في حين أن طبيعة الحرب لا تتغير، فالاستراتيجيات العسكرية لا تتوقف عن التطور على وجه الخصوص في استجابتها للقدرات الهائلة التي توفرها التكنولوجيات الجديدة، ومن أهمها اليوم التكنولوجيا الكمومية التي يمكن لها تحقيق اختراقات كبيرة في مختلف مجالات الحرب، ما أدى لسباق مستدام للاستحواذ والسيطرة عليها من قبل العديد من الدول.
ولا أدل على ذلك من تصريحات الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، والتي أكد من خلالها أن أكبر التغييرات في الحرب في العقود المقبلة يمكن أن تنشأ من التنامي السريع في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، وأن الجمع بين هاتين التقنيتين وحده سيحدث تغييراً هائلاً في طبيعة الحرب، وأنه لكي تضمن الولايات المتحدة استمرار قوة ردعها وسيادتها يجب عليها أن تكون الأكثر تقدماً في هذا المجال.
وبالرغم من أن شهية القوى الكبرى للتقنيات الكمومية آخذة في التزايد، وأن التقدم التكنولوجي الذي ستحققه الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وفي السنوات القليلة القادمة بات أمراً ملموساً وحتمياً، ما زلنا بعيدين عما بات يطلق عليه «الحرب الكمومية».
ويتفق المتخصصون على أن التقنيات الكمومية ستوفر سرعة استراتيجية وتكتيكية ومعرفة متعمقة بساحة المعركة، ما يسمح للجيوش بأن تكون أكثر سرعة وأكثر اطلاعاً على كل شيء في البيئة المعقدة لساحات الحرب، ما يمكن الجيوش من التغلب إلى حد كبير على حالة «عدم اليقين» التي تسود عالم اليوم.
لذا، فلا غرابة في أن القوى العظمى تستثمر بكثافة في تكنولوجيا الكم، وتقود الولايات المتحدة والصين هذا السباق حالياً، كما أن دولاً أوروبية مثل فرنسا باتت تستثمر في التكنولوجيا الكمومية أكثر من أي وقت مضى، فقد وقعت فرنسا على سبيل المثال مؤخراً اتفاقية بين المديرية العامة لتسليح الجيوش وخمس شركات ناشئة لتطوير جهازي كمبيوتر كمي في إطار مشروع أطلق عليه PROQCIMA، خصص له 500 مليون يورو على مدى 10 سنوات.
تهدف هذه الدراسة في سطورها القادمة إلى تعيين أهم استخدامات التكنولوجيا الكمومية في قطاع القوات الجوية.
تحسين الربط العملياتي: مما لا شك فيه تأثر المجالات التقليدية للحروب مثل الأرض والجو والبحر بالتقنيات الكمومية، ولكن أيضاً الفضاء والفضاء الإلكتروني وحتى المجال المعرفي. ومن أكثر المجالات تأثراً بالتقنيات الكمومية مجال التشفير والقيادة والسيطرة وبشكل خاص ما يطلق عليه ISTAR (الاستخبارات والمراقبة وتحديد الأهداف والاستطلاع). لم تعد الجيوش الحديثة قادرة على الاستغناء عن أداء فائق للربط بين عدد من وظائف المعركة، وذلك لمساعدة القوة القتالية في توظيف أجهزة الاستشعار وإدارة المعلومات التي تم جمعها، وهو ما يطلق عليه ISTAR، والذي هو اختصار مجمع للمصطلحات الإنجليزية الأربعة: الاستخبارات Intelligence والمراقبة Surveillance والاستحواذTarget Acquisition والاستطلاع Reconnaissance.
تحسين االوعي الظرفيب والاستشراف واتخاذ القرار: تَعِد التقنيات الكمومية بتحسين «الوعي الظرفي» أو «السياقي» في ساحة المعركة والتشفير في الحرب السيبرانية، حيث ستوفر التكنولوجيا الكمومية تفوقاً عملياتياً واضحاً من خلال نواقل هجوم سريعة جداً وفعالة جداً في مجال التشفير غير المتماثل وحتى في مجال التشفير المتماثل، وذلك بفضل قوة الحوسبة التي لا مثيل لها. باختصار، يستطيع الحاسوب الكمي اختبار 70 مليار احتمال في اليوم واحد.
في ذلك السياق، من المتوقع أن تلعب أجهزة الكمبيوتر الكمومية دوراً رئيسياً في أنظمة القيادة والتحكم (C2) التي يتمحور دورها في تحليل وتقديم الوعي الظرفي والمساعدة في التخطيط والمراقبة، بما في ذلك محاكاة مختلف السيناريوهات المحتملة، من أجل توفير أفضل الظروف لاتخاذ أفضل قرار. كما يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية تحسين وتسريع عمليات محاكاة السيناريو أو معالجة وتحليل البيانات الضخمة من ISR (الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع) لتحسين الوعي الظرفي. وبدون مبالغة، يمكننا أن نتخيل أن مركزاً للتخطيط ومراقبة العمليات يمكن أن يصبح كلي المعرفة في ساحة المعركة، ويحرر نفسه من «ضباب الحرب» أو اللايقين. تقترب التكنولوجيا الكمومية من تحقيق طفرات تحسينية على المستوي العملياتي المتعلق بـ: الموقع، الملاحة والتوقيت لتحقيق ضربات أكثر قوة ودقة (PNT).
تحسين الصناعات العسكرية الجوية: كما ستلعب التقنيات الكمومية أيضاً دوراً رئيسياً في تسريع وجعل دورات تصميم الأجهزة الخاصة بسلاح الجو وتطويرها أسرع من خلال تسريع حل المشكلات المتعلقة بالصناعة. سينعكس هذا بالإيجاب على مجالات متنوعة مثل الديناميكا الهوائية للصواريخ والطائرات المقاتلة وتحسين صنع تحميل الطائرات.
تحسين سلاسل التوريد في قطاع القوات الجوية (اللوجستية الكمومية): أجهزة الكمبيوتر التقليدية لا يمكنها التعامل إلا مع عدد معين من المتغيرات في نفس الوقت بكفاءة. ولذلك تمثل الخدمات اللوجستية على نطاق احتياجات القوات الجوية تحدياً لقدرات أجهزة الكمبيوتر التقليدية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التوقعات المتعلقة بسلاسل التوريد التي تقدمها أجهزة الكمبيوتر التقليدية هي مجرد افتراضات أقرب إلى التخمين الفوضوي في مقابل ما يمكن أن تقدمه أجهزة الكمبيوتر الكمومي.
أبرزت DARPA (وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية)، عام 2019، أن تطبيق التكنولوجيا الكمومية يمكن أن يحسن بشكل كبير تخطيط وتوجيه وإدارة سلسلة التوريد في المواقع الصعبة التي تفتقر إلى البنية التحتية. وفي هذا السياق اللوجستي، ستلعب الحوسبة الكمومية دوراً رئيسياً في تنظيم تسليم المواد في الوقت الفعلي. ولأن التكنولوجيا الكمومية ستزيد من قدرات الذكاء الاصطناعي على معالجة كميات هائلة من البيانات أنياً، ما يسمح، على سبيل المثال، للطائرات بدون طيار بتسليم قطع الغيار أو الذخيرة إلى الوحدات المشاركة في قتال مع العدو بشكل سيتفوق على الحلول الحالية مثل الاستعانة بالروبوتات.
من جانبها، أعلنت القوات الجوية الأمريكية عن أول عقد لبرامج الحوسبة الكمومية في مجال الخدمات اللوجستية العسكرية، حيث وقعت مؤخراً أول اتفاق لها لبرامج الحوسبة الكمومية مع شركة أبحاث الكم (Quantum Research Sciences) التي حصلت على 2.5 مليون دولار أمريكي لبناء ودعم برامج الحوسبة الكمومية القادرة على إدارة الخدمات اللوجستية العالمية للقوات الجوية الأمريكية، وهو ما يمثل حقبة جديدة في الخدمات اللوجستية الجوية العسكرية الأمريكية. وقال الرئيس التنفيذي للشركة إيثان كريمينز إن الشركة استخدمت كمبيوتراً كمياً لتحديد مستويات المخزون المثالي بدقة، بما في ذلك الأجزاء ذات الطلب المتقطع أو غير المتكرر.
غالبية المخزون العالمي، سواء كان ذلك في الصناعة العسكرية أو الخاصة، موجود على الأرفف لأنه ليس من السهل التنبؤ بطلب المستخدم. تعتبر القوات الجوية أن الكثير من مخزونها لا يمكن التنبؤ به، والنتيجة هي وجود عدد كبير جداً أو قليل جداً من الأجزاء في سلسلة التوريد. وتؤكد الدراسات أن برنامج الكمبيوتر الكمي لشركة QRS والتي تعاقدت على استخدامه القوات الجوية الأمريكية، لمدة 3 سنوات، يحقق تحسيناً بنسبة 28% مقارنة بأجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية في مجال التوريد فقط. فالبرنامج لا يقتصر فقط على تحديد عدد العناصر التي يجب أن تكون في المخزون، بل يجيب عن ثلاثة تساؤلات رئيسية: كم عدد القطع المطلوبة، ومتى تكون هناك حاجة إليها، وكيف تصل إلى مكان استخدامها.
ثورة في الاتصالات: يعتمد مبدأ تشغيل أنظمة الاتصال أو الكشف الكمي على التشابك الكمي (للتبسيط، ينتج من تقسيم الفوتونات (مثل الانقسام الخلوي) والتي ستظل مرتبطة ببعضها بعضاً بسبب خصائصها الكمومية، رغم بعد المسافات).
وهكذا وضعت الصين Micius أو Mozi، أول منصة للإرسال الكمومي، في المدار، مما يضمن درجة غير مسبوقة من أمن الاتصالات. تم إطلاق القمر الصناعي في عام 2016، ومكّن من الإرسال لمسافة 7400 كيلومتر بين بكين وفيينا في عام 2017 من خلال توزيع مفاتيح التشفير. وفي عام 2020، نقل ميسيوس تيارات من الفوتونات المتشابكة بين محطتين تفصل بينهما مسافة 1200 كيلومتر، ليلعب بشكل فعال دور قمر صناعي للاتصالات أمن غير قابل للاختراق. وتعتزم الصين أن تمتلك 20 قمراً صناعياً من نفس النوع، وبالتالي إنشاء أول شبكة اتصالات كمومية.
ثورة في الكشف والرصد: يمكن استخدام مبدأ التشابك الكمي في أنظمة الكشف والرصد. بعد الانقسام، يمكن للفوتونات المنقولة بواسطة الموجات الميكروية في الغلاف الجوي أن تلعب دور «ping» السونار أو موجة الرادار لعمليات الكشف والمسح والرصد الراداري على الأقل على مسافة 100 كيلومتر في الغلاف الجوي، ويقال إن الصين كانت تعمل على تجارب لكشف راداري على مسافة 1000 كيلومتر في عام 2016.
كما تستخدم التقنيات الكمومية على المدى القصير في هوائيات الاستقبال المصغرة RF، وأيضاً أنظمة تصوير ثلاثية الأبعاد التي يمكن أن تكون مفيدة لرسم خرائط للمنشآت الموجودة تحت الأرض وتسمح بالكشف والرصد في البيئات الصعبة: الطقس الضبابي، المناطق المتربة، الأدغال.
وستكون هوائيات الطائرات وأجهزة الكمبيوتر وأنظمة الاتصالات على متن الطائرات أول من يستفيد من هذه التقنيات الثورية، والتي ستحسن مرونتها ودقتها.
وتتمتع المستشعرات الكمومية بميزتين رئيسيتين: فهي صغيرة جداً وحساسة للغاية، وبالتالي فهي دقيقة للغاية. ولذلك سيكون من الممكن تصغير بعض المعدات مع تحسين الأداء. وسيكون هذا هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة لهوائيات الأقمار الصناعية على الطائرات. وستكون مساحة سطح الهوائي الكمي صغيرة مثل سنتيمتر مربع واحد، ومع ذلك سيكون قادراً على التقاط نطاق واسع من الترددات، بما في ذلك الترددات المنخفضة جداً، والتي تتطلب تقليدياً أبعاد هوائي أكبر. وسيكون من الممكن دمجها في جسم الطائرة وحتى وضعها في نهاية المطاف على متن طائرات صغيرة بدون طيار.
توفير أنظمة ملاحة مستقلة عن نظام تحديد المواقع العالمي (GPS): اليوم، يتم قياس مسار الطائرة باستخدام الجيروسكوبات Gyroscope الضوئية التي تمكن «وحدة القصور الذاتي» بالطائرة من تحديد موقع نفسها في بيئتها. لكن هذه الأنظمة تتراكم فيها عدم الدقة مع تقدم الرحلة، ولكن هذا الانحراف لا يمثل مشكلة في الممارسة العملية، لأن النظام يستخدم أيضاً بيانات من أنظمة تحديد المواقع والملاحة عبر الأقمار الصناعية مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أو «غاليليو».
ولكن إذا تم تشويش إشارة GPS، فقد يكون ذلك مشكلة كبيرة، خاصة بالنسبة للطائرات العسكرية العاملة في مسارح العمليات. توفر التقنيات الكمومية حلاً لضمان تحديد المواقع بدقة شديدة، دون الحاجة إلى نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) . الفكرة هي استبدال العناصر الميكانيكية والبصرية لوحدات القصور الذاتي الحالية بأجهزة كمومية تعتمد على ذرات باردة، قريبة من الصفر المطلق (-273 درجة). ما يحسن من دقة وحدات القصور الذاتي التقليدية بمعامل 100، ما يوفر دقة تعادل دقة نظام تحديد المواقع العالمي . (GPS) يفتح هذا الابتكار الباب أمام تطوير نظام ملاحة مستقل تماماً عن نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أو نظام غاليليو، ويمكن دمجه في الطائرات العسكرية التقليدية والطائرات بدون طيار. وسيستفيد منه برنامج القتال الجوي المستقبلي الفرنسي الألماني الإسباني (Scaf).
الخاتمة
أصبحت التكنولوجيا الكمومية ذات أهمية متزايدة في سياق عودة الحرب في أوروبا والتوترات الدولية المتشابكة والمعقدة. لذا تنخرط الدول في سباق من أجل التفوق الكمومي مخافة فقدان تفوقها العسكري. ولهذا من المتوقع أن يستمر سوق التكنولوجيا الكمومية العسكرية العالمي في النمو، ومن المتوقع أن يصل إلى 184.6 مليون دولار نهاية عام 2024، وأكثر من ملياري دولار في عام 2035. وسيبلغ معدل النمو السنوي للفترة 2024-2035، 25.57%.
ولن تكون القدرات الكمومية المستقبلية ممكنة بدون ما يطلق عليه «الثورة الكمومية الثانية» التي تعد بإعادة تعريف الحوسبة والأمن والمجالات الأخرى. هذه الثورة الثانية يمكن مقارنتها بتأثير الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. وهي تعتمد على القدرة على عزل الأجسام الكمومية والتحكم فيها، وكذا على توفير اتصالات فائقة الأمان، ولاقطات فائقة الحساسية من شأنها إتاحة قياسات ذات دقة لا تضاهى. كما توفر الثورة الثانية إمكانات غير عادية لحل المشكلات المعقدة وتفتح العديد من الآفاق الجديدة في ساحات الحروب.
وبعد عقود من الصراعات غير المتكافئة، وفي سياق العودة إلى الحرب شديدة الحدة على أثر الحرب الروسية الأوكرانية، تقوم بعض الدول بتمويل تطوير التقنيات الكمومية التخريبية. علاوة على ذلك، فإن خطر قيام أجهزة استخبارات معادية بجمع البيانات المشفرة لفك تشفيرها لاحقاً (اجمع الآن، فك التشفير لاحقاً) باستخدام جهاز كمبيوتر كمومي يشكل خطراً حقيقياً للغاية. ولذلك يرى الخبراء أنه يجب تحقيق التشفير ما بعد الكمي في أقرب وقت ممكن. ومن جانبها تحذر الوكالة الفرنسية للأمن السيبراني ANSSI من الهجمات الإلكترونية الكمومية التي تهدد الاتحاد الأوروبي، وتؤكد على الحاجة الملحة لوضع خطط الهجرة للتشفير ما بعد الكمومي الآن واتخاذ الخيارات التكنولوجية الصحيحة قبل فوات الأوان.
ولذلك، يتعين على الجيوش وفي القلب منها القوات الجوية أن تؤكد استراتيجيتها الكمومية من أجل ضمان سيادتها في هذا العالم المعقد والمتشابك، وإلا فإنها تخاطر بالتخلف عن الركب والتجول في «ضباب الحرب» (Nebel des Krieges) وهي حالة الريبة في الوعي الظرفي وحالة عدم اليقين التي يواجهها المشاركون في العمليات العسكرية خصوصاً فيما يتعلق بقدرة الخصم ونيته أثناء الاشتباك أو خلالَ عملية عسكرية، ما يجعلها تحت رحمة خصومها بالكامل.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح
(خبير بمركز تريندز للبحوث والاستشارات(