اختبرت روسيا صاروخاً مضاداً للأقمار الصناعية من طراز نودول أسقطت بواسطته القمر الصناعي السوفييتي «كوسموس – 1408»، وقال الجيش الروسي في بيان «في 15 نوفمبر أجرت وزارة الدفاع الروسية بنجاح تجربة دمر بنتيجتها الجسم الفضائي «تسيلينا – د» الموضوع في المدار منذ 1982 وهو غير نشط». وأثارت التجربة الروسية ردود فعل غربية غاضبة، خاصة من الولايات المتحدة، والتي عدت التجربة تهديداً خطيراً للاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي.
يلاحظ أن التجربة الروسية الأخيرة كان لها دلالاتها العسكرية والاستراتيجية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1 - التجربة الأولى من نوعها: يلاحظ أن الولايات المتحدة سبق وأن اتهمت روسيا بإجراء تجربة صاروخية من الفضاء الخارجي، إذ أكدت قيادة الفضاء الأمريكية، في يوليو 2020، بأن لديها أدلة تثبت قيام القمر الاصطناعي الروسي «كوزموس2543» بإطلاق نوع من القذائف في المدار، وأن ذلك يمثل استخدام سلاح مضاد للأقمار الاصطناعية. وعلى الرغم من هذه التجربة السابقة، فإن إطلاق روسيا للصاروخ نودول من الأرض، وتوظيفه في إسقاط قمر اصطناعي قديم يمثل أول تجربة تقوم بها روسيا، وفقاً للتقديرات الأمريكية. ويلاحظ أن هذه التجربة تعكس تطور نظم الدفاع الجوي الروسية الاستراتيجية، وتؤكد ما سبق وأن أشارت إليه موسكو في السابق بأن نظام الدفاع الجوي المتحرك «إس – 550» قادر على إسقاط الأقمار الاصطناعية.
«إس – 550»
وأكدت وكالة أنباء تاس الحكومية الروسية أن الدفعة الأولى من نظم الدفاع الجوي «إس – 550» دخلت الخدمة القتالية، ووصفت النظام الجديد بأنه نظام متحرك جديد لا مثيل له للدفاع الصاروخي الاستراتيجي، وأنه يتمتع بالقدرة على ضرب المركبات الفضائية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات وأهداف تفوق سرعتها سرعة الصوت على ارتفاعات تصل إلى عشرات الآلاف من الكيلومترات.
2 - اعتراض المركبة الفضائية الأمريكية المسيرة: أكد مصدر في المجمع الصناعي العسكري الروسي، أن منظومة «إس – 550» الروسية الجديدة المضادة للطائرات قادرة على إسقاط المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية بدون طيار «إكس – 37 بي»، والتي تشك موسكو في أنه يمكن أن تستخدم في نشر أسلحة في الفضاء.
فقد أعلنت روسيا، على لسان مصدر مسؤول من المجمع الصناعي العسكري الروسي، أن منظومة «إس – 550» لجديدة المضادة للطائرات قادرة على إسقاط المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية «إكس – 37 بي»، وهي مركبة فضائية غير مأهولة يعتقد أنها سلاح أمريكي سري، وذلك بعد التجربة الصاروخية الروسية الأخيرة وإدانة واشنطن لها، وهو ما يؤكد وجود ارتباط بين التجربة الفضائية الروسية الأخيرة ومنظومة «إس – 550» الجديدة.
3 - تأكيد التفوق على نظم الدفاع الجوي الأمريكية: يتخصص نظام الدفاع الصاروخي الاستراتيجي المحمول «إس – 550» في تدمير الأهداف الفضائية الباليستية والمدارية، وفي المقام الأول في تدمير الرؤوس الحربية النووية للصواريخ العابرة للقارات، وهو بذلك سيكون أول نظام متحرك في العالم قادر على تدمير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات بشكل فعال، وهو ما يعني أن روسيا تواصل تأكيد تفوقها في تطوير نظم دفاع جوي أكثر تقدماً من نظيرتها الأمريكية.
4 - تحييد التفوق الفضائي الأمريكي: تعتقد الولايات المتحدة أن العقيدة العسكرية الروسية تعتبر الفضاء أمراً بالغ الأهمية بالنسبة للحرب الحديثة، وأن موسكو تنظر إلى الأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية باعتبارها وسيلة لتقليل الفعالية العسكرية الأمريكية وكسب حروب المستقبل، كما يقول متحدث باسم قيادة الفضاء الأمريكية.
ويلاحظ أن محاولة تجنب الاستهداف الصاروخي الروسي من قبل قمر اصطناعي أمريكي، سوف يكون أمراً بالغ الصعوبة، إذ إن الوقت الذي استغرقه الصاروخ الروسي نودول، منذ لحظة إطلاقه، وحتى إصابة القمر الروسي تراوح بين 5 و10 دقائق فقط، وهو أمر سوف يكون من الصعب على الولايات المتحدة مواجهته، إذ إن الجيش الأمريكي سوف يحتاج إلى وقت حتى يستطيع تحديد أن هناك إطلاقاً صاروخياً معادياً يستهدف أحد أقمارها، فضلاً عن الاتصال بالقمر الاصطناعي المستهدف، وتشغيله لتحريكه إلى مدار مختلف، وهو ما يعني فرض مزيد من التهديدات على الأقمار الاصطناعية، والتي تعتمد عليها الولايات المتحدة بشكل كامل في توجيه وإدارة معاركها الحديثة.
5 - تعزيز الموقف الروسي في الصراع الجيواستراتيجي حول أوكرانيا: لاشك أن التجربة الروسية الفضائية جاءت في وقت يزداد التوتر فيه بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، خاصة بعدما أعلنت الاستخبارات الأمريكية في مطلع ديسمبر 2021 أن الكرملين يخطط لهجوم متعدد الجبهات على أوكرانيا في أقرب وقت ممكن من عام 2022 يشارك فيه ما يصل إلى 175 ألف جندي، وذلك بعد نشر صور للأقمار الاصطناعية التي تظهر وحدات وصلت حديثاً إلى مواقع مختلفة على طول الحدود الأوكرانية خلال نوفمبر الماضي.
ولاشك أن كشف موسكو عن هذه التجربة في هذا التوقيت يحمل دلالات كبيرة، إذ أنه من ناحية يؤكد القدرات الروسية، والتي سبق وأن أعلنت عنها موسكو فيما يتعلق بتطوير نظم دفاع جوي قادرة على إسقاط الأقمار الاصطناعية، بل ويضفي مصداقية على باقي القدرات التي أعلنت عنها موسكو لهذه المنظومات، والتي تتمثل في قدرتها على اعتراض الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
كما أنه من ناحية أخرى، فإنه في حالة نشوب صراع بين موسكو والغرب حول أوكرانيا، فإن الولايات المتحدة سوف تقف عاجزة عن تبني أي إجراءات عسكرية ضد موسكو، خاصة وأن الأخيرة تستطيع وبسهولة استهداف كل الأقمار الاصطناعية الأمريكية، وذلك وفق أسوأ سيناريو، كما أن مثل هذه التجربة تعني أن التفوق الغربي العسكري على موسكو أخذ في التراجع، بما يعني أن محاولة التوصل لتفاهمات مع موسكو حول أوكرانيا والاستجابة لبعض مطالبها حول تجنب نشر أسلحة لحلف الناتو هناك قد يكون مجدياً من تصعيد التوتر والصراع حول أوكرانيا.
6 - استباق جهود ضبط الصراع في الفضاء الخارجي: تجدر الإشارة إلى أن الجهود الدولية المبذولة لضبط الصراع في الفضاء الخارجي لاقت عقبات بصورة أو بأخرى، فقد قدمت روسيا والصين، في السابق، مقترحات لضبط التسلح في الفضاء الخارجي، غير أن الولايات المتحدة اعترضت عليها، نظراً لأنه يمثل قيداً على بعض عناصر تقدمها وقوتها في هذا المجال، وتحديداً الحد من العناصر الفضائية لنظام الدفاع الصاروخي الأمريكي.
وفي عام 2008، اقترحت روسيا والصين أيضاً مشروع معاهدة بشأن منع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي والتهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد الأجسام الموجودة في الفضاء الخارجي، والتي تحتاج إلى تصديق 20 دولة، بما في ذلك خمسة أعضاء دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ورفضت الولايات المتحدة كذلك هذه المسودة، والتي رأت أنها تفتقر إلى أدوات التحقق، كما أنها فشلت في تضمين الأسلحة الأرضية المضادة للأقمار الاصطناعية. وفي وقت لاحق، أثبتت روسيا والصين والولايات المتحدة أيضاً أنها مترددة في الالتزام بمقترح حل وسط من الاتحاد الأوروبي بشأن مدونة قواعد السلوك لأنشطة الفضاء الخارجي، والتي من شأنها أن تحظر الموقعين من تدمير الأقمار الاصطناعية.
وتدرك روسيا أنه في سياق التنافس المتزايد بين القوى العظمى، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، فإن الاتجاه المتزايد لعسكرة الفضاء هو مستقبل الحرب. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الأمر قد يدفع الدول الغربية إلى البحث عن إصدار اتفاقات دولية تحد من تطوير واستخدام هذه القدرات. فقد تزامن الاختبار مع إنشاء فريق عمل تابع للأمم المتحدة معني بقواعد السلوك المتعلقة بالفضاء الخارجي. وكانت روسيا واحدة من ثماني دول فقط عارضت إنشاء تلك المجموعة، خوفاً من أن يترتب على عمل هذا الفريق التوصل إلى اتفاقية ملزمة لتحجيم استخدام الأسلحة في الفضاء الخارجي.
ويمكن أن يكون عرض القدرات العسكرية الروسية قبل وضع لوائح دولية جديدة مفيداً للأمن القومي الروسي، إذ إنه من خلال تدمير قمرها الاصطناعي في الفضاء، حققت روسيا هدفين. فقد أكدت قدراتها الدفاعية والردعية، خاصة في مجال استهداف القمار الاصطناعية في الفضاء الخارجي، وذلك قبل أن يجري حظرها أو تقيدها بشكل كبير من جانب اتفاقات دولية مستقبلية. وبالإضافة إلى ذلك، ضمنت روسيا أنها ستكون طرفاً مهماً، لا يمكن تجاوزه، في أي جهد دولي منظم لتقنين هذه القدرات الفضائية.
ويلاحظ أن حلف شمال الأطلسي انتقد وبشدة، في بيان صادر في 19 نوفمبر، التجربة الروسية، نظراً لأنها تفتح الباب أمام عسكرة الفضاء، ويلاحظ أن إصدار الحلف مثل هذا البيان بعد أربعة أيام يكشف أنه قام بإجراء تقييم شامل للتجربة الروسية، وتأكد من نجاحها.
كما أن الحلف دعا موسكو للانضمام إلى الجهود الدولية الرامية لتطوير قواعد ومبادئ السلوك المسؤول من أجل الحد من التهديدات الفضائية، والامتناع عن إجراء اختبارات تدميرية خطيرة وغير مسؤولة، وهو مؤشر على أن موسكو باتت تمتلك قدرات تثير قلق الغرب في هذا المجال، ولذلك يسعى حلف الناتو إلى كبح جماح التقدم الروسي عبر دعوة موسكو للانضمام إلى الجهود الرامية لتقنين استخدام الأسلحة في الفضاء الخارجي.
المواقف الغربية الناقدة
اتجهت الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى انتقاد المواقف الروسي بشدة، وسعت إلى تبرير هجومهم على موسكو بالاستناد إلى الدعاوى التالية:
1 - تهديد التجربة الروسية الأنشطة الفضائية: أكدت الولايات المتحدة أن التجربة ولّدت «سحابة» من قطع الحطام يمكن أن تهدد سلامة طاقم محطة الفضاء الدولية، وأنها تشكل خطراً على العديد من الأقمار الاصطناعية. وذكرت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» أن روّاد الفضاء السبعة على متن المحطة، اضطرّوا للجوء إلى مركباتهم الملتحمة بالمحطّة استعداداً لاحتمال عملية إجلاء طارئة. من جانبه حذّر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من أنّ قطع الحطام «ستهدّد الآن ولعقود» الأنشطة الفضائية، مؤكداً أن بلاده «ستعمل» مع حلفائها للرد على هذا «العمل غير المسؤول». ونفت روسيا هذه الاتهامات، والتي وصفتها «بالخبيثة» مؤكدة أن «الولايات المتحدة على يقين بأن أجزاء الحطام هذه لن تشكل أي خطر».
2 - تطوير القدرات الفضائية الأمريكية: فقد أكد بريان إنجبرج، مدير فرع تكنولوجيا التحكم في الفضاء في مختبر أبحاث القوات الجوية الأمريكية، أن «أولوياتنا الحالية هي وضع تدابير دفاعية للأقمار الاصطناعية، ومرونة تجعلها قادرة على تجنب أي هجمات، أي إمداد الأقمار الاصطناعية بالقدرة على تجنب أسلحة مثل تلك التي اختبرتها روسيا في 15 نوفمبر، وذلك حتى تستمر الأقمار الاصطناعية التابعة للقوة الفضائية الأمريكية قادرة على «تقديم خدمات فضائية مهمة مثل الاتصالات والملاحة والوعي العملياتي، والهيمنة المعلوماتية، والتي تتيح بعد ذلك مزايا هجومية ودفاعية قوية لقواتنا الأرضية في البر والبحر والجو». وتسعى الولايات المتحدة حالياً إلى إجراء أبحاث لجعل الأقمار الاصطناعية قادرة على توظيف الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي «لتتمكن من الكشف عن أي هجمات محتملة واتخاذ قرار بشأن حماية قدرتها الخاصة، وذلك عندما يتعذر الانتظار حتى يقوم شخص على الأرض بتلقي البيانات، واتخاذ قرار، وإرسال أمر بتحريك القمر الاصطناعي بعيداً لتجنب تهديد محتمل.
وفي الختام يمكن القول إن عودة الصراع بين القوى الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا، قد استتبعه مؤشرات على بدء سباق تسلح في الفضاء الخارجي بين هذه القوى، خاصة في ظل غياب أي اتفاقات دولية ملزمة لضبط مثل هذا الصراع، وهو ما يعني أن أمام الدول الكبرى، وخاصة روسيا والولايات المتحدة والصين، خياران، وهما إما الاستمرار في سباق التسلح، وإما محاولة التوصل لقواعد ملزمة تحكم تفاعلاتهم العسكرية في الفضاء الخارجي.
» د.شادي عبدالوهاب