سعت كل من الولايات المتحدة والصين إلى توظيف الطائرات المسيرة للقيام بطائفة واسعة من العمليات العسكرية، سواء لأغراض الاستطلاع والتجسس، أو لأغراض قتالية، وذلك في إطار تخطيطهما للارتقاء بقدراتهما العسكرية، والاستعداد للمعارك المستقبلية التي قد تندلع.ويلاحظ أن جهود البلدين في هذا الإطار قد تشابهت بدرجة كبيرة. ويُلقي التحليل التالي الضوء على الخطط المختلفة للولايات المتحدة والصين لتوظيف الطائرات المسيرة في العمليات القتالية المستقبلية.
التصور الأمريكي للهيمنة الجوية
يلاحَظ أنه بمراجعة ما تزخر به مواقع البحث والفكر الأمريكية، وكذلك المواقع المتخصصة في تغطية الأخبار العسكرية، يمكن الإشارة إلى أبرز الاستخدامات للطائرات المسيرة في العمليات القتالية على النحو التالي:
1- توظيف مقاتلة الجيل السادس كمركبة أم: الأمريكية إنها تجري تخطيطاً مستقبلياً للقوات الجوية، استناداً إلى أسطول افتراضي يتكون من حوالي 1000 طائرة مسيرة متقدمة، تتمتع بدرجات عالية من الاستقلالية، بالإضافة إلى 200 طائرة مقاتلة شبحية من الجيل التالي للهيمنة الجوية. ومن المتوقع أن تتم المزامنة بين مقاتلات الجيل الخامس من طراز «إف – 35» مع هذه الطائرات المسيرة المتقدمة، في حين أن التخطيط المستقبلي لمفهوم الجيل السادس من المقاتلات يقوم على بناء مقاتلات ذات مدى أطول، وذات قدرة على حمل كمية أكبر من الأسلحة، وذلك لكي تعكس الحقائق الجغرافية الراهنة لأي صراع صيني – أمريكي محتمل في غرب المحيط الهادئ. وتطور واشنطن مقاتلتها من الجيل السادس تحت اسم مقاتلة الجيل التالي من الهيمنة الجوية.
كما تشمل الإمكانات الجديدة للجيل السادس من المقاتلات، توظيف الذكاء الاصطناعي في التحليق بالمقاتلة، وامتلاك القدرة على التحكم في الطائرات المسيرة، التي سوف ترافق مقاتلة الجيل السادس الأم، بالإضافة إلى امتلاك القدرة على الاتصال بالمستشعرات الموجودة لدى القوات الصديقة، وذلك بصورة تفوق تلك الموجودة في المقاتلة الأمريكية «إف 35»، والتي تتمتع بالفعل بقدرات الاتصال بهذه الشبكة من المستشعرات. ويجري التخطيط كذلك لامتلاك المقاتلات الجديدة لمحركات قوية قادرة على التحليق بسرعة تفوق سرعة الصوت، وكذلك توليد ما يكفي من الكهرباء لاستخدامها في تشغيل أجهزة التشويش القوية بالمقاتلة، أو أسلحة الطاقة الموجهة بالليزر. ويتوقع كذلك أن تكون المقاتلات متصلة بمنصات أرضية، فهذه المقاتلة سوف تكون بمثابة «أنظمة الأنظمة»، أو «أم الأنظمة».
2- توظيف أسراب الطائرات المسيرة الشبكية: كانت الولايات المتحدة هي أول دولة تستخدم أسراب الطائرات المسيرة في الواقع العملي، وذلك في عام 2016، حين أطلقت ثلاث طائرات من طراز «إف – 18» حوالي 103 طائرات مسيرة فوق هدف. وتم تصميم الطائرات المسيرة من قبل طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكانت لها أجنحة بطول 12 بوصة، وكانت بمثابة «كائن حي جماعي». وبدت على شاشة الكمبيوتر وكأنها نقاط خضراء صغيرة تتحرك لتطويق هدف.
وقام سلاح الجوي الأمريكي بعملية محاكاة في عام 2020 بالتعاون مع مركز راند، لقياس مدى فاعلية أسراب الطائرات المسيرة في الدفاع عن تايوان في مواجهة أي هجمات محتملة من الصين. وتستخدم أسراب الطائرات المسيرة شبكة لتبادل البيانات بالليزر، مما يجعل السرب يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، فضلاً عن تبادل المعلومات بشكل فوري.
وتخطط الولايات المتحدة لتوظيف أسراب الطائرات الشبكية من أجل التغلب على تكتيكات منع الوصول/الحرمان من الدخول، التي قد تنشرها الصين حول جزيرة تايوان لمنع الولايات المتحدة من التدخل للدفاع عن الجزيرة. وتتمثل هذه القدرات الصينية في الصواريخ الباليستية والمجنحة والأسلحة المضادة للأقمار الصناعية وشبكات الدفاع الجوي المتكاملة والطائرات المقاتلة من الجيل الخامس.
ويمكن أن يقوم الجيش الأمريكي بنشر هذه الطائرات المسيرة من مقاتلات الجيل الخامس الشبحية، مثل «إف – 35»، أو «إف – 22»، وذلك لضرب السفن الحربية والطائرات وبطاريات الصواريخ الصينية. كما يمكن توظيف الطائرات المسيرة باعتبارها شاشة للمقاتلات، مما يوسع قدراتها على التجسس وجمع المعلومات الاستخباراتية، وذلك دون أن يتم الكشف عن المقاتلة الشبحية. وستساهم هذه الطائرات المسيرة في تحقيق هدفين في نفس الوقت، وهما زيادة الوعي الظرفي، وقدرات الاستحواذ على الأهداف للمقاتلات الأمريكية، بينما تغمر في الوقت نفسه شاشات الرادار للعدو بأهداف متعددة، مما يجبرهم على إهدار الصواريخ والذخيرة المحدودة على هذه الطائرات المسيرة قبل أن تنفذ المقاتلات الأمريكية هجماتها. وسوف توظِّف هذه الطائرات المسيرة التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، مما يمنح أسراب الطائرات المسيرة القدرة على النظر إلى الأهداف من زوايا متعددة، والتحقق من بيانات الاستهداف الواردة من الطائرات المسيرة المختلفة، واقتراح أفضل طريقة لمهاجمة هدف معين.
3- تعزيز فاعلية الأسلحة التقليدية: أجرى الجيش الأمريكي أبحاثاً حول استخدام الطائرات المسيرة لتوفير استخدام الصواريخ بعيدة المدى الأكثر كلفة، إذ تهدف برامج عسكرية أمريكية، مثل «سكاي بورج» (Skyborg) إلى بناء طائرات مسيرة يمكنها التشويش على الدفاعات الجوية، أو إرباكها، أو توجيه الصواريخ بدقة إلى حيث يمكنها إحداث أكبر قدر من الضرر. ويرى المحللون العسكريون أن توظيف الطائرات المسيرة سوف يصبح أمراً شديد الأهمية في المستقبل، وذلك لتعويض النقص في الإنتاج الصناعي العسكري الغربي للمعدات والأسلحة والصواريخ المعقدة، وهو إحدى الثغرات التي عانت منها الدول الغربية مؤخراً في دعمها لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ولذلك، فإن الطائرات المسيرة، بسهولة إنتاجها، يمكن أن تسد هذه الفجوة.
ومن الجدير بالذكر أن روسيا تقوم بهذا الأمر في حربها الحالية ضد أوكرانيا، إذ تستخدم الطائرات المسيرة في هجماتها ضد المواقع الأوكرانية المستهدفة إلى جانب الصواريخ الباليستية والمجنحة، وهو الأسلوب الذي تستهدف من خلاله روسيا إنهاك نظم الدفاع الجو الأوكرانية، وضمان قدرتها على إصابة الأهداف المراد تدميرها، حتى في حالة نجاح أوكرانيا في اعتراض بعض الصواريخ المهاجمة.
برنامج الطائرات المسيرة الصينية
يصــر الكثيــر مــن ضبــاط القــوات الجويــة فــي جيــش التحريــر الشــعبي الصينــي وغيرهــم مــن المحلليــن الصينييــن علــى ضــرورة اســتمرار الصين فــي تطويــر الطائــرات المسيرة للقيام بطائفة واسعة من المهام. وعلــى ســبيل المثــال، يشـدد كل مـن هوانـغ سـوجيان وزهانـغ زينبينـغ علــى حاجــة القــوات الجويــة لجيــش التحريــر الشــعبي الصينــي إلــى تطويــر المنصــات القتاليــة «ذاتيــة التشـغيل والشـبحية والمحوسـبة». وينشـر المحللـون الصينيـون أعـداداً كبيــرة مــن الأبحاث فــي مجــال الطائرات المسيرة، وتشــارك الكثيــر مــن مؤسســات القطــاع الدفاعــي الصينــي فــي هــذه الأبحاث أيضـاً. ويلاحظ أن الحكومة الصينية تجري العديد من الأبحاث على الاستخدامات المستقبلية للطائرات المسيرة للقيام بطائفة واسعة من العمليات، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- مقاتلة الجيل السادس الأم: نشرت مؤسسة صناعة الطيران الصينية، في 31 يناير 2023، مقطع فيديو يعرض مفهوم الجيل السادس من المقاتلات الشبحية الصينية. وجاءت المقاتلة النفاثة الصينية ذات المحركين، بأجنحة قادرة على امتصاص موجات الرادار، وعلى شكل ماسي ودون ذيل. ويلاحظ أن مثل هذه النماذج قد لا ترى النور، مثل المقاتلة «إكس 44 مانتا» (X-44 MANTA)، من تطوير شركة لوكهيد مارتن، والتي ظلت مجرد تصور، ولم يتم تصنيعها في الواقع العملي. ومع ذلك، فإن بناء الصين لمقاتلة من الجيل السادس بدون ذيل، مثل نظيرتها الأمريكية يكشف عن احتمالية بنائها باستخدام نفس التكنولوجيات المستخدمة في الولايات المتحدة. ويلاحظ أن مقطع الفيديو الذي نشرته الصين لمقاتلة الجيل السادس، في يناير 2023، تشبه المقاتلة الصينية الشبحية من الجيل الخامس من طراز «جيه – 20»، ولذلك يرى المحللون العسكريون أنها ستستخدم هذه المقاتلة كأساس لتطوير مقاتلة الجيل السادس. كما يُعتقد أن مقاتلة الجيل السادس الصينية ستتضمن مزايا أخرى أبرزها قدرات التحكم في الطائرات المسيرة الأخرى، فضلاً عن إمكانية استخدام أسلحة الطاقة الموجهة، وتقوم الصين حالياً بتطوير هذه النوعية من الأسلحة بالفعل للمقاتلة «جيه – 20»، وبالتالي، من المحتمل أن يتم توظيفها كذلك على مقاتلة الجيل السادس.
وكشفت محاكاة حديثة لمحاولة غزو الصين لتايوان في عام 2026، قام بها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن القاذفات الأمريكية التي تطلق صواريخ على بعد مئات الأميال شرق الجزيرة يمكن أن تلحق أضراراً جسيمة ببحرية جيش التحرير الشعبي.
ولذلك، من المحتمل أن تريد القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي مقاتلات شبحية بعيدة المدى يمكنها التسلل عبر الدفاعات الجوية والمقاتلات بالقرب من تايوان لمهاجمة القاذفات الأمريكية التي تقذف صواريخ بعيدة المدى من الخلف. وفي الوقت نفسه، يريد سلاح الجو الأمريكي أن يكون لدى مقاتلته من الجيل السادس قدرة على التحليق لمسافة تزيد على 1000 ميل بحري لمرافقة القاذفات الأمريكية التي ستنطلق عبر المحيط الهادئ لاستهداف الصين، والتي تعمل من قواعد خارج نطاق أغلب الصواريخ الباليستية الدقيقة التي تمتلكها الصين. وبالتالي فليس من المستغرب أن كلا القوتين الجويتين يسعيان على ما يبدو لامتلاك مقاتلة من الجيل السادس ذات مفاهيم متشابهة، وقادرة على التحكم في الطائرات المسيرة.
2- أسراب الطائرات المسيرة الصينية: أتقنت الصين استخدام مئات الطائرات المسيرة المدنية في حفلة موسيقية، باستخدام أكثر من 1300 طائرة مسيرة في عرض ضوئي لتحطيم الرقم القياسي العالمي، وذلك في مايو 2018 بمدينة شيان. وفي وقت لاحق، قدمت الصين عروضاً غير عادية للطائرات المسيرة، وهي تحلق في تشكيلات لتبدو وكأنها طاقم طبي، وتضيء سماء تشوهاي لإحياء ذكرى العاملين في مجال الرعاية الصحية خلال جائحة فيروس كورونا.
وأجرت الأكاديمية الصينية للإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات أول اختبار لطائرات مسيرة عسكرية في يونيو 2017، شملت ما يقرب من 120 طائرة صغيرة مسيرة ثابتة الجناحين. وبعد أربعة أشهر، أجرت الشركة تجربتها الأكبر باستخدام مائتي طائرة مسيرة ثابتة الجناحين. أما التجربة الأهم، فقد جاءت في سبتمبر 2020، حينما أطلقت حوالي 48 طائرة مسيرة من شاحنة، ومروحيات، كما أنه يمكن إطلاق نفس الطائرات المسيرة من منصات بحرية. وكشفت هذه التجربة عن قدرة الصين على نشر أسراب من منصات متعددة، ومن ثم إمكانية مهاجمة منطقة مستهدفة من اتجاهات متعددة، وذلك بهدف تدميره. ويلاحظ أن مثل هذا التهديد سوف يكون جدياً، نظراً لغياب نظم الدفاع الجوي القادرة على استهداف هذه النظم بفاعلية، خاصة وأن أغلب نظم الدفاع الجوي التي تعتمد على الليزر لاتزال قيد التطوير.
وكشفت واقعة التجسس الصينية على الولايات المتحدة باستخدام منطاد مسير يطير على ارتفاعات عالية جداً، ليس فقط عن مخاطر التجسس باستخدام هذا الأسلوب، ولكن إمكانية إقدام الصين على نشر طائرات مسيرة على هذه المناطيد، وذلك لنشرها في مجموعات لأغراض التجسس والاستطلاع والمراقبة. ويلاحظ أن باحثين من الصين، ومن دول أخرى، أجروا أبحاثاً علنية على هذا الأمر منذ سنوات.
3- تطوير مسيرات فرط صوتية: كشفت ملفات البنتاجون المسربة التي تم نشرها، في 19 أبريل 2023، أن جيش التحرير الشعبي الصيني قام «بشكل شبه مؤكد» بتشغيل أول طائرة مسيرة فرط صوتية في العالم، تعرف باسم «وي زد – 8» (WZ-8). ووفقاً لملفات البنتاجون، فقد تم نشر الطائرة في مقاطعة آنهوي الغربية تحت قيادة جيش التحرير الشعبي، مما يجعلها جاهزة للتدخل في نقطتي الصراع الرئيسيتين المحتملتين لجيش التحرير الشعبي مع الولايات المتحدة، سواء في تايوان أو كوريا الشمالية. ووفقاً للتقييمات الأمريكية، فإنه يمكن نشر هذه الطائرات المسيرة من خلال الطائرة «إتش – 6 إم» (H-6M). ولا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت قادرة على القيام بمهام أطول مدى، على سبيل المثال، فوق جزر دياويو / سينكاكو المتنازع عليها. وتعد الطائرة المسيرة الفرط صوتية «وي زد – 8» هي الأولى من نوعها في العالم. وتخشى واشنطن أن تعزز الطائرة المسيرة الصينية قدرة الجيش الصيني في جمع المعلومات الاستخبارية الضخمة، والتي تعتمد فيها الصين على أساليب أخرى، مثل شبكة الأقمار الصناعية الصينية، بالإضافة إلى طائرات التجسس المسيرة العديدة والمتطورة. والجدير بالذكر أن طائرة الاستطلاع المسيرة الفرط صوتية قيد التطوير حالياً في الولايات المتحدة، ولكن لم يتم إنتاجها بعد.
4- أغراض الرقابة الداخلية: تُستخدم الطائرات المسيرة في الصين لمراقبة المناطق الحدودية، مثل شينج يانج، بينما تستخدم الحكومة المركزية تقنية التعرف على الوجه لمسح الأشخاص الذين يذهبون إلى المواقع السياحية ومقارنتها بقاعدة بيانات جنائية مركزية، يطلق عليها اسم «سكاي نت»، خاصةً في المناطق التي تعيش فيها أقلية الإيغور المسلمة. وتستخدم الشرطة الصينية مجموعة من البيانات البيومترية والوسائل الأخرى، على سبيل المثال، أجهزة تعقب باستخدام «الجي بي إس» في المركبات والبرامج الحكومية المحملة على الهواتف المحمولة لتعقب الأفراد الذين يمكن اعتبارهم مشتبهاً بهم. ويتم إعطاء المواطنين حتى درجة رقمية، والتي تشير إلى ما إذا كانوا يعتبروا آمنين أو مشتبهاً بهم. وفي عام 2017، نشرت الصين حوالي ألف طائرة مسيرة للقيام بمهام مثل تعقب المشتبه بهم من الشرطة، ومراقبة حركة المرور، وتحديد مواقع مزارع الأفيون.
الخلاصة
وفي الختام، يمكن القول إن الولايات المتحدة والصين تقومان بتطوير أنواع مختلفة من الطائرات المسيرة، لأغراض الاستطلاع والهجوم، وذلك لاستخدامها في حروبهما المستقبلية. ويلاحظ أن تشابه الاستخدامات بين البلدين للطائرات المسيرة إنما يرجع إلى مراقبة كل منهما للأخرى، خاصة فيما يتعلق بإنتاج الطائرات المسيرة، بالإضافة إلى تحسب كلا البلدين لإمكانية اندلاع نزاع بينهما في جنوب شرق آسيا حول تايوان. وعلى الرغم من الاستخدامات الافتراضية المتوقعة للطائرات المسيرة في حروب المستقبل، فإنه لن يتم التأكد من مدى فاعليتها إلا في ظروف تحاكي الحرب الحقيقية، خاصة مع امتلاك واشنطن وبكين لخطط شبه متطابقة لاستخدام الطائرات المسيرة.
» د. شادي عبدالوهاب (باحث عسكري واستراتيجي)