خضعت الحرب دوماً لبعض المبادئ والأعراف التي تستمد قواعدها من الحضارات القديمة والديانات، وبالرغم من ذلك، كان البشر أول ضحايا الحروب، بما تسببه من مآسٍ وإصابات وإعاقات وأمراض ووفيات وهجرات قسرية وأضرار للبيئة الطبيعية والبنى التحتية التي تؤدي إلى ضرر على المدنيين بشكل مباشر وغير مباشر. ولعل أكبر الأمثلة على ذلك ما خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية من عواقب وخيمة على المدنيين والبيئة الطبيعية، لاتزال آثارها ماثلة ليومنا هذا بسبب حجم ونوع الدمار الذي نتج عن استخدام الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.
فقد شهدت الحرب العالمية الاولى (1918-1914) فظاعات غير مسبوقة وعدداً كبيراً من القتلى ناهز تسعة ملايين، من ضمنهم عدد كبير من المدنيين. ورغم ذلك، فإن المجتمع الدولي لم يَستشعر خطر الحرب الداهم على المدنيين إلا في الحرب العالمية الثانية التي خلفت ستين مليون قتيل، وهو ما يمثل أكثر من 5 بالمائة من سكان العالم يومها. وكان واضحاً أنَّ التقدم التقني والعسكري يُنبئ بأنَّ ضحايا الحرب سيكونون أكثر في المستقبل، وفي هذا الصدد يقول الفيزيائي الألماني الشهير، ألبرت أنشتين، إنَّه لا يعرف كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، لكنه يشك في أن هناك من سيعيشون بعدها ليشهدوا الحرب الرابعة.
من أجل ذلك، تداعى المجتمع الدولي لتبني مبادرة دولية لحماية المدنيين في زمن الحرب، تأخذ في اعتبارها المعاهدات والاتفاقيات السابقة، وتجارب الحربين العالميتين. فكان القانون الدولي الإنساني أحد هذه الأدوات المهمة. يعد القانون الدولي الإنساني فرعاً من فروع القانون الدولي العام، وظهر كمصطلح بديل لمصطلح قانون الحرب، تغير هذا المصطلح تدريجياً إلى مصطلح قانون النزاعات المسلحة، وظل هذا المصطلح شائع الاستعمال لفترة زمنية قصيرة، ليتم استبداله بمصطلح القانون الدولي الإنساني. وقد تعددت تعريفات هذا القانون، إلا أنها اتفقت جميعها على الهدف الذي يسعى إليه هو حماية الأشخاص الذين يعانون ويلات الحرب.
ما هو القانون الدولي الإنساني؟
القانون الدولي الإنساني هو مجموعة من القواعد التي ترمي إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية. فقد اتفق العالم على مجموعة من القواعد الدولية التي تحدد ما يمكن وما لا يمكن فعله أثناء النزاع المسلح، وتهدف هذه القواعد إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة، وحماية الأشخاص الذين لا يشاركون أو الذين يكفون عن المشاركة في الأعمال العدائية، وقد أطلق على هذه القواعد القانون الدولي الإنساني، أو قانون الحرب، أو قانون النزاعات المسلحة. وهذا القانون يقيد وسائل وأساليب الحرب، والهدف الأسمى منه هو تقديم الحماية للمدنيين، وضمان بقائهم على قيد الحياة، والحفاظ على شيء من الإنسانية في النزاعات المسلحة، وإنقاذ الأرواح، والتخفيف من المعاناة الانسانية، وحماية البيئة الطبيعية التي من دونها تكون الحياة البشرية مستحيلة.
وينبغي التمييز بين القانون الدولي الإنساني، الذي يحكم سلوك الأطراف المنخرطة في النزاعات المسلحة «القانون في الحرب»، والقانون الدولي العام الذي يكرسه ميثاق الأمم المتحدة والذي ينظم مدى قانونية لجوء دولة إلى استخدام القوة المسلحة ضد دولة أخرى «قانون شن الحرب». ويحظر الميثاق اللجوء إلى القوة، ولكنه يتضمن استثناءين هما: الأول في حالات الدفاع عن النفس ضد هجوم مسلح، والاستثناء الثاني عندما يخوّل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة استخدام القوة المسلحة. ولا يبحث القانون الدولي الإنساني في وجود أسباب مشروعة وراء انطلاق شرارة النزاع من عدمه، وإنما يسعى إلى تنظيم سلوك أطراف النزاع فور اندلاعه.
أصول القانون الدولي الإنساني
يعود أصل القانون الدولي الإنساني إلى أواسط القرن التاسع عشر. فخلال معركة سلفرينو (1859) بين جيش نابليون الثالث والجيش النمساوي، وقف السويسري «هنري دوناند» على فظاعة الحرب، فقرر نقل الجرحى والقتلى بشكلٍ مجاني من جبهات القتال ودون تمييز إلى البلدة بناء على تجربة الحرب تلك، ونشر دوناند في عام 1862 كتابا عنونه بــ «ذكريات من سلفرينو» ضمَّنهُ دعوة إلى التخفيف من معاناة الجنود في الحروب، واقترح أن تسمح الدول لمنظمات إنسانية محايدة بعلاج الجنود خلال الحروب.
بدأ تدوين القانون الدولي الإنساني في القرن التاسع عشر، ولا سيما من خلال اعتماد اتفاقية جنيف لعام 1864 لتحسين حالة المرضى والجرحى بالجيوش في الميدان وإعلان سان بطرسبورغ لعام 1868 الذي يحظر استعمال قذائف معينة في زمن الحرب. ووضعت الدول منذ ذلك الحين مجموعة من القواعد العملية لمواكبة تطور وسائل وأساليب الحرب ومواجهة العواقب الإنسانية التي تخلّفها. وتحقق قواعد القانون الدولي الإنساني توازناً دقيقاً بين الاعتبارات الإنسانية والمقتضيات العسكرية للدول والأطراف من غير الدول المنخرطة في نزاع مسلح. وهي تتناول مجموعة واسعة من القضايا تتضمن: حماية الجرحى والمرضى والغرقى «المنكوبين في البحار» من أفراد القوات المسلحة، ومعاملة أسرى الحرب والمحتجزين لأسباب تتعلق بنزاع مسلح، وحماية السكان المدنيين، والقيود المفروضة على استخدام أسلحة وأساليب معينة للقتال.
مصادر القانون الدولي الإنساني
اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية، معاهدات دولية تضم أكثر القواعد أهمية للحد من همجية الحروب. وتوفر الاتفاقيات الحماية للأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية «المدنيون، وعمال الصحة، وعمال الإغاثة» والذين توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية «الجرحى، والمرضى، وجنود السفن الغارقة، وأسرى الحرب». تقع اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية في صلب القانون الدولي الإنساني، وهي عصب القانون الدولي الذي ينظم السلوك أثناء النزاعات المسلحة ويسعى إلى الحد من تأثيراتها.
شكلت «اتفاقيات جنيف الأولى والثانية والثالثة والرابعة» التي حظيت بتصديق عالمي، المبادئ الجوهرية للقانون الدولي الإنساني. وقد استُكملت هذه الاتفاقيات عام 1977 بالبروتوكول الإضافي الأول المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة والبروتوكول الاضافي الثاني المعني بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية. وتوجد معاهدات دولية أخرى تحظر استخدام وسائل وأساليب معينة للحرب وتحمي فئات معينة من الأشخاص من آثار الأعمال العدائية. وتشمل هذه المعاهدات ما يلي:
• بروتوكول عام 1925 الخاص بحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو ما شابهها.
• اتفاقية 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح وبروتوكولاها لعام 1954 و1999.
• اتفاقية عام 1972 لحظر استحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البكتريولوجية «البيولوجية» والتكسينية وتدمير تلك الأسلحة.
• اتفاقية عام 1976 لحظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى.
• اتفاقية عام 1980 بشأن حظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة، يمكن اعتبارها مفرطة الضرر، وبروتوكولاتها الخمسة لعام 1980 «البروتوكول الأول والثاني والثالث»، ولعام 1995 «البروتوكول الرابع»، ولعام 2003 «البروتوكول الخامس».
• اتفاقية عام 1993 بشأن حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية وتدمير تلك الأسلحة.
• اتفاقية عام 1997 بشأن حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام.
• البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الأطفال لعام 2000 بشأن اشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة.
• الاتفاقية الدولية لعام 2006 بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
• اتفاقية عام 2008 بشأن الذخائر العنقودية.
مبادئ القانون الدولي الإنساني
1
التوازن بين الضرورتين العسكرية والإنسانية: يستند القانون الدولي الإنساني إلى التوازن بين الضرورة العسكرية والإنسانية. فهـو يقـر مـن ناحيـة أنـه للتغلـب علـى طـرف معـاد فـي زمـن الحـرب، قــد يكــون مــن الضــروري مــن الناحيــة العســكرية التســبب فــي الوفــاة والإصابة والتدميـر وفـرض تدابيـر أمنيـة أشـد ممـا يسـمح بـه فـي زمـن السـلم. وهـو يوضـح مـن ناحيـة أخـرى أن الضـرورة العسـكرية لا تمنـح أطـراف النـزاع حقاً مطلقاً في شن حرب بلا قيود. بـل تفـرض الاعتبارات الإنسانية حـدوداً معينـة علـى وسـائل وأســاليب القتــال، وتلــزم بمعاملــة مــن وقعــوا فــي قبضــة العــدو معاملــة إنســانية.
2
التمييز: يعـد مبـدأ التمييـز حجـر زاويـة القانـون الدولـي الإنساني. وهـو يسـتند إلـى الإقرار بـأن الغـرض الشـرعي الوحيـد الـذي تسـتهدفه الـدول أثناء الحـرب هو إضعاف قـوات العدو العسكرية، فـي حيـن يتمتع السـكان المدنيون بحماية عامة ضد المخاطر الناجمة عن العمليات العسـكرية. وبالتالـي يجـب علـى أطـراف النـزاع أن تميز في جميع الحالات بين السـكان المدنيين والمقاتلين وبين الأهداف العسكرية، ومن ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها.
3
التناسب: عندمـا لا يمكـن تفـادي إحـداث الضـرر بيـن المدنييـن، فـإن الأمـر يخضـع لمبـدأ التناسـب. ومـن ثـم يتعيـن علـى مـن يخططـون أو يقـررون هجومـاً الامتنـاع عنـه أو يتعيـن عليهـم تعليـق الهجـوم الـذي يمكـن أن يتوقـع منـه أن يسـبب خسـارة فـي أرواح المدنييـن أو إصابتهـم أو اضـرار بالمؤسسات المدنيـة، أو أن يحـدث خليطـاً مـن هـذه الخسـائر والأضـرار، يفـرط فـي تجـاوز مـا ينتظر أن يسـفر عنه ذلك الهجوم من ميزة عسـكرية ملموسـة ومباشرة.
4
المعاناة غير الضرورية: لا يحمـي القانـون الدولـي الإنساني المدنييـن مـن آثـار العمليـات العدائيـة فحسـب، بـل يحظر أيضاً أو يقيـد وسـائل وأسـاليب القتـال التـي يعتبـر أنهـا تُحدث معاناة غير ضروريـة أو إصابـة مفرطـة بيـن الأطـراف المتحاربـة. ومنـذ وقـت مبكـر يعـود إلـى عام 1868، أقر إعلان سان بطرسبورغ أن الغرض الشرعي الوحيد الذي تستهدفه الدول أثناء الحرب هو إضعاف القوات العسكرية للعدو.
القانون الدولي الإنساني والتقنيات الحديثة
أسفرت التطورات التكنولوجية عن ظهور وسائل وأساليب جديدة للحرب، مثل الهجمات السيبرانية، والطائرات المُسيّرة بدون طيار، والروبوتات المسلحة، ما أثار تحديات إنسانية وقانونية جديدة. ومن المهم جداً لأي دولة عند تطوير أو حيازة سلاح أو وسيلة أو أسلوب جديد من أساليب الحرب أن تقيّم امتثال هذه الأسلحة والأساليب للقانون الدولي الإنساني. غير أن تطبيق قواعد قانونية موجودة مسبقاً على تكنولوجيا جديدة، قد يثير التساؤل حول مدى كفاية وضوح هذه القواعد، في ضوء الخصائص المميزة لتلك التكنولوجيا، والأثر الإنساني الذي يمكن التكهن به.
يواجه القانون الدولي الإنساني تحديات مستمرة جراء تطور النزاعات المسلحة المعاصرة وتطور أدواتها وأساليبها، ويعتمد تحقيق حماية أكبر للمدنيين في النزاعات المسلحة على احترام القانون الدولي الإنساني وتنفيذه وإنفاذه.
يشكل المدنيون الضحايا الرئيسيين لانتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها الدول وأطراف النزاع في النزاعات المسلحة المعاصرة. وما فتئت طبيعة النزاعات المسلحة المعاصرة تفرض تحديات حيال تطبيق القانون الدولي الإنساني واحترامه في عدة مجالات، تتراوح بين تصنيف النزاعات المسلحة وصولاً إلى استخدام التقنيات الحديثة. وهناك حاجة لفهم تلك التحديات والاستجابة لها من أجل ضمان استمرار القانون الدولي الإنساني في أداء مهمته بتوفير الحماية في حالات النزاع المسلح.
دخل نسق متنوع من التقنيات الجديدة ساحات القتال الحديثة، فقد أفسح الفضاء الإلكتروني المجال لإمكانية شن نوع جديد من الحروب، في حين ازداد استخدام أطراف النزاعات المسلحة لمنظومات الأسلحة التي يُتحكَّم بها عن بعد مثل الطائرات المسيرة. ويزداد استخدام منظومات الأسلحة الأوتوماتيكية، وتُجرى دراسة أنظمة ذاتية بعينها مثل الروبوت المقاتل من أجل استخدامها في ساحات القتال بالمستقبل. ليس هناك ثمة شك في انطباق القانون الدولي الإنساني على هذه الأسلحة الجديدة وعلى استخدام التكنولوجيا الحديثة في الحرب. ومع ذلك، تطرح وسائل وأساليب الحرب الجديدة تلك، تحديات قانونية وعملية فيما يخص ضمان استخدامها على نحو يمتثل لقواعد القانون الدولي الإنساني القائمة، وإيلاء الاعتبار الواجب للتداعيات الإنسانية المتوقعة جراء استخدامها.
القانون الدولي الإنساني والبيئة
يهدف القانون الدولي الإنساني إلى حماية السكان المدنيين خلال النزاعات المسلحة وضمان بقائهم على قيد الحياة. ومن ثمة، يسعى إلى حماية البيئة الطبيعية التي من دونها تكون الحياة البشرية مستحيلة.
يراعي القانون الدولي الإنساني حماية البيئة من ناحيتين:
الأولى: بموجب أحكامه العامة.
الثانية: من خلال بعض الأحكام الإضافية الخاصة.
وتنطبق الأحكام العامة المتعلقة بسير العمليات العدائية على البيئة، إذ تكون البيئة في الغالب ذات طبيعة مدنية ولا يمكن بالتالي شن هجمات ضدها إلا في حال تم تحويلها إلى هدف عسكري. كما يتعيّن مراعاة التدمير الذي تتعرض له البيئة عند تقييم مدى التناسب في الهجوم على أهداف عسكرية. وقد أضاف البروتوكول الأول نصاً خاصاً لحظر «استخدام وسائل أو أساليب للقتال، يقصد بها أو قد يتوقع منها أن تلحق بالبيئة الطبيعية أضراراً بالغة وواسعة الانتشار وطويلة الأمد». كما يحظر البروتوكول هجمات الردع التي تشن ضد البيئة الطبيعية من قبيل الانتقام. ويعتبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 جريمة حرب كل الأعمال التي تلحق ضرراً واسع النطاق وطويل الأجل وشديداً بالبيئة الطبيعية وينتهك مبدأ التناسب. وتحظر أحكام خاصة أخرى تدمير الأراضي الزراعية ومرافق مياه الشرب بقصد إلحاق أضرار بالسكان المدنيين. وهكذا، اعتمد المجتمع الدولي عام 1977 اتفاقية بشأن حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى. وغالباً ما يشار إلى هذه الاتفاقية بمعاهدة «التغيير البيئي». وتشمل التقنيات المنصوص عليها في الاتفاقية كل أسلوب يستخدَم لإحداث تغيير «عن طريق التحكم عن بقصد بالعمليات الطبيعية أو ديناميات الأرض أو تركيبها أو بنيتها». وتعهدت كل دولة طرف في هذه الاتفاقية بعدم استخدام تقنيات تحدث تغييراً في البيئة «تكون لها آثار واسعة الانتشار أو طويلة الأجل أو شديدة، كوسيلة لإلحاق الدمار أو الخسائر أو الأضرار بأية دولة طرف أخرى».
» العقيد المتقاعد المهندس خالد العنانزة
(مستشار ومدرب في البيئة والسلامة المهنية(