شكل ظهور فيروس كورونا المستجد كوفيد 19 في مدينة ووهان الصينية في نهاية ديسمبر 2019 وانتشارة السريع عبر العالم، أزمة عالمية وصفت على نطاق واسع بأنها الأكبر التي تواجه المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية، فيما تعددت الدراسات البحثية والآراء التي تجادل بأن هذه الأزمة ربما تشكل نقطة تحول مفصلية في النظام العالمي برمته، حتى أن مقولة “عالم ما بعد كورونا” باتت مصطلحاً دارجاً يتم تداوله على نطاق واسع.
لقد أحدث هذا الوباء، بما خلفه من تداعيات خطيرة على المستويات الإنسانية والصحية والاقتصادية والاستراتيجية، لاتزال في حالة تفاعل، ما يشبه الصدمة التي ضربت أركان النظام العالمي الراهن، وكشفت عن كثير من أوجه الخلل ومواطن الضعف التي يعاني منها، وأعادت من جديد الجدل والنقاش حول العديد من المفاهيم والمبادئ التي حكمت هذا النظام في العقود الأخيرة، مثل مفاهيم العولمة والسيادة ودور الدولة الوطنية والتكامل الإقليمي والدولي والحوكمة، وغيرها، كما طرحت تساؤلات جدية حول مستقبل النظام الليبرالي الدولي، وتوازنات القوى الدولية في المستقبل المنظور، وأنماط علاقات التعاون والصراع على المستويين الإقليمي والدولي، بل وحتى على المستوى الداخلي في بعض الدول والمجتمعات، ناهيك عن مفاهيم الأمن الوطني والدولي والتنمية الاقتصادية، التي قد تخضع بدورها للتفكيك وإعادة التركيب والبناء.
نقطة تحول مفصلية في العالم.. لماذا؟
تتسم أزمة وباء كورونا المستجد بمجموعة من السمات العامة التي تجعلها مختلفة عن الأزمات الأخرى التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، وتدفع كثيراً من الباحثين والمتخصصين إلى الحديث عن أنها قد تشكل نقطة تحول ربما تكون جوهرية في بنية النظام الدولي الراهن، من أبرزها:
1 الانتشار العالمي الواسع والسريع عولمة الوباء : على عكس الأوبئة الأخرى التي شهدها العالم في العقود القليلة الماضية، والتي اتسمت بمحدودية وبطء انتشارها وقلة المصابين بها، شكل الانتشار السريع والواسع النطاق لوباء “كوفيد19-” إحدى السمات الرئيسية لهذا الوباء، وأحد أهم جوانب خطورته.
وبمقارنة بسيطة للأرقام والاحصائيات يمكن أن نتبين خطورة هذا الأمر. فوباء إنفلونزا الطيور الذي ظهر عام 2003 تسبب في وفاة حوالي 450 شخصاً فقط، فيما تسبب وباء سارس الذي انتشر عامي 2002/2003، في أكثر من 8000 إصابة مات على إثرها نحو 800 شخص في جميع أنحاء العالم، وأودى فيروس إنفلونزا الخنازير “إتش 1 إن 1” (H1N1) الذي اكتشف عام 2009، بحياة 18 ألف شخص حتى نهاية عام 2010 بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، بينما أودى فيروس الإيبولا الذي ظهر وانتشر في غرب أفريقيا بحياة حوالي 6 آلاف شخص عام 2013، وأكثر من 2200 شخص في موجته الثانية عام 2018.
وهذا لا يمكن مقارنته بخسائر وباء “كوفيد19-”، سواء في عدد الوفيات أو الإصابات، أو في اتساع رقعة انتشار الوباء الذي غطى العالم كله تقريباً، وشلّ طرق السفر الدولية والحركة الاقتصادية وحجز نحو نصف البشرية داخل منازلها ولم يسلم منه حتى رؤساء الدول والحكومات.
وهذا الانتشار الواسع والسريع للوباء يمكن رده إلى عاملين رئيسيين، الأول، هو ما أتاحته العولمة والتكنولوجيا الحديثة في مجال الاتصال والمواصلات من وسائل للأشخاص للتنقل عبر الحدود بسرعة كبيرة وسهولة؛ وهذا التدفق البشري السلس والضخم عبر الحدود، جعل من السهولة على أي مرض أو وباء الانتقال بسرعة كبيرة عبر العالم على غرار ما حدث مع وباء “كوفيد19-”، في إطار ما أصبح يعرف باسم “عولمة الأوبئة” التي تعكس أحد تجليات العولمة السلبية، وهو ما أخضع ظاهرة العولمة نفسها لكثير من الجدل والتشكيك في ضرورتها وأهميتها. والثاني، يرتبط بمركز ظهور وتفشي الوباء، ونقصد بذلك الصين، التي ترتبط بعلاقات واسعة بجميع دول العالم تقريباً، وتتمتع بعلاقاتها الاقتصادية المتشعبة والواسعة؛ فهي صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر مصدر للسلع، ولديها نحو خُمس عدد سكان العالم.
2 شمولية الأزمة وتعدد مجالاتها وأبعادها : فالخسائر والتداعيات المترتبة على الأزمة التي خلفها هذا الوباء لم تقتصر على الجوانب الانسانية والصحية على ضخامتها ، وإنما امتدت لتشمل مختلف المجالات الاخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الاستراتيجية والأمنية. وهذا الأمر يجعل هذه الأزمة تختلف عن الأوبئة السابقة ، وحتى عن الأزمة الأقتصادية العالمية عام 2008 ، والتي كانت تداعياتها تتركز بالأساس على الجوانب والأبعاد الاقتصادية .
3 أن الأزمة تركزت بصورة أكبر في الدول الكبرى المهيمنة على النظام الدولي، ولاسيما الصين وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وبالنظر إلى ما تمثله هذه القوى من أهمية باعتبارها الفواعل الرئيسية في النظام الدولي الراهن، فإن التأثيرات التي ستتركها الأزمة على هذه الدول، سيكون لها تأثيرها الواضح على موازين القوى الدولية مستقبلاً، كما أن تعامل هذه القوى الدولية مع الأزمة وإدارتها لها، ستُظهر مؤشرات مهمة على ما تتمتع به من عوامل قوة ومرونة على التعامل مع التحديات العالمية المهمة، وهو مؤشر مهم في دراسة توازنات القوى الدولية الحالية والمستقبلية.
4 فجائية الأزمة، والمقصود بالفجائية هنا ليس عدم توقع الوباء، ولكن حجمه وسرعة انتشاره، فهذه الأزمة لم يكن متوقعاً أن تكون على هذا المستوى من الخطورة والانتشار لكثير من دول العالم حتى المتقدمة منها التي لم تكن، في ما يبدو، مهيأة وعلى استعداد للتعامل مع تداعيات هذه الأزمة وتحجيم خطرها، ولا سيما على مستوى القطاع الصحي. فالإمكانيات والقدرات الطبية والصحية بدت قاصرة في كثير من دول العالم، ولم تستطع تحمل عبء الأعداد الكبيرة من الإصابات، مما أحدث أزمة كبيرة في قدرة هذه الدول على استيعاب هذه الأعداد من المصابين وتوفير الرعاية الصحية لهم الأمر الذي فاقم من الخسائر البشرية وحدة التداعيات الأخرى للأزمة.
تداعيات إقليمية ودولية واسعة وعميقة
لم يكن تفشي وباء كورونا المستجد كوفيد- 19 حدثاً عابراً كغيره من موجات انتشار الأوبئة التي ضربت أقاليم العالم خلال العقود الماضية، فالتأثيرات والتغييرات الجوهريــة التي أفرزها هذا الوباء على المســتويات السياســية والاقتصاديــة والأمنية والمجتمعيــة، هي من الضخامة بشكل يجعل كثيراً من الباحثين والخبراء وحتى السياسيين يتوقعون أن تغير المشهد العالمي برمته. ويمكن الإشارة إلى أهم ملامح هذه التأثيرات أو التداعيات على النحو الآتي:
-1 التداعيات الاقتصادية
ألقت أزمة انتشار “وباء كوفيد19-” بتأثيراتها المباشرة على الاقتصاد العالمي، الذي دخل في أزمة اعتبر كثيرون من بينهم صندوق النقد الدولي والمستشارة الالمانية أنجيلا ميركل، أنها أسوأ من الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008، فيما شبهها بعض الخبراء والمتابعين بأزمة الكساد العظيم التي شلت الاقتصاد العالمي في أواخر عشرينيات القرن الماضي. فمع إغلاق معظم دول العالم لحدودها، وتوقف حركة السياحة والسفر بصورة شبه كلية، وإغلاق كثير من المصانع والمشروعات التجارية والقطاعات الخدمية، وتقييد حركة المواطنين، وفرض الحجر الصحي على نصف سكان العالم تقريباً، وغير ذلك من إجراءات تقييدية واحترازية لجأت لها دول العالم المختلفة لمحاولة منع انتشار الفيروس إليها، تعرض الاقتصاد العالمي لصدمة قوية، أدخلته بالفعل في ما وصفته كريستالينا جورجييفا مديرة صندوق النقد الدولي يوم 27 مارس 2020 بأنه أسوأ مرحلة ركود خلال العقود الماضية. التقديرات بتراجع النمو الاقتصادي العالمي تباينت بشكل كبير بسبب حالة عدم اليقين بشأن آفاق أزمة هذا الوباء، حيث توقعت مؤسسة ستاندرد أند بورز في تقرير أصدرته يوم 22 مارس 2020 أن يتراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي ليسجل نسبة تتراوح ما بين 1% و1.5% خلال عام 2020، مع احتمالات بالمزيد من التصاعد في المخاطر، فيما توقّع خبراء وكالة بلومبرج أن يكون العام الحالي الأسوأ منذ الركود العالمي الذي بلغ ذروته في عام 2009، وأن يفقد الناتج العالمي حوالي 2.7 تريليون دولار بنهاية 2020، وذلك على فرض استعادة الاقتصاد العالمي عافيته بحلول الربع الأخير من نفس العام، وسيكون الوضع أكثر سوءاً في حال عدم تحقق تلك الفرضية. كما خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو أكثر من مرة قبل أن تعلن مديرة الصندوق رسميا في نهاية مارس دخول الاقتصاد العالمي مرحلة الركود، مشيرة إلى أن تقديرات الصندوق “للاحتياجات المالية الإجمالية للأسواق الناشئة، تبلغ 2,5 تريليون دولار”، وأن أكثر من 80 دولة قد طلبت بالفعل مساعدة طارئة من صندوق النقد الدولي، لمواجهة تداعيات وباء كورونا. في السياق ذاته، توقعت منظمة التجارة العالمية تسجيل تراجع حاد في التجارة العالمية خلال العام الجاري، قد يصل إلى ما يتراوح بين 13% و32%، مشيرة إلى أن التأثير على التجارة من المُرجح أن يتجاوز الركود الناجم عن الأزمة المالية العالمية عام 2009، وقد يصل إلى مستوى أزمة الكساد الكبير عام 1929 في أسوأ السيناريوهات تشاؤوماً.
تطور حجم التجارة العالمية 2000- 2022
كما توقع خبراء معهد التمويل الدولي تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي لتسجيل أدنى مستوياته منذ الأزمة المالية العالمية، بما يقترب من 1% فقط، وهو ما يقل كثيراً عن نمو بنسبة 2.6% في 2019، فيما توقعت منظمة التعاون والتنمية، والتي تمثل الاقتصادات الـ(36) الأكثر تقدماً في العالم، انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي 2020 إلى (1.5%) خلال 2020، أي ما يقرب من نصف المعدل الذي كانت تتوقعه (2.9%) قبل تفشي الفيروس.
وعلى المستوى القطاعي، تعرضت قطاعات مثل قطاع السياحة والصناعات المرتبطة بالسفر والسياحة، ومنها شركات الطيران وخطوط الرحلات البحرية والفنادق، إلى ضربات قوية، فيما تعرضت أسواق المال العالمية الكبرى لصدمات قوية سببت لها خسائر بمئات مليارات الدولارات. كما دفعت المخاوف بشأن الانتشار العالمي للفيروس المستثمرين إلى رفع أسعار السندات، مما أدى إلى انخفاض العائدات في الاقتصادات الكبرى، واللجوء إلى الأصول الآمنة مثل الذهب الذي ارتفعت أسعاره. كذلك أدى انخفاض النشاط الاقتصادي العالمي إلى خفض الطلب على النفط، وهبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها في عدة سنوات، وضاعف من خطر هذا الانخفاض الخلاف حول تخفيضات الإنتاج بين أوبك وحلفائها والذي تسبب في مزيد من انهيار أسعار النفط العالمية لتصل في منتصف مارس 2020 إلى أدنى مستوى منذ عام 2003.
وأدت هذه التداعيات الاقتصادية الكارثية إلى فقدان ملايين الوظائف وارتفاع قياسي في معدلات البطالة، حيث توقعت منظمة العمل الدولية في منتصف مارس 2020 أن يؤدي الوباء إلى فقدان نحو 25 مليون وظيفة في العالم، قبل أن تعود المنظمة نفسها وتعدل تقديراتها لتعلن في 8 أبريل 2020 أن الوباء يهدد بفقدان 195 مليون وظيفة بدوام كامل في العالم. كما زادت المخاوف العالمية من احتمالات حدوث أزمة غذاء عالمية بسبب تعطل سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، ولاسيما أن هذه السلاسل تعتمد بالدرجة الأولى على الصين، التي ضربها الفيروس وعزلها بصورة كبيرة عن العالم في الأشهر الأولى من الأزمة.
وفي مواجهة ذلك، سارعت العديد من دول العالم إلى تقديم خطط إنقاذ وتحفيز اقتصادي ومالي غير مسبوقة، وتخصيص تريليونات الدولارات لتنشيط اقتصادياتها وتعزيز قدرتها على مواجهة التداعيات الاقتصادية الضخمة التي أفرزها وباء كورونا (على سبيل المثال: تعهدت دول مجموعة العشرين بضخ 5 تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي خلال الاجتماع الذي عقدت برئاسة السعودية في نهاية مارس 2020، فيما أعلنت الولايات المتحدة عن أكبر خطة انقاذ اقتصادي في تاريخها بقيمة 2.2 تريليون دولار لمواجهة العواقب الاقتصادية للوباء، وأقر الاتحاد الأوروبي خطة إنقاذ مالي للدول الأوروبية المتضررة بقيمة 500 مليار يورو). لكن قدرة هذه السياسات والخطط لمعالجة تبعات الأزمة الاقتصادية التي سببها الوباء، ستتوقف على عوامل مهمة من بينها المدى الزمني لهذه الأزمة، فكلما طالت الفترة الزمنية تفاقمت التداعيات الكارثية للوباء على الاقتصاد العالمي.
2 -التداعيات السياسية والاستراتيجية
جاءت أزمة وباء “كوفيد19-” كاشفة عن الكثير من الاختلالات القائمة ليس فقط في بنية النظام الدولي الحالي، ولكن أيضاً على المستويين الوطني والإقليمي، حيث تعددت التأثيرات السياسية التي خلفتها، أو يتوقع أن تخلفها الأزمة، على هذه المستويات الثلاثة، كما يلي:
أ-على المستوى الوطني:
•كشفت هذه الأزمة عن اختلالات كبيرة في نظم الحوكمة الصحية والاقتصادية والسياسية في كثير من دول العالم، بما في ذلك الدول الكبرى الغنية بمواردها المالية والمتقدمة علمياً وطبياً، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وغيرها، والتي عجزت عن وقف تمدد وانتشار الوباء، بسبب عدم استعداد نظمها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، ولاسيما نظمها الصحية، التي بدت غير قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من المصابين، ونظمها السياسية، التي أظهرت في غالبيتها فشلاً واضحاً في بلورة سياسات واستراتيجيات مرنة وفاعلة في إدارة هذه الأزمة الصحية الطارئة والتعامل معها. وهذا الأمر قد يدفع إلى إحداث تغييرات جوهرية في أولويات السياسات الداخلية التي تنتهجها هذه الدول مستقبلاً.
•سيكون لهذه الأزمة تأثيراتها الواضحة على مستقبل كثير من الحكومات والأنظمة السياسية، استناداً إلى مدى كفاءتها في إدارة هذه الأزمة أو فشلها في ذلك، ولاسيما في الدول الغربية. فالفشل في إدارة هذه الأزمة كما هو الحال في كثير من الدول، قد يترتب عليه تغيير هذه الحكومات وعدم انتخابها مجدداً. وقد ناقشت العديد من الآراء بالفعل كيف يمكن أن تؤثر هذه الأزمة على مستقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقررة نهاية العام الحالي. في المقابل، ترى بعض الآراء أن نجاح حكومة الصين في كبح جماح الوباء والسيطرة عليه، سيعزز من مصداقيتها وشعبيتها داخلياً، ويعزز من قوة نظامها السياسي الحالي.
• مثلت أزمة وباء كورونا فرصة لبعض الدول التي تعاني من أزمات سياسية لتجميد هذه الأزمات، وربما تسويتها وإنهائها، بسبب المخاوف من انتشار وباء كورونا، ففي بعض الدول التي كانت تشهد احتجاجات شعبية داخلية مثل الجزائر والعراق وإيران على سبيل المثال، تراجعت حدة هذه الاحتجاجات وتوارت بصورة كبيرة، مما مثل فرصة للنظم الحاكمة في هذه الدول لالتقاط الأنفاس. كذلك الحال في الدول التي تشهد صراعات داخلية، مثل ليبيا وسوريا واليمن، حيث تراجعت حدة العنف والصراع في هذه البلدان، بالتوازي مع تزايد الجهود والدعوات الدولية المطالبة بإنهاء هذه الأزمات وتسويتها كمدخل للمواجهة الفاعلة لوباء “كوفيد19-”. ويشار هنا على سبيل المثال إلى إعلان التحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية يوم 9 أبريل 2020 وقفاً شاملاً لإطلاق النار من جانب واحد لمدة أسبوعين.
• عززت هذه الأزمة من خطر المتطرفين بتوجهاتهم المختلفة داخل المجتمعات، حيث استغلت بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة ودُعاة القومية في الغرب انتشار هذا الوباء لتأكيد توجهاتهم المنادية بالانغلاق على الذات ومناهضة المهاجرين. وتشير كثير من التقديرات إلى أن شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة قد ترتفع بصورة أكبر في الدول الغربية بالنظر إلى نتائج هذه الأزمة الصحية، وما ارتبطت به من اتهامات للمهاجرين بالمسؤولية عن جلب الوباء. كما استغلت الجماعات الدينية المتطرفة في العالمين العربي والإسلامي هذه الأزمة في محاولة لاستعادة تأثيرها واستقطاب مزيد من الأفراد إلى صفوفها عبر ترويج خطابات دينية تعتبر أن انتشار هذا الوباء غضب إلهي بسبب الابتعاد عن الدين ومحاربة “المؤمنين!”.
• أعادت هذه الأزمة تأكيد أهمية البعد المجتمعي في السياسات الداخلية، وأهمية تضافر الجهود الرسمية والشعبية في مواجهة الأزمات الخطيرة، ولا سيما في أزمة كهذه كانت أساليب المواجهة الرئيسية فيها تعتمد على الوعي المجتمعي والتزام الجمهور بالتعليمات والإجراءات الصادرة من السلطات مثل الحد من حركة السكان ومنع اختلاطهم لوقف انتشار الوباء.
ب ـ على المستوى الإقليمي:
كشفت أزمة وباء “كوفيد19-” غياب فكرة العمل الجماعي داخل التجمعات الإقليمية في مواجهة أزمة خطيرة كأزمة هذا الوباء. والمثال الأبرز على ذلك هو الاتحاد الأوروبي، حيث شهدت العلاقات بين دوله توترات ملحوظة، مع بطء التحرك لتقديم الدعم للدول الأكثر تضرراً؛ ومن المؤشرات الدالة في هذا الصدد، التحذير الذي أطلقه رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي، يوم 29 مارس 2020، والذي حذر فيه من أن الاتحاد الأوروبي بكامله “قد يفقد سبب وجوده”، ما لم يكن على مستوى التحدي الذي تفرضه أزمة وباء فيروس كورونا المستجد وتحذيره يوم 9 أبريل 202 من أن “الاتحاد الأوروبي يواجه خطر الفشل كمشروع نتيجة تفشي فيروس كورونا”.
كما دفعت الأزمة كثيراً من الأحزاب والقوى السياسية الأوروبية، ولاسيما اليمينية منها لأن تطرح تساؤلات حول فائدة التكتل الأوروبي ذاته، في وقت لم تتضامن فيه دوله بشكل حقيقي في مواجهة أزمة وجودية مثل أزمة وباء “كوفيد19-”، وخاصة مع قيام دول مثل فرنسا وألمانيا بفرض قيود على تصدير المستلزمات الطبية إلى باقي دول الاتحاد، ورغم أن ذلك يبدو مفهوماً بالنظر إلى حقيقة أن هذه الدول ترغب في حماية نفسها ومواطنيها وخاصة أنها هي الأخرى تعاني من انتشار الوباء، فإن هذا السلوك أثار استياءً لدى الرأي العام الإيطالي، جسده تصريح تصريح السفير الإيطالي لدى الاتحاد الأوروبي يوم 23 مارس الذي أوضح فيه بأن الاتحاد لا ينبغي أن يترك إيطاليا وحيدة في هذه الأزمة كما تركها وحيدة في مواجهة أزمة اللاجئين، والصور التي نقلتها وسائل الإعلام لإيطاليين يقومون بإنزال العلم الأوروبي واستبداله بالعلم الصيني، بعدما قدمت بكين بعض الدعم لبلادهم.
وفي السياق ذاته، صرّح رئيس الوزراء النمساوي سبستيان كورز بأن “مبدأ التضامن والتكاتف لا يعمل في أوروبا في ظل هذا الوضع الخطير”، في حين أكد رئيس وزراء جمهورية التشيك أندريه بابيس، الذي سارع إلى إغلاق حدود بلاده مع 15 دولة، أن “الدول الأوروبية لم تستطع تنسيق الوضع في ما بينها”. وفي ضوء ذلك سيكون مصير الاتحاد الأوروبي كله على المحك في إدارة هذه الأزمة وتبعاتها.
ج- على المستوى الدولي:
أفرزت أزمة وباء “كوفيد19-” جملة من التداعيات المهمة، كما جاءت كاشفة عن عدد من الاختلالات الرئيسية على المستوى الدولي، من أبرزها:
•وهم التضامن الدولي: كشفت الأزمة عن غياب مفهوم التضامن الجماعي الدولي وسيطرة الأنانية الوطنية للدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة التي لم تقدم المساعدة حتى للدول الأوروبية الحليفة، بل كانت أول من أغلق الحدود معها. والأخطر من ذلك أن عددا من القوى الدولية – بما فيها قوى كبرى – دخلت في صراعات ومعارك جانبية أثارت الشكوك في جديتها في التعاون لمواجهة خطر الوباء الجديد؛ ومن ذلك الملاسنات الأمريكية – الصينية بهذا الشأن، حيث اتهمت بكين واشنطن بتعمد خلق حالة من الخوف وتضخيم الأمور بشأن فيروس كورونا، وبشكل لا ضرورة له للإضرار بصورتها وسمعتها، فيما استخدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصطلح “فيروس الصين” لوصف فيروس “كوفيد19-”، في خطوة أثارت غضب الصين. ووصل الأمر إلى حد تلميح المتحدث باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان، إلى قيام الولايات المتحدة بجلب الفيروس إلى مدينة ووهان الصينية. كما غاب مفهوم التضامن حتى بين الدول الأوروبية وبعضها البعض، كما تمت الإشارة، في الوقت الذي تواترت فيه الأخبار عن قيام دول كبرى بالسطو على شحنات مستلزمات طبية كانت متجهة إلى دول أخرى، لمواجة النقص الحاد الذي تعانيه في هذه المستلزمات.
وقد ساهم غياب هذا التضامن، ناهيك عن الصراعات الجانبية بين الدول الكبرى، في سرعة انتشار الوباء وتضخم تداعياته على المستويات كافة، قبل أن تتدارك الدول الكبرى هذا الأمر وتبدأ في تنسيق مواقفها، على النحو الذي تجسد في الاجتماع الافتراضي الطارئ لقمة مجموعة العشرين، الذي دعت إليه وترأسته السعودية، يوم 24 مارس 2020، وخلص إلى عدة نتائج مهمة من بينها: التعهد بضخ خمسة تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي، وتأكيد القادة أنهم “ملتزمون بشدة بتشكيل جبهة متحدة لمواجهة هذا الخطر المشترك”.
•قوة الصين: رغم أن الأزمة ظهرت في بدايتها في الصين وتفشت فيها على نطاق واسع، فقد نجحت الصين من خلال إجراءات صارمة في أن تحجم هذه الأزمة وتقلل خسائرها البشرية بصورة كبيرة. ليس فقط ذلك، بل قامت الصين بتقديم الدعم لكثير من دول العالم لمساعدتها على مواجهة خطر الوباء بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، فعلى سبيل المثال أشارت وسائل إعلام أمريكية يوم 17 مارس أن إحدى الشركات الصينية العملاقة سوف تبيع مليون كمامة ونصف مليون حزمة أدوات طبية إلى الولايات المُتحدة، وأن الصين أرسلت مُساعدات طبية مماثلة لليابان، وكوريا الجنوبية، وإيران، وإيطاليا، وإسبانيا، خصوصا للعاملين في المجال الصحي، بسبب أنهم أكثر الناس عرضة للإصابة. وفي 19 مارس تسلمت فرنسا من الصين مليون كمامة طبية، ومليون ونصف المليون قفازات واقية، و10 آلاف بدلة واقية لاستخدام الأطباء ومُعاونيهم. كما أرسلت الحكومة الصينية أطباء ومتخصصين لنقل خبرتها في مكافحة المرض إلى عدد من الدول.
وهذا الأمر لم يثبت فقط أن الصين أصبحت دولة كبرى قادرة على مواجهة الأزمات الخطيرة، بل أيضاً عزز من علاقاتها الدولية، حيث وجه وزير الخارجية الفرنسي الشكر للحكومة الصينية على هذا الدعم، وعلى تضامنها مع الشعب الفرنسي، كما شكرت إيطاليا الحكومة الصينية، وقام الشعب الإيطالي برفع العلم الصيني فوق مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فيما كانت التغريدة التي كتبها أورسولا فون دير لاين، رئيس “مفوضية الاتحاد الأوروبي”، في 18 مارس، أكثر تعبيراً عن هذا التقدير الدولي لدعم الصين، حيث كتب قائلاً: “تحدثتُ مع رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ الذي أعلن أن الصين ستوفر مليوني كمامة جراحية، و200 ألف كمامة من نوع “أن 95” و50 ألف أداة اختبار. وفي يناير، ساعد “الاتحاد الأوروبي” الصين من خلال التبرع بـ 50 طناً من المعدات. واليوم، نحن ممتنون للدعم الذي تقدمه الصين. فنحن بحاجة إلى دعم بعضنا البعض في أوقات الحاجة”.
•هشاشة العولمة: مثّل فيروس كورونا المستجد اختباراً مهماً لهشاشة العولمة وسلبياتها، فمع انهيار سلاسل الإمداد، وقيام الدول بتخزين الإمدادات الطبية، وإقدامها على الحد من السفر، وما ترتب على ذلك من أزمة طالت الاقتصاد العالمي المترابط، وضع كثير من المفكرين والباحثين وحتى السياسيين العولمة موضع الاتهام، مشيرين إل أنها لم تتسبب بالانتشار السريع للأمراض المعدية فحسب، ولكنها عزَّزت الترابط العميق بين الشركات والدول، مما جعلها أكثر عرضة للصدمات غير المتوقعة، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات بشأن مستقبل النظام الدولي المعولم.
•إعادة الاعتبار للدولة الوطنية: أعادت هذه الأزمة الاعتبار بصورة كبيرة لدور الدولة الوطنية، بعد سنوات طويلة من التبشير باختفاء هذا الدور، فمع الفشل الواضح في التصدي للوباء، وانهيار نظم الرعاية الصحية وتفاقم الركود الاقتصادي، سجلت الدولة وأداتها الرئيسية المتمثلة في الحكومة المتدخلة عودة قوية لمواجهة هذه الأزمة، حتى أن رئيس أكبر دولة في العالم، وهو الرئيس دونالد ترامب لجأ إلى استخدام قوانين استثنائية تعود إلى سنوات الحرب العالمية الثانية لإجبار شركات صناعية مثل “جنرال موتورز” على إنتاج أجهزة التنفس الصناعي، وشركة “3 ام” على إنتاج الأقنعة الواقية للوجه. كما اتجهت الحكومات في إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها إلى استخام صلاحياتها في فرض حظر التجوال للحد من انتشار الفيروس، وأعلنت العديد من الدول حزم انقاذ اقتصادي ضخمة لانقاذ اقتصادياتها، وغير ذلك من مؤشرات أكدت عودة الاعتبار لدور الدولة، بعدما أثبت القطاع الخاص والشركات الكبرى فشلها في التصدي لهذه الأزمة.
3- التداعيات الأمنية والعسكرية
كشفت أزمة وباء “كوفيد19-” العديد من جوانب الخلل الأمني على المستويين الوطني والدولي، وذلك كما يلي:
•مراجعة رؤى الأمن الوطني: أثبت الفيروس خطأ الحكومات في تصور التهديدات الحقيقية لأمنها الوطني، فلسنوات طويلة ركزت الحكومات على الأمن بمفهومة العسكري، وتصورت أن مصدر التهديد الرئيسي لأمنها واستقرارها قد يأتي من مصادر عسكرية وأمنية، فراكمت الأسلحة بصورها المختلفة، وزادت الانفاق العسكري بصورة كبيرة، حتى بلغ إجمالي الإنفاق العسكري العالمي في عام 2018 نحو 1.8 تريليون دولار. في المقابل، تجاهلت هذه الحكومات المصادر غير التقليدية لتهديد المنأمن الوطني والدولي مثل التغيرات المناخية والأوبئة العالمية، والتي باتت ضحاياها البشرية وتداعياتها الاقتصادية تفوق ضحايا وتداعيات الحروب بكثير.
•تهديد الأمن بمفهومه الشامل: تشير التداعيات الكارثية الناجمة عن انتشار وباء كورونا في المجالات كافة، بوضوح إلى أن هذه النوعية من الأوبئة المتفشية باتت تشكل تهديداً للأمن بمستوياته المتعددة؛ فهي تشكل تهديداً للأمن الإنساني والصحي، لأنها تستهدف حياة البشر جميعاً وصحتهم، والأعداد الضخمة للقتلى والمصابين حول العالم خير مثال على ذلك. كما أنها تشكل تهديدا للأمن الاجتماعي، لأن التداعيات المترتبة عليها من ارتفاع مستويات البطالة وفقدان ملايين الوظائف وتراجع الخدمات وحتى السلع الأساسية يمكن أن يقود إلى اضطرابات اجتماعية واسعة.
•إعادة النظر في مفهوم الأمن الوطني: أبرزت هذه الأزمة الحاجة الماسة لإعادة النظر في منظومة الأمن الوطني، بحيث تركز على الأمن الإنساني بمفهومه الشامل الذي يتضمن أمن الفرد والمجتمع والدولة معاً، وتضع الأمن الصحي في مقدمة الأولويات التي ينبغي التركيز عليها. وكذلك، إعادة النظر في منظومة الأمن الجماعي الدولي لتكون قادرة على مواجهة تلك التهديدات الجديدة، خاصة فيما يتعلق بتطوير منظومة للأمن الصحي الجماعي، وزيادة نسبة الإنفاق على قطاع الصحة في ميزانيات الدول خاصة فيما يتعلق بالاهتمام بالأبحاث الطبية والوقائية، وتطوير وتوفير المستشفيات والاهتمام بالقطاع الطبي من أطباء وممرضين باعتبارهم خط الدفاع الأول في مواجهة تلك التهديدات، إضافة إلى التعامل بجدية مع التغيرات المناخية وتأثيراتها السلبية والتي تنذر بكوارث بيئية مدمرة.
•تعزيز دور الجيوش الوطنية: أعادت هذه الأزمة الاعتبار لدور الجيوش الوطنية في مواجهة الأزمات والأوقات الصعبة، بعدما اضطرت العديد من الحكومات إلى نشر قوات الجيش وعناصر الشرطة في الشوارع لفرض إجراءات الحظر ومواجهة الوباء، وهي تطورات قد يكون لها تأثيراتها المستقبلية على بنية نظم الحكم الداخلية حتى في الدول الغربية.
•الأمن السيبراني: أبرزت هذه الأزمة الحاجة إلى الاهتمام بصورة أكبر بالأمن السيبراني، ففي ظل توجه العديد من الهيئات الحكومية والمؤسسات والشركات إلى اعتماد آلية العمل عن بعد، وتزايد الاعتماد على الانترنت لتسيير وتشغيل الأنظمة الصحية والتجارة الإلكترونية والمعاملات البنيكة، ستزداد احتمالات حدوث هجمات سيبرانية وستكون أكثر خطورة.
النظام الدولي.. إلى أين؟
إلى أي مدى يمكن أن يغير هذا الوباء والنتائج التي أفرزها، وسيفرزها، المشهد العالمي الراهن؟ وهل نحن بالفعل بصدد نشأة نظام عالمي جديد يختلف كليا عن ذلك الذي ساد العالم في مرحلة ما قبل وباء كورونا؟
الإجابة عن هذه التساؤلات ليست قطعية، ولاسيما أن الوباء لايزال يتفاعل، ولم تتضح بعد حدود التأثيرات النهائية التي يمكن أن تترتب عليه، فقد ينتهي بعد أسابيع قليلة، وقد يستمر لأشهر طويلة، وفي الحالتين ستختلف السيناريوهات بصورة كبيرة. ويبرز هنا بشكل خاص سيناريوهان رئيسييان:
السيناريو الأول: نشأة نظام عالمي جديد يختلف كلياً عن النظام العالمي السائد قبل وباء كورونا، ويفترض هذا السيناريو أن تشهد موازين القوى الدولية تغيرات كبيرة، تتمثل في الأساس في صعود الصين وتراجع القوى الأوروبية والأمريكية، وربما انهيار الاتحاد الأوروبي، وإعادة هيكلة مؤسسات النظام الدولي الراهن بعد فشلها في مواجهة الوباء، وعكس مسار العولمة مع جعل العالم اقل انفتاحاً وحرية، وتغير خريطة التحالفات الدولية بحيث تتمحور حول الصين وروسيا.
وهذا السيناريو يبدو غير مرجح إلا إذا استمر تفشي الوباء في الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة وأوروبا، لفترة طويلة، وفشلت الحكومات في السيطرة عليه وحماية شعوبها من تبعاته، بكل ما قد يترتب على ذلك من انهيارات اقتصادية وسياسية، وربما حدوث فوضى أمنية واجتماعية واسعة فيها. ولكن إذا تمكنت هذه الدول من السيطرة على الوباء خلال فترة زمنية قريبة، وتحجيم تداعياته، وهو أمر مرجح بصورة كبيرة، فإن هذا السيناريو سيكون بعيداً عن التحقق.
السيناريو الثاني، حدوث تغييرات جوهرية أو مهمة، في المشهد السياسي العالمي الحالي، دون أن يصل الأمر إلى حدوث تغير جذري أو شامل في بنية النظام الدولي القائم. وهذه التغييرات ستتباين حدتها بحسب طول الفترة الزمنية للوباء وتأثيراته النهائية على القوى الدولية المختلفة. وهذا السيناريو يبدو أكثر ترجيحاً وأكثر واقعية، بالنظر إلى حقيقة أن هذا الوباء هو عبارة عن أزمة صحية طارئة، ستنجح الدول على الأرجح في تحجيمها خلال فترة قد تطول او تقصر.
ومن أبرز التغييرات أو التأثيرات التي يتوقع حدوثها في عالم ما بعد كورونا، ضمن سياق هذا السيناريو، ما يلي:
•حدوث تغيرات مهمة في موازين القوى الدولية: حيث أوضحت الأزمة عدة مؤشرات مهمة على تعاظم أهمية الصين في موازين القوى الدولية، من بينها: أن الصين استجابت بجهد وفعالية أكبر للجائحة سواء داخل البلاد أو خارجها، ورغم عدد سكانها الضخم وانتشار الفيروس فيها بشكل واسع في البداية، فقد تمكنت من السيطرة عليه، بل وتقديم المساعدة للآخرين، في حين فشلت الولايات المتحدة فى مواجهتها لهذا الوباء، أو حتى تقديم الدعم لحلفائها في مواجهته. ومن هذه المؤشرات أيضاً أن توقف سلاسل الإمداد والتوريد من الصين وضع العالم كله في أزمة كبيرة، لأنها أكبر مصدر للسلع في العالم، وهذا يظهر تزايد قوتها على الساحة الدولية.
ومع ذلك لا يتوقع أن تميل موازين القوى لصالح الصين، فالولايات المتحدة لاتزال القوة الأكبر عالمياً، ولا يتوقع أن تتنازل عن مكانتها هذه إلا إذا فشلت تماماً في السيطرة على الوباء.
أما أوروبا، فقد كشفت الأزمة عن استمرار تراجع مكانتها ضمن موازين القوى الدولية، فبعد انسحاب بريطانيا رسمياً مطلع هذا العام، أصبح الاتحاد كله مهدد بالفشل والانهيار تحت وطأة تبعات أزمة وباء “كوفيد19-”. هذا في الوقت الذي حافظت فيه روسيا على قوتها وقدراتها بصورة كبيرة، حتى الآن، نتيجة هامشية تأثرها بالوباء، الأمر الذي سيعزز من موقعها ضمن موازين القوى الدولية المستقبلية.
•طبيعة العلاقات الصراعيىة/ التعاونية بين القوى الدولية: كشفت أزمة وباء “كوفيد19-” أهمية تعزيز التعاون الدولي في مواجهة خطر الأوبئة، ورغم أن هذا الأمر يشير إلى احتمال تزايد الطبيعة التعاونية في علاقات القوى الدولية مستقبلاً، فإن ذلك ليس أمراً حتمياً، بل على العكس قد تتعزز العلاقات التنافسية بين هذه القوى، في سعيها لتأكيد مكانتها في النظام الدولي في مرحلة ما بعد كورونا. والتجارب التاريخية تؤكد ذلك، فوباء الأنفلونزا الأسبانية الذي أودى بحياة ملايين البشر عبر العالم عامي 1918- 1919، لم ينهِ تنافس القوى العظمى، ولم يبشّر بعصر جديد من التعاون الدولي.
•أنماط التحالفات: قد يشهد العالم تحولاً في أنماط التحالفات الدولية، ولاسيما في ضوء ما أظهرته الصين والولايات المتحدة خلال إدارة الأزمة من سلوكيات عززت أو أضعفت الثقة في التحالف معهما. فالولايات المتحدة التي رفعت شعار “أمريكا أولاً”، خلال الأزمة، وعدم دعمها لحفائلها الأوروبيين، لا يدعم صورة الولايات المتحدة كقائد للعالم، في حين تصرفت الصين بهذه الصفة من خلال إظهار التعاون وتقديم الدعم للآخرين، وهو ما يزيد من ثقة الدول في الصين عكس الولايات المتحدة.
•إبطاء مسار العولمة وتعزيز الانكفاء على الذات، فقد عزز هذا الوباء آراء الاتجاه المناهض للعولمة، الذي يرى أنها السبب في انتقال هذا الوباء من الصين وتفشيه في العالم كله، لأنها جعلت العالم مترابطًا أكثر من أي وقت مضى من خلال الانفتاح في تنقل الأشخاص والبضائع والتكامل المالي العالمي، والثورة الرقمية، والتفوق الواضح للديمقراطية الليبرالية. ورغم أن هذا المسار المناهض للعولمة قد بدأ يبرز قبل فترة وتجسد في تنامي شعبية الأحزاب اليمنية المتطرفة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتزايد الإجراءات الحمائية التي تتخذها الدول الكبرى، فإن عولمة هذا الوباء ستعزز التوجه العالمي المناهض للعولمة، لكنها لن تقضي عليها.
في المقابل، من المتوقع أن يتزايد انكفاء الدول على الذات لعلاج مظاهر الاختلالات التي أظهرتها أزمة الوباء، ومن أهمها الاهتمام بتقوية أنظمتها الصحية، وإعادة تنشيط الصناعات الداخلية فيها، ولاسيما في ضوء ما أظهرته هذه الأزمة من ثغرات خطيرة في الاعتماد على الخارج بصفة أساسية في سلاسل التوريد والإمداد لصناعات ومنتجات رئيسية مثل الغذاء والمستلزمات الطبية والوقائية التي تعطلت بصورة كبيرة خلال الأزمة.
•قد تتغير أولويات الأمن الجماعي الدولي مع الانتقال من التركيز على الأمن بمفهومه العسكري إلى التركيز على الأمن بمفهومه الإنساني والمجتمعي، بما يسهم في مواجهة الأزمات والكوارث الإنسانية، وخاصة الأمراض المتفشية والأوبئة العابرة للحدود، بعد أن ثبت بوضوح أن أجهزة التنفس الصناعي تفوق في أهميتها ترسانات الأسلحة التي تمتلكها العديد من القوى الكبرى في العالم.
•التعافي التدريجي للاقتصاد العالمي: تُشير التجربة التاريخية مع الصدمات الكبيرة المماثلة إلى أن الأضرار الاقتصادية على المدى القصير قد تكون كبيرة؛ نظراً لأن المستثمرين يخففون من محافظهم الاستثمارية خشية تقلبات السوق، خاصةً في القطاعات التي تعتبر أكبر تعرض للآثار السلبية لانتشار المرض، مثل السفر والسياحة والسلع الفاخرة والسيارات، ولكن على المدى الطويل تبدأ حدة الأزمة في التراجع مع استيعاب الاقتصاد العالمي لتبعاتها، ونجاح خطط الانقاذ الحكومي في تقليل حدة وطأتها، كما حدث مع الأزمة المالية العالمية عام 2008. لكن هذا يفترض ألا تطول فترة أزمة الوباء، لأنها إذا طالت فإن التعافي سيأخذ سنوات طويلة.
•قد تشهد العلاقات التجارية الدولية تغيرات مهمة لغير مصلحة الصين، فمع اتجاه الدول المتوقع إلى تعزيز قدراتها الذاتية في مجال إنتاج السلع الرئيسية حتى لا تتعرض لأزمة انقطاع سلاسل التوريد مستقبلا كما حدث خلال أزمة هذا الوباء، فإن حجم الصادرات الصينية سيبدأ بالتراجع، وهو ما يعني تراجع معدل النمو الاقتصادي، الذي شهد بالفعل تراجعا في السنوات الأخيرة، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع مكانة الصين بوصفها أكبر مصدر للعالم. وإذا تأكد بالفعل الاتجاه نحو إبطاء مسار العولمة، فإن ذلك سيضر أيضاً باقتصاد الصين، الذي استفاد كثيراً من أجواء الانفتاح التي وفرتها العولمة.