تستعرض تلك الدراسة أبرز التطورات التقنیة المتقدمة وما یقابلها من تحدیات في مجال الاستشراف وتكوُّن البصيرة الاستراتيجية (بمعنى النهج المنظم، التشاركي المتعدد التخصصات لاستكشاف القوى الدافعة للتغيير والبدائل المستقبلية). كما تعاین بعض الجدالات النظریة حول تأثیر هذه التحولات في بنیة المؤسسات الاستشرافية العسكرية وطبیعة المهمة الاستشرافية وموقع العنصر البشري فیها، فضلاً عن سبل تطویر هذا المجال للرفع من كفاءة العمل الاستشرافي في عصر التقنيات الرقمية المتقدمة.
مما لا شك فيه أن العصر الذي نعيش فيه یتسم بوجود أنساق متعددة ومتشابكة من التهدیدات وعدم اليقين، وأن هذا العالم مختبر تغییرات دائمة وسریعة ومعقدة وبمناسیب غیر مسبوقة. ومن أهم تلك التغيرات الانتشار العالمي للحوسبة المتنقلة والانفجار المعلوماتي والتطور في تقنیات وتضافر المعلومات ووسائل الاتصالات. ولقد حفزت تلك التحولات العالمية توجهات جديدة بوزارات الدفاع والجيوش في بعض دول العالم أدت لحتمية إجراء تغييرات عديدة مست كافة مستويات العمل فيها، ومن بينها مجال الاستشراف. حيث أبرزت تلك التحولات واقعاً جديداً للعمل دفع تلك المؤسسات إلى إدخال مفاهيم وتقنيات حديثة تتسم بملامح ورؤى تتوافق مع طبيعة ذلك العالم المعاصر الذي نعيش فيه بتعقيداته وتحولاته المتسارعة.
ومن بين أهم تأثيرات هذه التحولات على وزارات الدفاع والجيوش، أن المعلومات والبيانات التي يعتمد عليه الاستشراف التي تقوم به هذه المؤسسات أصبحت متضخمة ومتسارعة أكثر من أي وقت مضى، ويكفي أن نعلم أن كمیة المعلومات الرقمیة التي أنتجتها البشریة ما بين عامي 2018 و2020 كانت أكبر بعشرة أضعاف من كمیة المعلومات التي أنتجتها البشریة قبل تلك الفترة. ومن هنا بدأت تظهر الحاجة الماسة إلى ضرورة المواكبة الآنية لوزارات الدفاع والجيوش لما يدور في محيطها وما يجد فيه من أحداث وتقنيات، لتتمكن من تحقيق أهدافها الاستراتيجية والأمنية والدفاعية وتحقيق أسبقية على منافسيها في مجال نشاطها. فتلك المؤسسات باتت مطالبة أكثر من أي وقت مضى بفهم العلاقة القائمة بينها وبين محيطها، ومعرفة مكوناته الأساسية وأبعاده المستقبلية قصد الاستفادة من الفرص المتاحة وتجنب التهديدات المحتملة. وهنا تأتي أهمية البصيرة الاستراتيجية والتي من أهم أدواراها حث المؤسسات الدفاعية والجيوش على الإنصات لبيئتها من أحداث وتكنولوجيا.. إلخ، وتقريب تلك المؤسسات من محيطها وتعرفها عليه ومساعدتها على تحليله واستشراف والمساهمة في مستقبله.
وفي هذا السياق لجأ علم الاستشراف للتقنيات الرقمية المتقدمة وللذكاء الصناعي وأدخل مصطلحات جديدة في مجاله مثل «اليقظة التكنولوجية» و«اليقظة الاستراتيجية» وهي مجموعة من الأساليب المنسقة التي تعمل على تنظيم وتحليل ونشر ومشاركة واسترجاع واستخدام المعلومات والمعارف المفيدة حفاظاً على بقاء الدول ووزارات الدفاع والجيوش واستدامة أعمالها ونموها في مواجهة ظروف التضخم والتسارع المعلوماتي وعدم اليقين الذي أضحي يغلف فضاءات عملها في وقتنا الحاضر.
وفي ظل حاجة المؤسسات الاستشرافية في وزارات الدفاع والجيوش إلى معلومات تكاملیة لإسناد سيناريوهات المستقبل، وفرت التقنيات الرقمية المتقدمة حلاً لإدارة ومعالجة الكمّ الهائل من المعلومات التي یتم جمعها وتعذر تحلیلها ومعالجتها واستشراف المستقبل من خلالها، أو التوصل لاستدراكات بشأنها، بالاعتماد على القوة البشریة وحدها.
هذا السياق ألزم بوجود تغییرات عمیقة وأساسیة ستظهر رويداً رويداً في جمیع مناحي الاستشراف بدءاً من أدوات خلق سيناريوهات جدیدة لاستشراف المستقبل، مروراً بالتغییرات التي ینبغي إجراؤها على هیكل المؤسسات الاستشرافية، وبلورة منهجیات جديدة تتواءم مع عصر التقنيات الرقمية المتقدمة، وهكذا إعادة التفكیر في دور الاستشراف في المؤسسات الدفاعية والجيوش. إلى جانب ذلك، مناقشة ومسألة الفضاء البیني القائم بین مؤسسات الاستشراف وبین أصحاب القرار في وزارات الدفاع والجيوش، إذ من المهم هنا التركیز على المسألة التالیة: كیف یمكن للمؤسسات الاستشرافية أن تزوّد أصحاب القرار هؤلاء بالسيناريوهات اللازمة، وهل بإمكان تلك المؤسسات والرؤى القائمة عليها أن توفر الاستشراف من خلال هذه الكمیات المهولة من المعلومات وطرق تجميعها وتخزینها ومعالجتها وتحویلها إلى مادة یمكن العمل علیها في مجال الاستشراف؟
الفرص والتطبيقات
من أهم فرص وتطبيقات عصر التقنيات الرقمية المتقدمة على الاستشراف الدفاعي هو تطوير التكنولوجيا التي تسمح للدماغ البشري بالتواصل المباشر مع الآلات عن طريق تطوير واجهات عصبية تزرع في الجسم البشري وتكون قادرة على نقل البيانات بين الدماغ البشري والعالم الرقمي، وتعرف تلك التكنولوجيا باسم BCI) Brain-computer interface)، أي ربط الدماغ والحاسوب. ومن أهم استخداماتها ميكنة عملية الاستشراف. ومن المعروف أن الجيش الأمريكي لديه مشروعات لاستخدام الذكاء الصناعي لتوسيع مجال التعاون بين الإنسان والآلة في مجال الاستشراف العسكري، بعد أن ثبت في نهاية المطاف أن التعاون بين البشر والآلات معرفياً للتفكير معاً وبسلاسة ممكن.
وتنطوي عملية الاستشراف بين الإنسان والآلة على نقل البيانات إلى الدماغ البشري من مدخل جهاز استشعار ومن الدماغ إلى الآلات لمساعدة المستشرفين على تجميع المعلومات والبيانات والتقييمات ونقلها. فعلى سبيل المثال يستطيع الحاسوب جمع المعلومات المستهدفة وعرضها في شكل يمكن استيعابه بسهولة للاستشراف من خلالها للمستقبل بسهولة وسرعة ودقة. في المقابل يمكن بالاعتماد على الذكاء الصناعي المقرون بقشرة الدماغ البشري نقل المعلومات والتصورات من خلاله إلى حاسوب، مما يتيح للعاملين في مجال الاستشراف استيعاب مزيد من المعلومات بشكل أسرع وتقديم رزنامة من السيناريوهات تساعدهم على استشراف المستقبل بسرعة ودقة متناهية. ومن الممكن أيضاً لهذا الربط بين الإنسان والآلة زيادة درجة التركيز واليقظة لدى العاملين في مجال الاستشراف، وتنظيم حالتهم العاطفية (التحكم في التوتر على سبيل المثال) بل وتعديلها لمساعدتهم في التركيز وتحفيزهم.
ومن أمثلة تطبيقات التقنيات الرقمية المعاصرة في مجال الاستشراف الدفاعي وتشكل البصيرة الاستراتيجية للجيوش المستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية:
1- برنامج (The Hybrid ForecastingCompetition- HFC) الذي أطلقته شركة (IARPA) والذي يهدف بالربط الإنسان- الآلة لتحسین قدرات استقراء واستشراف الأحداث الجیوسیاسیّة.
2- مشروع (Project Maven) الذي يهدف للرابط بین الإنسان والآلة بصرياً لنقل ما تراه العين البشرية وهكذا التصورات البصرية التخيلية الموجودة في الدماغ البشري للآلة والعكس.
3- برنامج (COM PASS) Collection and Monitoring via Planning for Active Situational Scenarios الذي يستطيع رسم سيناريوهات استشرافية، واضعاً في عين الاعتبار كل الاحتمالات، ومقللاً إلى الدرجة الدنيا خطر المفاجآت، ومستهدفاً فقط المعلومات المتصلة والمؤثرة من جبال المعلومات المتاحة حول الموضوع محل الاستشراف.
ومن جانبها وصلت الصين لمراحل متقدمة في مجال الاستشراف المعزز بالذكاء الاصطناعي، خصوصاً في مجال التنبؤ المبكر بالمخاطر وبناء نماذج مختلفة وبدائل للقرارات والسياسات، مما سيكون له أبلغ الأثر على الحكومة الداخلية للصين وعلى سياستها الدولية.
وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، في شهر أغسطس الماضي، بشكل رسمي أنها زودت نفسها بنظام استشراف المستقبل المعزز بالذكاء الاصطناعي. وتم تصميم هذا البرنامج، الذي يسمى Global Information Domination «الهيمنة على المعلومات العالمية»، لاستشراف الأحدث المهمة للجيش الأمريكي، من خلال تمكينه من «السيطرة على المعلومات في العالم» و«التفوق في مضمار صنع القرار». وذلك من خلال القدرة الشاملة على التنبؤ بتحركات القوات أو المركبات العسكرية مثل الغواصات أو الحشود، وكذلك توقع الهجمات الجوية أو القصف أو حتى إطلاق الصواريخ، وذلك من خلال مجموعة بيانات تتكون من تسجيلات الرادار وصور الأقمار الصناعية وغيرها من البيانات المتنوعة من أجهزة الاستخبارات وأجهزة الاستشعار المختلفة.
ويوضح الجنرال الأمريكي جلين دي فانهيرك أن ما يقوم به البرنامج هو إتاحة هذه البيانات ومشاركتها في سحابة، حيث سيقوم الذكاء الاصطناعي بمراجعتها وتحليلها بسرعة كبيرة وإيصال نتائجها إلى صانعي القرار. مما سيتيح لصانعي القرار قبل أيام قليلة من وقوع الحدث الفرصة للتفكير والتخطيط والرد .
تحديات وتوصيات
في المقابل، یستحضر عصر التقنيات الرقمية المتقدمة تحديات تعترض المشاريع الاستشرافية لوزارات الدفاع والجيوش: أولها افتقاد المؤسسات الاستشرافية التابعة لها طلائعیتها وفرادة موقعها من ناحیة جمع المعلومات وتحلیلها ونشرها واستشراف المستقبل من خلالها. فرأس الحربة التقنیة موجود لیس خارج حدود المنظومات العسكرية فحسب، بل وأیضاً خارج سيطرة الدول نفسها.
في هذا السياق يجب على المؤسسات الاستشرافية التابعة لوزرات الدفاع والجيوش إعادة التفكیر في تفوقها النسبي مقارنة بالجهات المدنیة القادرة على جمع المعلومات وتحلیلها واستشراف المستقبل من خلالها، لا سیّما في ظل كمیة المعلومات الكبیرة المتوفرة على الأرصفة الیوم، تلك المعلومات المتوفرة اليوم لكل من یسعى للحصول علیها، فضلاً عن وفرة أدوات تحليلها المعروضة للبیع هي أيضاً على الأرصفة الرقمية، وبعضها مجاني، والتي تتیح للأفراد والمجموعات، ناهیك عن المؤسسات العسكرية والدفاعية في الدول المنافسة، جمع كمّیات هائلة من المعلومات ومعالجتها واستشراف المستقبل من خلاله بمنتهي السهولة والدقة.
تحدٍّ آخر، وهو تزايد فرص تفوق شركات مدنية عاملة في المجال التكنولوجي على الجيوش ووزرات الدفاع في مجال الاستشراف، مما سيؤدي في نهاية الأمر إلى نوع من«لا مركزية القوة» حيث الوصول إلى التكنولوجيا الاستشرافية أصبح أكثر سلاسة للفاعلين من غير الدول. فبتطور وسائل إنتاج برامجها وبتعدد المطورين، سيصبح الوصول إلى تلك التكنولوجيا متاحاً حتى لكثير من العصابات المنظمة والمجموعات المسلحة.
وككل شيء، فقد نرى مجال الاستشراف كساحات قتال افتراضية بين أشكال الذكاء الاصطناعي، التي ستسعى بلا شك إلى تعطيل بعضها بعضاً وإصابة أنظمة التحليل والتحكم التلقائي بالتضليل والتعليمات البرمجية الضارة، مما سيحتاج العمل إلى زيادة الأمان لحماية أنظمة التنبؤ والاستشراف.
وفي هذا الإطار، على وزارات الدفاع والجيوش والمؤسسات التابعة تسخير مواردها في إعداد وتكوين العاملين في مجال الاستشراف وتطوير إطاراتها في المجال المعلوماتي والتقني، ويجب أن تكون هذه المؤسسات في حالة يقظة دائمة لمتابعة ما يحدث حولها من تغييرات في مجال الاستشراف واكتساب القدرة على مواكبتها، كما يجب على تلك المؤسسات الاهتمام أكثر بتطوير علاقتها بمحيطها الخارجي، ومتابعة التغييرات الحاصلة فيه واستخدام أدوات علمية في تحليله، والعمل على إنشاء نظام اتصالي ومعلوماتي واضح حتى تكون للمعلومة المحصلة قيمة، ولسيناريوهات المستقبل المبنية عليه أصالة وابتكار، واستحداث هيكل مستقل يقوم بأداء وظيفة اليقظة الاستراتيجية في المؤسسات الاستشرافية والانفتاح أكثر على المحيط الخارجي وذلك بتنظيم لقاءات وندوات وأبواب مفتوحة، وكسر الأسوار الفاصلة بین القطاعین العام والخاص. وفي هذا الصدد، يمثل شكل التعاون «الفرید» الذي یجمع بین «القطاع الخاص» كبریات الشركات المعلوماتیّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ (مثل «غوغل» و»فیسبوك») والأجهزة والهیئات الاستشرافية الغربیّة في مجال تقنیّة المعلومات وتطویر الذكاء الصناعيّ خير مثال على حتمية وأهمية هذا التعاون، بما يتماشي مع مفهوم الثورة في الشؤون العسكرية والتي تهدف لمواكبة التغيرات المتسارعة تقنياً مع وضع استراتيجية عسكرية واضحة المعالم توجه عمل القوات المسلحة وفقاً للمتغيرات التي تحدث في البيئة الاستراتيجية.
وعلى وزارات الدفاع والجيوش، إعادة النظر في هیاكل ونظريات المؤسسات الاستشرافية التابعة لهما وإعادة تعریف الوظیفة الاستشرافية وفقاً لروح عصر المعلومات والتقنيات الرقمية المتقدمة. ومكن الإشارة إلى توجهات أساسیة عملت المؤسسات الاستشرافية العسكرية الغربیّة على تعزیزها: التعاون والشراكة مع القطاع الخاص والأكادیمي، السعي إلى تعزیز الابتكار التكنولوجيّ لأغراض الاستشراف، تبني وخلق نظریات إداریة مرنة وناجعة، السعي لرفع كفاءة القوى العاملة في مجال الاستشراف، الانفتاح ومراعاة التعقید الذي یمیز العصر الحالي مما يستوجب إقصاء الرؤیة ثنائیّة التفرع والرؤیة التي تفترض هیمنة المؤسسة العسكرية والدفاعية على المعرفة، وهي رؤى لم يعد لها مكان في ظل عصر التواصل والتشبیك المتصاعدين.«فعندما تتسارع وتيرة الابتكار فمن الحماقة ترك الجمود يحدد الأجندة» كما يقول أشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق.
خاتمة
لأقصى استفادة من الفرص، ولاستراتيجية ناجعة في مجابهة التحديات التي يقدمها عصر التقنيات الرقمية المتقدمة في مجال الاستشراف، وتكوُّن البصيرة الاستراتيجية الدفاعية، يجب أن يعد الابتكار والخيال من الأولويات المطلقة والتي تستطيع الجيوش من خلالها فقط تحقيق استقلاليتها الاستراتيجية، فالجيش الذي يبتكر هو جيش لا ينزل سلاحه أبداً، وهو جيش يبني بلا كلل استقلاليته الاستراتيجية. لذا فالجيوش تلجأ حتى لكُتّاب الخيال العلمي لتخيل سيناريوهات التهديدات والصراع في المستقبل.
كما يجب الأخذ في الاعتبار أن من لديه البيانات هو الذي يقود الاستشراف والتقنيات الرقمية المتقدمة كالذكاء الاصطناعي وليس العكس. وأخيراً، يجب اعتبار مجال الاستشراف كمجال صراعي يريد كل فاعل فيه ترجيح كفة السيناريو الذي يحقق مصالحه ومجابهة السيناريوهات التي تتعارض معها. «فإذا كنت لا تعرف إلى أين أنت ذاهب، فقد ينتهي بك الأمر في مكان آخر لا تعرفه»، كما يقول يوغي بيرا.
» الأستاذ الدكتور. وائل صالح
باحث رئيسي ورئيس وحدة متابعة الاتجاهات المعرفية في العالم بتريندز للبحوث