان موقفها من قضية التسلح النووي في الآتي:
اليابان هي البلد الوحيد الذي عانى من تدمير القنابل النووية، ومن ثم، فهو يتمسك بسياسته الدائمة، المستندة إلى المبادئ الثلاثة غير النووية، والتي كانت موجهة للسياسة النووية اليابانية منذ أواخر ستينات القرن الماضي. وهذه المبادئ هي: ألا تمتلك، أو تنتج، أو تسمح بإدخال مثل هذه الأسلحة إليها.
انضمت اليابان إلى معاهدة عدم الانتشار النووي عام 1976.
تعتبر اليابان أن معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العشر من سبتمبر 1996، ركيزة مهمة لمعاهدة عدم الانتشار النووي.
تؤكد اليابان أن استخدامها للطاقة النووية محلياً يقتصر على الأغراض السلمية، وأن ثلث إمدادات الطاقة الكهربائية في البلاد مستمد من الطاقة النووية، في ظل اتفاقية ضمان الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما فيها البروتوكول الإضافي.
الضربات المضادة
المادة التاسعة من دستور اليابان، والذي تم إقراره في عام 1947، تحت إشراف الجنرال دوجلاس ماك آرثر، قائد القوات الأمريكية الغازية في ذلك الوقت، نصت على قبول اليابان بعدم اللجوء إلى الحرب، أو إلى استخدام القوة في النزاعات الدولية، وعدم حيازة تسليح عسكري يمكن أن يؤدي إلى الحرب. ولكن، مع اندلاع حرب كوريا في عام 1950، أدخل نفس الجنرال تعديلات على هذا الدستور، تقضي بتكوين قوة شرطة وطنية، تتكون من 75 ألف رجل، ثم تطور وضع هذه الشرطة الوطنية إلى قوات الدفاع الذاتي.
ولكن السياسة الدفاعية اليابانية الجديدة تعطي لليابان الحق في شن ضربات مضادة ضد دول معادية، ولكن هذه الضربات مقيدة بشروط، حيث يجب أن تكون ضد ما يمثل تهديداً حتمياً لليابان، أو لدولة صديقة، مع عدم وجود وسيلة أخرى للرد، وأن تكون هذه الضربات بالحد الأدنى. وترى طوكيو أن هذه الضربات المضادة، في ظل ظروف معينة، لن تنتهك دستورها. وكانت اليابان لا تفكر في امتلاك القدرة على شن هجمات مضادة، لاعتمادها في ذلك على حليفتها، الولايات المتحدة. ولكنها تريد الآن الحصول على صواريخ بعيدة المدى، قادرة على ضرب مواقع إطلاق الصواريخ في الخارج، إذا كانت هذه الصواريخ موجهة الى الأراضي اليابانية. ومن هذه الصواريخ التي تطلبها اليابان الصواريخ الأمريكية طراز (SM-6) بعيدة المدى، وطراز «توماهوك» التي يمكنها ضرب أهداف على مسافة تزيد على 1000 كيلومتر.
وتمتلك وزارة الدفاع اليابانية حالياً أنظمة صاروخية من طراز (SM-2) مركبة على أربع من المدمرات الحربية المجهزة بنظام «ايجيس» الدفاعي طراز (Atago- type)، الذي يتضمن مجموعة منصات إطلاق صواريخ وأجهزة رادار، ويستهدف الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، خارج الغلاف الجوي. كما تمتلك أيضاً صواريخ «باتريوت» طراز «باك-٣»، لمواجهة الصواريخ في مرحلة طيرانها النهائية، داخل الغلاف الجوي، ويستخدم النوعان كأنظمة مضادة للأهداف الجوية، إلا أنهما لا يستطيعان التصدي للصواريخ البالستية بعيدة المدى، ولهذا تخطط اليابان لتطوير الرادار المستخدم مع نظام «باتريوت» ليستطيع كشف وتتبع الصواريخ الفرط صوتية، مثل الصاروخ الجوال الروسي «تسيركون» المضاد للأهداف البرية والبحرية، ويصل مداه حتى 1000 كم، وكذلك فإنها تعمل على تطوير الطراز «باك-٣» من صواريخ «باتريوت» إلى الطراز (PAC-3MSE) الذي يمكنه اعتراض كل من الصواريخ الجوالة، والطائرات، والصواريخ البالستية. ويشار هنا الى أن اليابان كانت قد بدأت عام 2004، تطوير نظامها للدفاع الصاروخي متعدد الطبقات، ووفقاً للمسؤولين في قوات الدفاع الذاتي اليابانية، فإن القدرات الحالية لهذا النظام لإسقاط الصواريخ المعادية بعيداً عن الأراضي اليابانية ليست فعالة بدرجة كبيرة، حيث تستطيع الأنظمة الدفاعية اليابانية الحالية مواجهة الصواريخ المعادية حتى مدى 31 ميلاً / 50 كم فقط، ولكن الصين، على سبيل المثال، تملك صواريخ يمكن إطلاقها من الطائرات القاذفة من مديات تصل حتى 186 ميلاً / 300 كم. وبناء على ذلك، فإن الحكومة اليابانية تعتزم تطوير قدراتها الدفاعية المضادة لهذه الصواريخ، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتشير وثائق الاستراتيجية الدفاعية الجديدة الى أن اليابان تنوي تعزيز قدرات وحدات حماية السواحل لرصد العناصر المتسللة إلى مياهها الإقليمية، والدفاع عن جزرها، وتوسيع مشاركتها في المهام الدولية، مثل حفظ السلام، والإغاثة، وزيادة تعاونها مع جيوش دول أخرى، إضافة الى نشر صواريخ فرط صوتية بحلول عام 2030، لتعزيز القدرة على الردع، مع التأكيد على أن هذه الصواريخ لن تستخدم لتوجيه «الضربة الأولى»، ولكن للرد على أي هجوم معادٍ.
التعاون مع الولايات المتحدة
لم يتأخر التأييد الأمريكي كثيراً، ففي اليوم التالي مباشرة لإعلان الاستراتيجية الدفاعية الجديدة لليابان، أصدر وزير الخارجية الأمريكية، بلينكن، بياناً يعلن فيه ترحيب واشنطن بها لأنها تهدف إلى زيادة إنفاق اليابان الدفاعي، مما يعزز التحالف بين الدولتين، ويعيد تشكيل قدرة هذا التحالف على تعزيز السلام في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، و«حول العالم». ويلاحظ أن الاتفاقية الأمنية الثنائية السابقة، بين واشنطن وطوكيو، وتعديلاتها، تنص على أن التحالف الياباني ـــــ الأمريكي، يعمل على استقرار السلم والأمن الدوليين، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ فقط ،دون ذكر «حول العالم». وهذا ما يزيد قلق كل من روسيا والصين مما يعتبرانه مزاحمة الأمريكيين في شرق آسيا، وخاصة في بحر اليابان وبحر الصين الجنوبي، من خلال القوى الحليفة لواشنطن. وثمنت الولايات المتحدة زيادة الاستثمار الياباني في البعثات والتعاون الدفاعي معها ومع غيرها من الحلفاء، لحماية المصالح والقيم المشتركة، والتي حددها وزير الدفاع الأمريكي، أوستين، والتي تتمثل في الحرب ضد الإرهاب، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، والازدهار، وترويج نظام السوق الحر، وحماية حقوق الإنسان، وضمان حرية التجارة والملاحة في الممرات البحرية، وتطوير قطاع الطاقة.
ويلاحظ أن العلاقة الأمنية التي تجمع اليابان بالولايات المتحدة، هي علاقة خاصة. فالولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن اليابان، في جميع الأحوال، غير أن اليابان ليست ملزمة، بموجب هذه العلاقة، بالقيام بالشيء نفسه تجاه الولايات المتحدة، ولكنها، في المقابل، تستضيف القوات الأمريكية، وتسمح بوجود قواعدها على أراضيها، عبر تمركز نحو 37 ألف جندي أمريكي بشكل دائم في 86 قاعدة وتجمعاً عسكرياً، منها قاعدة «يوكوسوكا» البحرية، التي تعتبر مقرا للأسطول السابع الأمريكي. وكانت واشنطن قد اتخذت مواقف مهمة على صعيد دعم سياسة اليابان الدفاعية ومساندتها، حيث وافقت على إرسال المدمرة «إيجيس» إلى بحر اليابان، ومكوثها هناك بشكل دائم، كما تعهدت بالدفاع عن جزر «سينكاكو» المتنازع عليها بين الصين واليابان بسبب احتمال وجود مخزون نفطي في بحر الصين الشرقي الذي تقع فيه هذه الجزر.
وقد تعمق حجم التعاون العسكري كثيراً بين الولايات المتحدة واليابان، وخاصة بعد أن قررت طوكيو المشاركة في نشر منظومة دفاع صاروخي يتطلب تشغيلها تكاملاً بين القيادتين العسكريتين للدولتين، وتكاملاً في السيطرة ووسائل الاتصالات. وزيادة على ذلك، فوفقاً لخطة الولايات المتحدة لإعادة تنظيم قواعدها العسكرية في العالم، ستكون اليابان مركز قوة رئيسياً في منطقة آسيا- الباسيفيك، كما تستضيف القوات الأمريكية الجوية والبرية والبحرية في المنطقة. وفي 29 أكتوبر 2005، أبرمت الولايات المتحدة اتفاق تحالف استراتيجي شاملاً مع اليابان، تضمن تنسيقاً غير مسبوق على المستوى العملياتي، ورفعاً جزئياً للحظر المفروض على تصدير التقنيات العسكرية المتقدمة إلى اليابان.
وتاريخياً، فإنه بعد استسلام اليابان في الثاني من سبتمبر 1945، تم توقيع معاهدة الأمن في سبتمبر 1951، التي تقضي بتواجد فرق وقواعد عسكرية أمريكية على امتداد الأراضي اليابانية، ودعم هذا التواجد العسكري الأمريكي الكثيف نشوب حرب كوريا. وفي يناير 1960، تم مراجعة المعاهدة، لتتحول إلى معاهدة أمن وتعاون مشترك، بموجبها تكون الولايات المتحدة ملتزمة بالتشاور مع طوكيو قبل استخدام قواعدها في اليابان، وقبل إدخال أي سلاح نووي إلى هذه القواعد.
وكانت سياسة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، قد أقلقت اليابان، حيث تعامل مع الوجود العسكري الأمريكي في اليابان بنهج مختلف عن أسلافه، فقد طالب بمضاعفة التمويل الياباني للوجود الأمريكي على الأراضي اليابانية، ولكن إدارة الرئيس الحالي، جو بايدن، تراجعت عن هذه السياسة.
الاستراتيجية الجديدة والدول المجاورة
ازدادت مخاوف بعض الدول المجاورة لليابان من تنامي حجم قواتها العسكرية وإنفاقها العسكري، وخاصة بعد إصدار قوانين تسمح لها بإرسال قوات عسكرية خارج الحدود اليابانية، وأن تستخدم اليابان قواتها العسكرية في تغيير خريطة وشكل النظام الإقليمي في جنوب وشرق آسيا، وهو ما سيساهم في تسريع التقارب الروسي ـــــ الصيني لمواجهة التقارب الأمريكي ـــــ الياباني. لذا، فإن المسؤولين اليابانيين حريصون على إبراز معارضتهم ورفضهم لسياسة التوسع الياباني، وأنه ليس هناك أي انبعاث للقوة العسكرية اليابانية. وتؤكد اليابان أنها شاركت في حرب تحرير الكويت (1990-1991)، بقوات يبلغ قوامها 600 عنصر في العراق، وكان دورها ينحصر في المساعدة على إعادة الإعمار، ولا يمتد إلى القتال. لذا، ومباشرة بعد هذه الحرب، فإنها قامت في عام 1992، بتبني قانون أطلقت عليه اسم «عمليات حفظ السلام»، يسمح لها بإرسال قواتها في مهام خارجية، بتفويض دولي، على أن تقتصر هذه المهام على حفظ السلام بعد فض النزاع، وهو ما يعني الإحجام عن المشاركة في عمليات قتالية. وعزز من قدرة اليابان على نشر قوات الدفاع الذاتي خارج الحدود حيازة طائرات الإمداد بالوقود في الجو، وطائرات بحرية، وطائرات نقل ذات مدى بعيد. ودافعت طوكيو عن موقفها، مشيرة إلى أنها سوف تواصل القيام بالأعمال الإنسانية، وإعادة الإعمار، ولن تشارك في أي أنشطة قتالية.
وفيما يلي نستعرض موقف الدول المجاورة من الاستراتيجية الدفاعية الجديدة لليابان:
1-الصين:تصف وثيقة السياسة الدفاعية اليابانية الجديدة الصين بأنها تمثل التحدي الاستراتيجي غير المسبوق لسلام اليابان واستقرارها. ولهذا، فإن أهم تغير جذري في التوجهات الاستراتيجية اليابانية، هو الحديث، للمرة الأولى، عن التهديدات الصينية، وأن بكين تهدف إلى توسيع منطقة نشاطاتها العسكرية البحرية، وتقوم بتحديث قدراتها النووية والبالستية، وكذلك قواتها الجوية والبحرية. وكانت المخاوف القديمة لليابان بشأن الصين قد تجددت في أغسطس 2022، عندما كثفت بكين التدريبات العسكرية، حيث سقطت صواريخ في البحر في المنطقة الاقتصادية الخالصة للأرخبيل الياباني. وبناء على ذلك، وفي السابع والعشرين من ديسمبر 2022، أعلنت وزارة الدفاع اليابانية أنها ستنشر وحدة دفاع صاروخي في إحدى الجزر، أقصى غربي البلاد، لتعزيز الدفاع عنها.
ومن جانبها، أعربت الصين عن قلقها لوصف اليابان لها بأنها تهديد محتمل، في وثيقتها الرسمية، وأوضحت أن التحركات العسكرية والأمنية اليابانية تعد قضايا حساسة لأسباب تاريخية، حيث تتحدث بكين باستمرار عن النزعة العسكرية اليابانية في النصف الأول من القرن العشرين، التي كانت الصين من ضحاياها. وكانت اليابان قد اعتذرت عن المعاناة التي سببتها لشعوب كثيرة في عدد من البلاد الآسيوية خلال الحرب العالمية الثانية، وأكدت أنها لن تكون قوة عسكرية، بل قوة اقتصادية، تحل مشاكلها بطريقة سلمية، وبدون اللجوء إلى القوة. وإضافة إلى ذلك، هناك القلق الشديد الذي أبدته الصين إزاء تنامي التعاون العسكري بين طوكيو وواشنطن، خاصة في مجال الدفاع الصاروخي، الذي اعتبرت الصين أنه يخل بالاستقرار الاستراتيجي العالمي. وتؤكد الصين أن قدراتها النووية في الحد الأدنى اللازم لحماية أمنها القومي، وأنها تتبع استراتيجية نووية دفاعية، تجعلها لا تبدأ باستخدام الأسلحة النووية، وتلتزم بالتنمية السلمية، وتسعى إلى صنع السلام العالمي.
2-روسيا:تصف وثيقة استراتيجية الدفاع الوطني اليابانية روسيا، الجارة من الجهة الشمالية، بأنها مصدر قلق للأمن القومي الياباني، بينما ترى روسيا أن شروع طوكيو في تعزيز قوتها العسكرية يثير تحديات أمنية جديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لتخليها عن استراتيجية التنمية السلمية، وذكرت وزارة الخارجية الروسية في بيان لها: «من الواضح أن طوكيو شرعت في مسار تعزيز قوتها العسكرية بصورة غير مسبوقة، بما في ذلك امتلاك القدرة على توجيه ضربات». وردت اليابان بأنها ستظل دولة محبة للسلام، ولن تشكل تهديداً للدول الأخرى. والعلاقات بين موسكو وطوكيو متوترة في الأساس لأسباب عديدة، أبرزها النزاع بشأن جزر الكوريل، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وترى موسكو أن نشر محطات رادار الإنذار بالقرب من هذه الجزر يمثل تهديداً للأسطول الروسي في المحيط الهادئ. ومن المعروف أنه لا توجد معاهدة سلام رسمية بين روسيا واليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
3 -كوريا الشمالية:تشير استراتيجية الأمن القومي اليابانية الجديدة إلى أن الأعمال العسكرية للجارة من الجهة الغربية، كوريا الشمالية، أصبحت تشكل تهديداً خطيراً ووشيكاً لليابان، أكثر من أي وقت مضى، في إشارة إلى التجارب الصاروخية المتكررة التي تقوم بها كوريا الشمالية، وكان عام2022 عاماً قياسياً لهذه التجارب، حيث أطلقت ما يزيد على 30 صاروخاً، إضافة إلى تجربة لقمر صناعي للتجسس تسعى لاستكماله بحلول أبريل 2023، ليقوم بمهمة التصوير ونقل البيانات.
ونددت كوريا الشمالية بالاستراتيجية الدفاعية اليابانية الجديدة، وحذرت من أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا التهديد الذي تصفه بأنه «خطير على السلم العالمي»، ويسبب تغييراً جذرياً في الأمن الإقليمي في شرق آسيا، لأن هذه الاستراتيجية، من وجهة نظر بيونج يانج، تعني عملياً امتلاك طوكيو قدرات لشن ضربات وقائية ضد دول أخرى.
ويشكل ملف القضايا الخلافية بين البلدين قائمة طويلة من المطالب المتبادلة. والمعروف أن اليابان احتلت شبه الجزيرة الكورية عام 1910، وظلت بها حتى عام 1945. وتريد كوريا الشمالية اعتذاراً واضحاً وصريحاً من اليابان عن هذه الفترة، وتقديم تعويضات. ومن القضايا المهمة التي تؤرق اليابان، قضية تطور التسلح الكوري الشمالي، ليصل إلى مرحلة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وصواريخ باليستية تهدد الأمن القومي الياباني مباشرة. ويشار هنا إلى حادثة التراشق بالنيران مع سفينة تجسس تابعة لكوريا الشمالية في ديسمبر عام 2001، حيث أغرقت قوات حرس السواحل اليابانية سفينة تجسس تابعة لكوريا الشمالية بعد أن رفضت الاستجابة لأوامر بالتوقف، وبادرت بإطلاق النيران، مما دفع بالدورية اليابانية إلى الرد بالمثل. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يغرق فيها الأسطول الياباني سفينة أجنبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
4 -كوريا الجنوبية:احتجت كوريا الجنوبية على ما جاء في الاستراتيجية اليابانية الجديدة للأمن القومي بخصوص جزر متنازع عليها بين الدولتين، وطلبت أن تحذف اليابان من هذه الاستراتيجية «مزاعمها» بأن تلك الجزر هي جزء من أراضيها، واعتبرت أن ما جاء في تلك الوثيقة بشأن الجزر لا يساعد على بناء شراكة مستقبلية بين الدولتين. ويتركز الخلاف بين الجارتين على مجموعة من الجزر الصغيرة التي تقع على بعد متساوٍ، تقريباً، بينهما في بحر اليابان، وتسميها كوريا الجنوبية «دوكدو»، بينما تطلق عليها اليابان اسم «تاكيشيما».
الخلاصة
تتضمن السياسة الدفاعية الجديدة لليابان تطوير القدرات العسكرية، وزيادة الإنفاق العسكري، واللجوء إلى الضربات المضادة ضد التهديدات الخارجية. ويمثل هذا تحولاً مهماً في العقيدة العسكرية اليابانية التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية، واعتمدت على السياسة الدفاعية فقط، في إطار دستور سلمي. ورحبت الولايات المتحدة بهذه السياسة باعتبارها ستعزز التحالف العسكري بين الدولتين، وستزيد من مبيعات الأسلحة الأمريكية لليابان. وفي نفس الوقت، واجهت هذه السياسة انتقادات من بعض دول المنطقة، حيث تخوض اليابان مشكلات حدودية حول السيادة على بعض الجزر مع كل من الصين، وكوريا الجنوبية، وروسيا.
» لواء د./ علي محمد علي رجب
)باحث عسكري وخبير استراتيجي)