يعتبر الإمداد الوسيلة الرئيسية التي تحافظ على القدرة القتالية للقوات وتجعلها ذات كفاءه عالية ومؤثرة في ميدان المعركة، فهناك الكثير من الجيوش الحديثة أدركت أهمية الإمداد في ميدان المعركة، وأن الإمداد الناجح سيساهم في إنجاح المهمة، والعكس كذلك صحيح، لذا تهدف الكثير من الجيوش إلى التركيز والتفوق في مجال الإمداد لضمان تحقيق النصر في ميدان المعركة.
ويقتضي التطور المتزايد والمتنوع لاحتياجات الجيوش الحديثة كفاءة في عملية الإمداد والتموين لتمكين القوات العسكرية من تحقيق أهدافها القومية المنشودة، كما أنه من الضروري اتباع الأساليب اللازمة لإدارة عملية الإمداد والتموين، فبراعة القوات وقوتها هذه الأيام تستلزم الإدارة الشاملة للقوى البشرية والاقتصادية والأخلاقية، ويؤثر التطور السريع والمستمر للمعدات العسكرية للقوات المسلحة تأثيراً عميقاً على أنظمة الإمداد والتموين، كتأثيره على نهج القادة في وضع خطط فعالة، حيث تضع كل دولة خططها الاستراتيجية بما يتوافق مع ظروفها الأمنية والاقتصادية والسياسية، واضعة بذلك أسساً واضحة تقوم عليها المبادئ العسكرية، وتنعكس السياسة العسكرية للدولة مباشرةً على بناء القوات المسلحة وتسليحها وتطويرها، كما تُؤسس الدولة مبادئها العسكرية بالتوافق مع أهدافها الاستراتيجية وقدراتها الجغرافية والبشرية والاقتصادية.
التعريفات والمفاهيم
وبناءً على الفلسفة السابقة، فقد تعددت التعريفات والمفاهيم التي تصف الإمداد والتموين، وجميعها تصب في اتجاهٍ واحد، ومن أهمها ما يأتي:
الإمداد والتموين هو تكامل النقل والتموين والتخزين والصيانة، وتحقيق العتاد، والتعاقد، وجعلها عملاً واحداً يضمن عدم حصول أي خلل في هذه المجالات، ويمهد الطريق لإنجاز مهمة أو استراتيجية مُحددة.
علم الإمداد والتموين هو علم تخطيط وتنفيذ وحركة وصيانة القوات، ويشمل التخطيط، التطوير، الطلب، التخزين، الحركة، التوزيع، الصيانة، الإخلاء، التخلص من الممتلكات.
بعد انتهاء الحربين العالميتين وحصول الاستقرار السياسي والعسكري في أنحاء شتى من الكرة الأرضية، انفجر سباق التسلح المحموم في كثير من الدول. وعكفت الجيوش على إعادة هيكلة وحداتها، وصياغة مذاهبها واستراتيجياتها العسكرية، بالشكل الذي يتناسب مع المتطلبات المستقبلية، متخذة من الدروس المستفادة من الحربين العالميتين مرجعاً لها. وحظي الإمداد والتموين بجزء كبير من الاهتمام، فظهرت بوادر إمداد وتموين حديث ومنظم.
الفلسفة العامة للإمداد والتموين
أصبحت الفلسفة العامة للإمداد والتموين كالتالي:
• يتم التخطيط والتنفيذ للإمداد والتموين على ثلاثة مستويات: استراتيجي، عملياتي، تكتيكي.
• مستويات الإسناد أربعة مستويات: تنظيمي، مباشر، عام، ومركزي.
• كل مستوى تمويني يطلب الإسناد من المستوى الأعلى منه، ويُقدم الإسناد للمستوى الأدنى منه، ولا يجوز تجاوز المستوى التالي وطلب الإسناد من المستوى الذي يليه إلا في حالات خاصة.
• قِصَر خطوط الإمداد يُعطي تميزاً قوياً للعمليات العسكرية.
• كل مستوى إسنادي له قدرات محدودة.
• كلما تم تقديم الإسناد التمويني بكفاءة عالية انعكس ذلك إيجاباً على جاهزية الوحدات وروح الجند المعنوية.
• يجب أن تعمل وحدات الإمداد والتموين في اندماج وتكامل تام.
• يتم الاعتماد على نظام المستودعات التموينية وورش الصيانة الثابتة في مواقع القوات (المعسكرات).
• على كل وحدة الاحتفاظ بكميات كافية من التموين ولعدد مُحدد من الأيام، لتستطيع القيام بمهامها القتالية حتى وصول إسناد من مستوى أعلى.
• يجب على كل وحدة الاعتماد على وسائل نقلها وعند الحاجة يتم طلب الإسناد من المستوى الأعلى.
• الإسناد التنظيمي ــــ أدنى مستوى إسناد ــــ يُقدم لكتيبة، والإسناد المباشر يُقدم لمستوى لواء، والإسناد العام أعلى من مستوى لواء.
• تحتوي كل كتيبة قتالية على فصائل إمداد وتموين وركن تموين، وكل لواء يحتوي على كتيبة إمداد وتموين وركن تموين وسرية هندسة وطبابة لإسناده.
• تملك كل وحدة جدول تنظيم ومعدات، يُحدد استحقاقها من المواد التموينية ، ويجب التقيد به.
• الإسناد الفعال هو الإسناد الذي يتم في الوقت والمكان المناسبين، وبالكميات المناسبة.
• السياسة التموينية الحديثة تُركز على الإسناد الفعال بتكلفة أقل.
• وحدات خدمات إسناد القتال تقدم الإسناد في الميدان، ويجب أن تكون مرنة بالشكل الذي يساعدها على التحرك خلف القوات، وتنطلق منها عناصر سريعة الحركة لتقديم الإسناد المباشر داخل محاور التقدم.
• الاستفادة القصوى من الأنظمة الآلية في تسهيل إجراءات الإمداد والتموين، وربط الوحدات والمستودعات التموينية بعضها ببعض. ومراقبة المخزون وتسهيل عمليات الطلب والصرف.
أهمية الإمداد والتموين
يتضح مما سبق أهمية الإمداد والتموين في نتائج المعركة, فهما يسهمان في كسب النصر أو الهزيمة، فالحرب لا تنشب لمجرد تحسين التكتيك أو لإظهار ذكاء الدولة، وإنما تحصل لتوسيع أو حماية مصادر الدولة، وهذه المصادر إما أن تكون رجالاً، أو أموالاً، أو مواقف ومبادئ. فالتكتيك عبارة عن خطط، والإمداد والتموين عبارة عن وسائل، وكلاهما من أساليب الحروب. إذاً الإمداد والتموين (الشؤون الإدارية) لا تستطيع كسب الحرب، ولكن غيابها أو عدم كفايتها يمكن أن يتسبب وقوع الهزيمة.
الإمداد والتموين وأثره على الاستراتيجية
تُعَرَّف الاستراتيجية بأنها: التوجيه الشامل للقوات المسلحة لتحقيق الأهداف أو الأغراض العامة للدولة على المدى البعيد، وتُعَرَّف أيضاً بأنها: فن تعبئة وتوجيه موارد الأمة بما فيها القوات المسلحة لدعم وحماية مصالحها من أعدائها الفعليين أو المحتملين، وعرفها ليدل هارت بأنها (فن توزيع واستخدام مختلف الوسائط العسكرية لتحقيق أهداف السياسة).
يُعَرَّف الإمداد والتموين بأنه: عملية تخطيط وتنفيذ وتأمين القوات المسلحة في القواعد الرئيسية وفي مسرح العمليات بكافة الاحتياجات المادية في المكان والزمان المحددين، وتشمل عمليات الإمداد أيضاً التنظيم والتطوير والتجهيز والتوزيع والإخلاء والصيانة والخدمات الطبية، ومن مهامه أيضاً إمداد مصانع القوات المسلحة بكل احتياجاتها الإنتاجية وإنشاء وتجهيز مستودعات التخزين، وتتكون علاقة وثيقة بين الإمداد والاستراتيجية نتيجة لأن الموقف الاقتصادي للدولة يمثل جزءاً كبيراً ومهماً من الاستراتيجية العامة، وللعوامل الاقتصادية تأثير مباشر على الأهداف الاستراتيجية، وبذلك يحدث تداخل كبير بين الإمداد والتموين والاقتصاد الوطني والاستراتيجية، إذاً الاستراتيجية تتناول تحديد الأهداف والإجراءات والطرق التي تُمَكِّن من تحقيقها، ويقوم الإمداد والتمويــن والتجهيز بإنشاء القوات المسلحة وتجهيزها وتوفير الاحتياجات المادية من النقـل والصيانة والتأمين الطبي المستمر لها، ولا يتأتى ذلك إلا باقتصاد قوي.
وظائف الإمداد والتموين في الجيوش
١- الإعاشة: ويتم صرفها حسب حجم الوحدة البشري.
٢- الملابس: التجهيزات الفردية، العدد، المعدات الشخصية…إلخ. ويتم صرفه حسب الحجم البشري أيضاً.
٣- الوقود: الوقود بأنواعه- الشحوم- الزيوت- الديزل- ويتم صرفه حسب معدلات الاستهلاك والمسافة ونوع المهمة والبيئة.
٤- المواد الإنشائية: أخشاب – حديد – سقالات – ويتم صرفه حسب أوامر خاصة.
٥- الذخيرة: قنابل، ألغام، صواريخ، طلقات عادية – ويتم صرفه حسب نوع المهمة ونوع الأسلحة ومعدلات استهلاك محددة.
٦- الاحتياجات الشخصية :صابون، أدوات حلاقة، مناشف، معاجين أسنان – يتم صرفه حسب الحجم البشري للوحدة.
٧- المواد الرئيسية :دبابات، مدافع، عربات، مولدات يتم صرفه حسب جداول الأنظمة والمعدات للوحدات أو حسب أوامر خاصة.
٨- المواد الطبية : يتم صرفها حسب نوع المهمة والبيئة وحجم القوات وتقديرات طبية أخرى.
٩- قطع الغيار: عدا قطع غيار المواد الطبية يتم صرفه حسب حمولات مُقررة من قطع الغيار وقوائم تخزين يتم إعدادها من قبل كل وحدة أو حسب المهمة والحالة.
١٠- مستلزمات مساندة البرامج غير العسكرية: معدات زراعية، حبوب زراعية، أسمدة، آلات حفر.
أنواع التخطيط الإداري
على قادة الإمداد والتموين الإلمام بأشكال التخطيط الإداري والعوامل المؤثرة عليه ومدى ملاءمته للتطور والتغيرعند الضرورة، حينها سيتمكنون من العمل بكل كفاءة وفي أي مستوى من مستويات القيادة (استراتيجية، عملياتية، إدارية)، ولما تتميز به إجراءات التخطيط من أساليب متعددة، فقد وضعت تقسيمات توضح العلاقة التي تربط أنواع التخطيط والتداخلات التي تحدث بينهـا، ومن أهمها (تخطيط المطالب والإمكانيات)، ويعتبر هذا التخطيط الخطوة الأولى في أعمال الإمداد والتموين الأساسية المتعلقة بتوفير الوسائل المادية اللازمة لتنفيذ الخطة الاستراتيجية، بعــد ذلك يأتي (تخطيط المعونة الإدارية)، وهو يمثل من الناحية العلمية الشؤون الإدارية بكل معانيهـا، ويشمل تفاصيل الإمداد والنقل والتخزين والإصلاح والتأمين الطبي، ويحدد من خلاله حجم التشكيلات العسكرية وعدد المعدات والآليات والطائرات الحربية بكل أنواعها والقطع البحرية ووزن الوسائط المادية والطاقة التخزينية وحجم وسائل النقل.
معوقات الإمداد الناجح
إن تطور وتعدد أنواع وأشكال المعدات العسكرية يتطلب جهازاً إدارياً مدرباً ومؤهلاً وقادراً على الإمداد والتموين لجيش حديث في حاجة دائمة إلى كميات ضخمة من جميع أنواع الوسائط المادية وبشكل مستمر، ويترتب على ذلك زيادة كبيرة في حجم المخصصات المالية لتغطية هذه المتطلبات، وهذا قد يوقع الإمداد والتموين في بعض المشاكل، ومن أهم أسباب ذلك ما يلي:
فشل التخطيط: إن فشل القادة الإداريين في وضع تخطيط ناجح أو القصور في أي جانب من جوانب التخطيط من أهم أسباب التضخم الإداري، وفشل التخطيط عادة يأتي من حالتين: إما من تخطيط غير واف أو تخطيط مبالغ فيه، وفي الأغلب يحدث التخطيط المبالغ فيه على إثر التخطيط غير الوافي، وذلك عند حدوث قصور في التخطيط لأي عملية عسكرية يترتب عليه مشاكل في الشؤون الإدارية يكون لها بالغ التأثير في سير العمليات العسكرية، ولحل هذه المشاكل يجب وضع تخطيط يتسم بالمبالغة والتبذير، وبذلك فإن التخطيط غير الوافي يؤدي إلي تخطيط مبالغ فيه.
الافتقار إلى الكفاءة: توجد ثقافة سائدة عند بعض القادة العسكريين تميل إلى تكليف أفراد من ذوي الخبرة المحدودة للعمل في الوحدات الإدارية وعدم وضع برامج تدريبية فعالة ومتقدمة ترفع من كفاءة العسكريين العاملين في الجهاز الإداري، مما يجعل هذه الوحدات غير قادرة على تنفيذ مهامها بالشكل المطلوب، وهذا ما يؤدي إلى تدني مستوى التخطيط الإداري، ويجبر المسؤولين عن الإمداد والتموين على طلب أعداد إضافية من الأفراد لتغطية العجز الناتج عن تدني مستوى الأداء، أضف إلى ذلك أن فشل القادة الإداريين في وضع تخطيط ناجح أو القصور في أي جانب من جوانب التخطيط من أهم أسباب التضخم الإداري،
الافتقار إلى الضبط والربط: الضبط والربط الإداري لا يعتبر موضوعاً مستقلاً عن الضبط والربط الذي من المفروض أن يتصف به جميع العسكريين على جميع المستويات، والمقصود هنا هو الضبط والربط على الأوجه الإدارية من قبل القادة الإداريين ومرؤوسيهم في السلم والحرب، والافتقار إلى هذه السمات الأساسية في الجهاز الإداري يؤدي إلى انهيار كل مقومات التخطيط والتنظيم والسيطرة، وتفشي الفساد بكل أنواعه من إهمال واختلاس ورشوة ومحسوبية، والشواهد من التاريخ العسكري على ذلك كثيرة.
حرب المستقبل وتدفق الإمدادات
يعتبر الجندي هو الأداة الحاسمة للمعركة، لأنه الأساس في إدارة الأسلحة والمعدات مهما طرأ عليها من تقدم وتطور، وبالتالي تم التركيز على جعل الجندي يعتمد على نفسه مدة طويلة في المعركة دون حاجة الى إمداد أو معدات، حيث حدث تطور هائل مما جعله وحدة متكاملة وذلك بتزويده بعتاد من ملبس وسلاح وأجهزة اتصالات ورؤية ووسائل إعاشه تكفيه مدة طويلة. هذا وإن التقدم التكنولوجي قد جعل هذا العتاد خفيف الوزن سهل الحمل، وعلى سبيل المثال: الخوذة الذكية المزودة بحاسب آلي يستعمل لدمج المعلومات الصادرة عن المستشعرات وعتاد الملاحة، وكذلك يمكن إرسال الأوامر خطياً لإسقاط صعوبات السمع الناجمة عن ضجيج المعركة، وكذلك يحمل الجندي جهاز تعارف صغيراً يحدد به العدو من الصديق ويعمل على التعرف على النيران الصديقة… هذا من جانب إعداد الجندي، أما من جانب تدفق الإمدادات فهي مرتبطة أساساً بشكل مسرح العمليات وطول خطوط الإمداد وظروف الطقس وطبيعة الأرض وأنظمة التخزين والصيانة والنقل.
وسوف نستعرض هذه الأنظمة لبيان تأثيرها على تدفق الإمدادات في ظروف الحرب الحديثة.
نظام النقل: كشفت حرب الخليج عدداً من الدروس المهمة التي يجب وضعها في الاعتبار عند التخطيط للحروب الحديثة، حيث أظهرت عجز بعض الدول عن نقل المعدات والقوات العسكرية إلى مناطق الصراع نظراً لإمكانياتها المحدودة، بينما تمكنت الولايات المتحدة الامريكية من نقل قواتها خلال أيام، نظراً لقدرتها على نشر قوات جوية كبيرة الحجم في أي منطقة من العالم خلال أيام، ونشر قوة بحرية خلال أسبوع أو أسبوعين، ونشر قوات طلائع المشاة البحرية بكاملها بما في ذلك وحداتها البحرية في مدة تتراوح من أسبوعين إلى أربعة أسابيع. لذلك يجب إعادة النظر في أنسب أسلوب لتحريك عمليات الإمداد دون تعرضها للتدمير إلى مسافات بعيدة باستخدام كافة وسائل النقل كالآتي:
أ. النقل البري:
يتمثل النقل البري في توفير خطوط إمداد وتموين قصيرة ومستورة ومحمية على مستوى الدولة ومسرح العمليات، تصلح لمرور كافة أنواع العربات والشاحنات، مع وضع طرق بديلة تستخدم في حالات الطوارئ، وإدخال التعديلات المناسبة على وسائل النقل البرية، خاصة بالنسبة للمعدات ذات الأحجام الكبير، مع توفير أنظمة تفريغ وشحن ومتطورة. ولقد ظهرت شاحنات ذات مواصفات قياسية جديدة، وكان أبرزها: الشاحنة الفرنسية ذات الصينية القابلة للانزلاق. وتتجه الدول الآن لتوفير شاحنات مزودة برافعات ذاتية للتغلب على مشكلة عدم توفر وسائط التحميل والتفريغ في المواقع الأمامية، كما يتم نقل الحاويات مباشرة من السفن والطائرات الشاحنات لمناطق التكديس مما يوفر الوقت في عمليات الشحن والتفريغ والنقل، وتتجه الدول الآن نحو تحقيق صناديق أو حاويات محمولة ذاتياً. أي تكوّن كلاً واحداً مع المركبة الحاملة، وهي ذات قياسات مختلفة لتحقيق الوظائف المطلوبة في عمليات الشحن، كما ظهرت الروافع الشوكية ذاتية الحركة لنقل وتفريغ الذخيرة في المواقع الأمامية وفي مواقع المدفعية. كما اعتمدت وسائل الإمداد على تحديد اتجاهاتها في مسارح العمليات باستخدام الأقمار الصناعية لسهولة الوصول للموقع دون الاصطدام بمواقع العدو.
ب. النقل البحري:
إن النقل البحري في الحرب الحديثة يتطلب إعداد بنية أساسية من الموانئ على امتداد شواطئ الدولة وأن يتوفر لها الحماية الكاملة من البر والجو مع توفير مناطق بديلة، وكذلك توفير العدد المناسب من السفن والطرادات ووسائل حمايتها على امتداد خطوط الإمداد البحري مع توفير الوسائل السريعة للشحن والتفريغ، ويجب أن تكون هناك صلة وثيقة بين الجانبين العسكري والمدني في عمليات النقل البحري، ومن المعلوم أن سفن الشحن البحري في غاية الأهمية بالنسبة لنقل المعدات ذات الأحجام الضخمة والذخائر والمؤن وقطع والغيار إلى القوات المحاربة بعيداً عن الوطن الأم.
ج. النقل الجوي:
يعتبر النقل الجوي من أهم وسائل النقل في الحرب الحديثة، لما تمتاز به من السرعة الفائقة في توصيل كل الإمدادات في الوقت والمكان المناسبين، ولكن هذه الوسيلة يقابلها صعوبات من حيث مدارج الهبوط التي تعمل الدول الكبرى الآن على تطوير طائراتها للهبوط على مدارج قصيرة مع تحميلها بكميات ضخمة من العتاد، والمثال على ذلك: الطائرة الأمريكية (C5). هذا وإن النقل الجوي له أهمية خاصة لإمداد القوات المنفصلة والمحاصرة وفي حالة عدم توفر خطوط إمداد أرضية كافية، وذلك بالإسقاط بالمظلات والإسقاط الحر، كما أن الحوامات لها دور كبير في إنزال المعدات الثقيلة ونقل الجرحى، وظهر أهمية ذلك من الدروس المستفادة من حرب فيتنام وفوكلاند.
نظام التخزين: إن عمليات الإمداد تتطلب أنظمة تخزين حديثة ومتطورة لتناسب التعقيد المستمر في مجال الأسلحة والمعدات والاعتماد الأكبر في تشغيلها على العقول الإلكترونية، مما يتطلب مواصفات خاصة لمناطق التخزين مع توفير أفراد ذوي خبرة عالية. وتتجه الدول اليوم إلى إنشاء مناطق محصنة على امتداد الدولة تساعد على سرعة نقل الإمدادات إلى مسارح العمليات المتوقعة.
ولكن من الواجب عمل دراسة للربط بين التزود بعدد ضخم من الذخائر ونوع السلاح الذي سيطلقها ومدى تعرضه للأعطال وربطه بقطع الغيار المطلوبة لإصلاحه. ويجب على عناصر الإمداد والتموين إعداد تقديرات حجم المخزون من العتاد الحربي في إطار موازنات محدودة، مما يتطلب إجراء حسابات أكثر دقة وأكثر مرونة، بحيث توازن بين المتطلبات الحقيقية للقوات من المعدات ومنشآت الصيانة وقطع الغيار وبين الحد من الإنفاق العسكري مع المحافظة على القدرات القتالية للقوات.
نظام الصيانة: إن تنوع الأسلحة ووسائل النقل واختلاف مقاييسها وتطورها المستمر، كل ذلك سوف يؤدي إلى مشاكل جديدة لنظام الصيانة، نظراً لأن الأسلحة والمعدات سوف تعتمد بشكل كبير على الالكترونيات البصرية وأجهزة الحاسوب، مما يتطلب تخصصاً دقيقاً في عمليات الصيانة من أفراد لهم خبرة فنية عالية للتعامل مع هذا التطور، وبالتالي يلزم إعادة النظر في نظم الصيانة للتكيف مع متطلبات الأنظمة المعقدة. وربما يكون من أبرز الحلول المقدمة في هذا المجال ما يعرف بنظام الدعم اللوجستي المتكامل لأنظمة الأسلحة المعقدة الذي يبدأ من مرحلة التصميم، وهو نظام إداري يهدف الى ضمان مساندة الناتج مدى العمر، ويشمل هذا النظام تحليل الدعم اللوجستي، وهو عملية تحليل وتعريف الاحتياجات لدعم الناتج، كما أن هذه العملية لا تتم مرة واحدة فقط بل يتم تقييمها على فترات محدودة لضمان إسناد الناتج في كل مراحل التشغيل، وتطوير نظام الصيانة استناداً إلى المعلومات المستمدة من تجربة التشغيل العملية. ولا شك أن ذلك سوف يؤدي إلى تقليل مجهود الصيانة والاقتصاد في التكاليف، وتمكين القوات من الحصول على أفضل أداء من معداتهم وتلبية متطلبات الصيانة في مخلف البيئات والتزام القوات المسلحة بموازنات محددة.
الخلاصة
تعتبر حرب الخليج فريدة من نوعها في عمليات الإمداد والتموين التي أنجزت خلالها، وقد لا تكون مقياساً لما يمكن أن تبرز الحاجة إليه في الصراعات المستقبلية، كما لا يصح أخذ معدلات الاستهلاك ونسب الخسائر مؤشراً على ذلك الغرض.
هذا وإن الحرب الحديثة أو المستقبلية تتطلب إعادة النظر في البنية الأساسية الحديثة للدولة، لأنها دعائم تحقيق النصر إذا رُبطت بمتطلبات الحملة العسكرية، مثل تطوير المطارات ورفع كفاءتها، ومد أنابيب الوقود وإعداد مسرح العمليات بكل ما يحتاجه من أعمال هندسية ونقل وصيانة وجوانب اقتصادية أخرى، ونؤكد أن عمليات الإمداد في الحرب الحديثة سوف تعتمد بشكل كامل على إمكانيات الدولة، وإذا كان قد أطلق على القرن العشرين «قرن المعلومات والقرن النووي» وفيه تغيرت كثير من المفاهيم العسكرية والاستراتيجيات، وفي نصفه الأخير سُخرت التقنية لخدمة الجيوش وأهدافها. وقد وفرت الكثير من الجهد والوقت.
وإذا كان هذا حال القرن العشرين، فماذا عساه أن يكون حال القرن الحادي والعشرين؟ فهو قرن «الأقمارالاصطناعية». وفي هذا القرن لا شك أن استراتيجيات ومفاهيم كثيره ستتغير. وقد يطرأ تغيير على مبادئ الحرب نفسها ومبادئ التموين، لأن الوسائل التي ستُدار بها معارك هذا القرن ستتغير لا محالة. فالأقمار الاصطناعية دخلت كلاعب أساسي في حسم نتائج المعارك.
وأصبحت خطط الجيوش المستقبلية مبنية على كيفية الاستفادة التامة من هذه الوسيلة المتقدمة. وقد بدأت ملامح هذه التغييرات تظهر في بعض الجيوش المتقدمة، فعلى مستوى الإسناد قامت بعض الجيوش برفع كفاءة الإسناد التنظيمي في الصيانة وتأهيله ليحل محل الإسناد المباشر، حتى تتم صيانة الآليات والحفاظ على زخم المعركة. وقد تم تأهيل العربة نفسها لتطلب الإسناد آلياً بواسطة الأقمار الصناعية، وبدون تدخل من قائدها، فهي تراقب مستويات الاستهلاك من الوقود والذخيرة الخاصة بها، وترسل تقارير مباشرة للمستويات الأعلى، حيث يصل لها الإسناد في الوقت المناسب.
وعلى مستوى النقل، فإن الدول التي تقوم بنشر قواتها خارج بلدانها، يهمها في المقام الأول الوصول إلى مسرح العمليات في الوقت المناسب، وحيث إن ذلك لا يتم إلا عن طريق النقل الجوي، فقد قام الجيش الأمريكي بتطبيق تجربة نواتها اللواء المسمى STYKER BRIGADE بحيث تم تصغير حجم العربات القتالية إلى المستوى الذي يستطيعون بواسطته نقل أكبر عدد ممكن من العربات إلى مسرح العمليات. وقد تم تجهيز هذه العربات تقنياً بحيث تستطيع القيام بمهام أفضل وبحجم أصغر. وبناءً على هذه التعديلات الجوهرية، فإنه بإمكان النقل الجوي نقل لواء مُجهز إلى مسرح العمليات خلال 96 ساعة، والفرقة في 120 ساعة، والفيلق في 30 يوماً.
ومن سمات الإمداد والتموين في القرن الجديد، الاتصال والمشاركة الفعالة بين القطاع العسكري، والقطاع الخاص، فقد حرصت الكثير من المؤسسات العسكرية على خلق اتصال مباشر وقوي بين قطاعاتها ومؤسسات القطاع الخاص، وذلك في مجال التعليم والتدريب، والمستفيد من هذا الاتصال هي بلا شك المؤسسات العسكرية، لأن شركات ومؤسسات القطاع الخاص وبحكم أهدافها واتجاهاتها الربحية تحرص كل الحرص على اقتناء آخر ما توصلت إليه التقنية الحديثة، لتحسين إنتاجها وأدائها، على عكس المؤسسات العسكرية التي تصل لها هذه التقنيات متأخرة.
ولا يفوتنا قبل الختام أن نذكر أن علم الإمداد والتموين أصبح علماً أكاديمياً، وتقوم الكثير من الجامعات الغربية حالياً بمنح درجات علمية في علوم الإمداد والتموين كالماجستير والدكتوراه، فعلم الإمداد والتموين علمٌ له ارتباط مباشر بعلوم أكاديمية أخرى، كعلم الاقتصاد، والإحصاء، والإدارة. والشواهد تُثبت أن الجيوش التي تفوقت في معاركها وأثبتت جدارتها هي التي أولت إدارة الإمداد والتموين في أجهزتها التموينية لقادة ذوي كفاءات علمية وتخطيطية عالية، بينما نشاهد العكس في الجيوش الأكثر تقدماً!.
» الدكتور معين أحمد محمود
باحث عسكري واستراتيجي