يبدو أن ساحات المعارك البرية والجوية والبحرية والفضائية والكهرومغناطيسية التي ستحدث فيها الصراعات المسلحة المستقبلية ستتعقد، وأن ما سيزيد من تعقيدها تشابك وتعقد السياقات الثقافية والاقتصادية والبيئية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية المتصلة بها أكثر من أي وقت مضى، ما سيجعل معارك المستقبل مختلفة جذرياً عما تبدو عليه اليوم.
وهذا ما يؤكده هنري بينتانجيت رئيس أركان الجيش الفرنسي السابق بقوله: «إن شن الحرب يتطلب التضامن بين السلطة السياسية والقيادة العسكرية والدعم الشعبي في جميع الظروف، لأن العمل العسكري ليس سوى عنصر واحد من عناصر الاستراتيجية الشاملة، التي تشمل جوانب مالية واقتصادية».
من جانب آخر، لم يعد من الممكن الشعور بالطمأنينة والأمان الذي كانت تشعر به بعض الجيوش عندما كانت تواجه عدواً يمكن التنبؤ بردود أفعاله. فعلى سبيل المثال، لم تعد خطط الطوارئ التفصيلية، التي كانت ذات أهمية قصوى للدفاع عن أوروبا والعالم الغربي، ذات أهمية، وكذلك العقائد وبرامج التدريب التي كانت مصممة في نهاية المطاف لمحاربة عدو معروف سلفاً. لقد تحول العالم أكثر من أي وقت مضى إلى حقبة فوضوية ومضطربة، ومن المرجح أن يصبح أكثر غموضاً وعدم يقين وعدم استقرار بمرور الوقت. عالم غير مؤكد فيه شيء إلا أن الحرب فيه ستصبح أكثر تعقيداً.
فسوف يزداد تعقيد ساحات القتال بشكل كبير، لا سيما بسبب الطبيعة غير المتماثلة للتهديد، وزيادة الهجوم على المناطق الحضرية، وعدم وضوح سياقات العمليات، وتوسيع ساحة المعركة، والتفاعل بين التكنولوجيا والبشر، والتغطية الإعلامية المباشرة.
أمام هكذا سياق، سعت بعض الدول من أجل الحفاظ على تفوق جيوشها العسكري وعلى الاحتفاظ بقدرتها على أخذ زمام المبادرة والحفاظ عليها في ساحات معارك أكثر تعقيداً وتشابكاً أكثر من أي وقت مضى، لتطوير مفهوم القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات. وسنستعرض في السطور القادمة أهم التجارب الغربية، وكذلك التجربتين الصينية والروسية.
التجربة الغربية
قام الجيش الفرنسي بإضفاء الطابع المؤسسي على مفهوم القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات multimilieux / multichamps M2MC، ولا سيما من خلال إدراجه في عقيدة استخدام القوة الفرنسية (DEF). ويقتصر مفهوم القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات على عمليتين رئيسيتين وهما الاستهداف واسع النطاق (CLS) والتأثيرات المترابطة «Joint Effects».
وتعد الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي وصلت لمفهوم قتال تعاوني متعدد الوسائط والمجالات (M2MC)، ولكنه كان يقتصر في البداية على استخدام عدد قليل من العمليات التي تفرض التعاون بين الجيوش على المستوى التكتيكي (العمليات البرمائية والمحمولة جواً والعمليات الخاصة والدعم الجوي القريب على وجه الخصوص)، ثم تتطور بالشكل الذي يعكسه الشكل التوضيحي المرفق.
تطور التآزر بين المجالات والوسائط لتحقيق القتال التعاوني
استجابة لرغبة بوب وورك، نائب وزير الدفاع آنذاك، في تبني عقيدة تعكس استراتيجية التعويض عن تآكل التفوق الأمريكي في مواجهة بكين وموسكو، تم تعميق استراتيجية «القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات M2MC» بهدف «التقارب الأمثل» في الزمان والمكان لجميع قدرات البيئات والمجالات المختلفة، وإعادة صياغة جديدة لمبدأ التركيز، ليس فقط لمنع الاختراق وتفكيك قدرات منع الوصول (A2/AD) في حالة النزاع المسلح، بل أيضاً الفوز الحاسم في معركة المنافسة الاستراتيجية، وذلك من خلال عمليات تقع ضمن «المنطقة الرمادية»، وهي مساحة المواجهة الهجينة ما قبل النزاع المسلح، والتي تمزج بين المناورة الاستخباراتية العدوانية واستخدام الحرب الإلكترونية واستراتيجية التأثير، لا سيما في البيئة السيبرانية.
وفي هذا السياق تبني الجيش الأمريكي مفهوم All-Domain القائم على المفهوم الجديد للحرب المشتركة (JWC) وعلى قابلية التشغيل البيني مع الحلفاء. ويمكن تلخيص الفلسفة الأمريكية المتعلقة بـ «القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات» (M2MC) في التقاء مبدأين: الأول، عقائدي وعملياتي، وهو امتداد منطق مناورة الأسلحة المشتركة (Combined Arms Maneuver)، الذي أدخلته في الفترة الأخيرة AirLand Battle الحروب البرية الجوية. والثاني، تقني، وهو استكمال تحقيق منطق NCW (الحرب المرتكزة على الشبكة، لضمان استدامة اتصال عناصر جيش ما أو وحداته، متصلة ببعضها بعضاً، وذلك خلال القيام بعملياتها، مما يعظم من قوتها ويزيد في تدفق المعلومات، بما يضمن سهولة التنسيق والتعاون في تحقيق الأهداف) في عصر البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، والسعي لتحقيق التشغيل البيني الأمثل.
وتجمع الرؤية الأمريكية بين مفهومي «العمليات متعددة المجالات» (MDO) و«العمليات المشتركة بين المجالات» (JADO) لضمان مزامنة أنظمتها الرئيسية في جميع المجالات، مثل الطائرات والسفن والغواصات والمركبات البرية والأقمار الصناعية وأنظمة الصواريخ، لتسيد كامل لساحة المعارك الحديثة، وذلك بتمكين القادة من اتخاذ أفضل القرارات وبأسرع وقت. لأن «العمليات متعددة المجالات» (MDO) و«العمليات المشتركة بين المجالات» (JADO) تهدفان معاً لتحقيق التكامل على جميع المستويات، بما في ذلك المستوى التكتيكي الأدنى، مما يسمح بتعطيل ثم تدمير قدرات A2/AD «منع الدخول وإنهاء الوجود» للعدو. وهي مجموعة الإجراءات التي من شأنها إبطاء حضور القوات لمسرح العمليات أو حتى العمل من مسافات بعيدة (A2) ومجموعة الإجراءات التي من شأنها إعاقة عمليات المناورة داخل مسرح العمليات (AD). وذلك يتناسب تماماً مع الطريقة الأمريكية في الحرب.
تقدم وزارة الدفاع البريطانية رؤيتها للقتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات في استراتيجيتها المسماة Multi-Domain Integration (MDI) والتي تبدو أكثر نضجاً من الرؤية الأمريكية في نقاط عديدة، من أهمها استهداف ليس فقط تحقيق القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات بالمعنى الضيق، ولكن أيضاً التعاون بين الوزرات وبين جيش المملكة وجيوش الدول الحليفة ومؤسساتها. كما تندرج استراتيجية المملكة المتحدة للقتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات في رؤيتها لتحقيق التشغيل العسكري المتكامل Integrated Operating Concept 2025 والذي يهدف لأن تقود المملكة الحراك الاستراتيجي في العالم، لا أن تكون رد فعل عليه، وذلك بامتلاك ركائز القوة الثلاث: النفوذ، الاقتصاد، الأمن، وتأزر التكامل بينها وبين القوة العسكرية.
التجربتان الروسية والصينية
تُسمى عمليات M2MC بالعمليات متعددة المجالات، والتي تتمحور حول عدم السماح بتكرار الأسلوب التي تستخدمه الولايات المتحدة منذ حرب الخليج الأولى، وهو الضربة الجوية الممنهجة وواسعة النطاق والقادرة على قطع رأس مراكز صنع القرار. فشبح «الحرب الجوية الخاطفة» ضد المناطق الغربية والجنوبية لا يزال هو ما يحدد خطط العسكرية الروسية، في هذا السياق طورت روسيا لقتال تعاوني تسميه وضعية «الدفاع النشط» والذي تتكامل فيه كافة الوسائل التي يمكن أن تساهم في إضعاف القدرة القتالية للخصم، بما في ذلك من خلال الضربة الاستباقية. ولكن الفكرة الروسية هي أبعد من إنشاء «مناطق محرم الوصول لها»، هي بالأحرى ديناميكية تجمع بين الدفاع (الاستنزاف) والهجوم المضاد (الإبادة والفوضى) ومدعومة بسلسلة متواصلة من العمليات العدائية مع عمليات الردع. إن الأمر يتعلق بالقدرة على إلحاق ضرر بالغ بالخصم، سواء في قواته التقليدية أو في إمكاناته الاقتصادية والسياسية. ومن أهم نتائج استراتيجية «الدفاع النشط» التعاوني في مجال القوات الجوية (VVS) هو دمجها مع قوات الدفاع الجوي (PVO)، وإضافة مجالات عسكرية تحت مسمى القوات الجوية الفضائية (VKS) في عام 2015. كما لم تتوقف روسيا عن تشبيك مكوناتها الضاربة للحفاظ على قدرتها على الوصول إلى مراكز الثقل في أعماق خصومها وتحييدها.
وتشبه الصين إلى حد كبير روسيا، فعاصفة الصحراء كانت نقطة انطلاق استراتيجيتها العسكرية العامة وهي وضعية «الدفاع النشط» التي صممها ماو تسي تونغ. ولكن ما زاد عليها حديثاً كيفية مواجهة أن تسفر الضربات العسكرية للعدو عن ميلاد قوة معارضة للنظام تقاتله من الداخل أو خلق نظام ضد النظام. إن عدم تمكين العدو من قطع رأس النظام أو إضعافه بضربة عسكرية تخلق عدواً للنظام من داخله هو الخط الناظم للاستراتيجية الصينية التكاملية الجديدة. وعلى هذا، فإن الهيمنة المعلوماتية والمعرفية بالنسبة للصين هي التي تجسد الاستراتيجية لمجابهة تلك الاخطار، وذلك بتحقيق نوع من «الكفاءة العامة المتكاملة» في مجال التدريب، والذهاب أبعد من التنسيق بين مؤسسات وأفرع الجيش، بل توحيدها في «عمليات مشتركة متكاملة». ويلخص الكتاب الأبيض لعام 2015 بشكل مثالي النهج التكاملي العسكري وأهدافه والتي تتلخص في: الهيمنة المعلوماتية والمعرفية، والإصابة الدقيقة للأهداف الاستراتيجية، والعمليات المتكاملة لتحقيق النصر (xinxi zhudao, jingda yaohai, lianhe zhisheng).
وخلافاً لروسيا، فإن خيار عدم التماثل بالنسبة للصين هو أقل بنيوية، ولكنه مشروط بتفوق البلاد اقتصادياً وعسكرياً على منافسيها حتى يرتقي جيش التحرير الشعبي الصيني إلى رتبة «جيش من الدرجة الأولى في العالم» بحلول عام 2050. كما لا يبدو أن التحديث العسكري الصيني ينطلق من خطة عمودية وشاملة لتطوير قدراتها العسكرية، فالصينيون يتبعون نهجاً تدريجياً، يتم التحقق من صحته من خلال التعزيز التدريجي للمهارات المشتركة المتوخاة لمهام محددة ضمن تشكيلات واسعة النطاق على نحو متزايد، وذلك من خلال نظام تشغيلي للأنظمة OPSYS يتميز بقدرته على تنفيذ العملية بشكل متكامل ومستقل في ذات الوقت مثل نظام OPSYS المضاد للطيران، ونظام OPSYS المضاد للهبوط، وبرنامج OPSYS53 للقتال المعلوماتي. ويتم تفعيل هذه البرامج على حسب الهدف من العملية: حصار جزيرة، حصار مضاد، هجوم برمائي، هجوم مضاد على الحدود، وغارات مضادة للطيران.
الاستراتيجية الصينية تتمحور في أن يكون الجيش الصيني قادراً على نشر قوات مجمعة خصيصاً لحملة أو مهمة محددة، مع قدرات متعددة المجالات والوظائف والأبعاد، وضمان تكاملها، من خلال تنميطها وتوحيدها ضمن بنية القيادة المشتركة التي تجمع أركان مختلف الأجهزة في منطقة عملياته. كما يتم الفصل بين العناصر وفقاً للاحتياجات أيضاً، فهي ديناميكية تجميع وتفكيك على حسب سياق ساحة القتال والأهداف المراد تحقيقها.
الخاتمة
مما لا شك فيه أن التحول للقتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات يصطدم على المدى القصير والمتوسط بتحديات، أبرزها صعوبة قابلية التشغيل البيني الفني والعقائدي (العقيدة العسكرية) والمعرفي بين مؤسسات وقطاعات الجيش الواحد من جانب وبين الجيوش الحليفة من جانب آخر، وذلك نظراً لتباين ثقافة العمل بينها.
لكن في المقابل، وعلى المستوى طويل الأمد، يبشر المستقبل بتحقق نموذج «القتال التعاوني متعدد الوسائط والمجالات» كنموذج جديد من القيادة والسيطرة في مجال الأنشطة العسكرية يربط كل وسائل الحرب في شبكة عنكبوتية لاتخاذ القرار على مختلف المستويات، التكتيكية والعملانية والاستراتيجية، وربما يؤدي إلى ما استشرفه الباحث الأمريكي في الدراسات العسكرية ماكس بوت، بأن مركز قيادة الجيوش لن يكون كما تعوّدنا سابقاً في غرفة عمليّات البنتاغون، أو الكرملين، أو في مكان ما في بكين، فقد يكون مركز القيادة في مكتب ما، في ناطحة سحاب. ولن يكون العاملون فيه بلباس عسكري، أو ضمن تراتبية عسكرية تقليدية. حتى إن اختصاص العاملين في هذا المركز، وتوصيفهم الوظيفي سيكون من نوع آخر لم نعتده».
الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات)