لطالما أثبتت الطائرات بدون طيار فعالية كبيرة بشكل واضح خلال العمليات العسكرية على الأرض، فقد استعملتها أذربيجان بنجاح في المواجهات الأخيرة ضد القوات الأرمينية. ولا يقتصر استعمال هذه الطائرات المسيرة على الدول، حيث إن فاعلين غير حكوميين برعوا كثيراً في استخدامها، نذكر في هذا الصدد جماعة داعش الإرهابية، التي نفذت أكثر من 80 هجوماً على القوات العراقية خلال مدة لم تتجاوز أربعة أشهر من عام 2016، بالإضافة إلى الانفصاليين الروس في شرق أوكرانيا، والذين استعملوا هذه الطائرات المسيرة لإسقاط قنابل خفيفة استهدفت مخازن أوكرانية للذخيرة ونجحت في تدميرها.
وخلف استعمال الولايات المتحدة للطائرات المسيرة خلال العشرين سنة الأخيرة في عمليات مكافحة التمرد ومحاربة الإرهاب وعياً منتشراً لدى الجميع بشأن القدرات المتنامية لهذا النوع من الطائرات العسكرية وشيوع استعمالها. وفي الحقيقية، ليس هناك شك في أن هذه الطائرات الحربية تشهد تطوراً متسارعاً، لكن ما يتم تجاهله غالباً هو الاستعمال المتصاعد للطائرات المسيرة المخصصة لأغراض تجارية، والبدائية الصنع من قبل الانفصاليين الروس، ووحدات عسكرية أوكرانية، بالإضافة إلى داعش. ومكّنت هذه الطائرات، والتي لا تمثل إلا جزءاً صغيراً من كلفة الطائرات الحربية بدون طيار، العديد من الفاعلين غير الحكوميين من امتلاك قوة جوية رغم أنها تبدو قوة بدائية.
وبغض النظر عن كونها لم تستعمل بعد في المجال البحري، فإن للطائرات المسيرة إمكانات هائلة للمساعدة في مهام المراقبة والاستطلاع والقصف بكلفة أقل بكثير من كلفة الأنظمة المستخدمة حالياً.
الطائرات التجارية بدون طيار لأغراض تجارية
بالرغم من أن معظم التغطيات الإعلامية تركز على الطائرات العسكرية المسيرة عن بعد، فإن استعمال هذا النوع من الطائرات (التجارية) يتنامى بشكل كبير في المجال التجاري، حيث تقوم بإنجاز مهمات أساسية بشكل يومي. وتتوقع نشرة بيزنس إنسايدر (Intelligence Business Insider) أن ترتفع مبيعات هذا النوع من الطائرات بـ66% سنوياً في الأعوام الثلاثة المقبلة، نظراً للاستعمالات المتزايدة لها في مجالات الزراعة والبناء والمناجم والتأمين والإعلام والاتصالات. وسيؤدي هذا الطلب بالتأكيد إلى تحسن كبير في قدراتها وانخفاض في كلفتها كذلك.
وفي هذا الصدد، من المهم التذكير أن هذا المعطى يعكس العودة للوضع الطبيعي الذي يقود فيه المدنيون التطور التكنولوجي. فمن المعروف أن مراكز الأبحاث العسكرية والحكومية قادت العديد من الطفرات التكنولوجية منذ أربعينات القرن الماضي إلى التسعينات، لكن قبل هذه الفترة، فإن معظم الابتكارات التكنولوجية كان مصدرها هيئات تجارية. وانطلاقاً من تسعينات القرن الماضي، طورت شركات مدنية بشكل كبير من القدرات التكنولوجية ذات الاستعمال العسكري. وهذا ينطبق تماماً على الطائرات بدون طيار. ففي وقت تصاعد فيه استعمال الجيوش لطائرات مسيرة كبيرة الحجم وباهظة الكلفة، نجحت الشركات التجارية في تطوير قدرات الطائرات بدون طيار وتخفيض سعرها. ومن المتوقع أن تسير الأمور على هذا المنحى بشكل يدفع المخططين إلى متابعة التطورات التي تشهدها صناعة الطائرات بدون طيار على المستويين التجاري والعسكري.
ويشكل الطلب المتزايد على توصيل الطلبات جوياً إلى الشركات والأفراد أهم الدوافع التجارية لتطوير تكنولوجيا الطائرات بدون طيار، حيث تكمن المقتضيات المطلوبة لتنفيذ هذه المهمة في: الإقلاع والهبوط العموديين والتوصيل الدقيق والطيران المستقل دون الاعتماد على تقنية “نظام تحديد المواقع على مستوى الكون” (GPS) (وذلك لتفادي ضياع الطائرة في حال انعدام إصدار أو التقاط ترددات GPS) والمقاومة الإلكترونية (حيث إن الرحلة قد تضع الطائرة أمام بواعث الكترونية قوية) والقدرة على الطيران لمسافات طويلة وحمل حمولة كذلك. وبتحليل سريع لهذه العناصر نستنتج أنها تشكل نفس خصائص الطائرات العسكرية المسيرة عن بعد.
العمليات البحرية
بعد هذه الخلفية، يمكننا مناقشة الإمكانات التي تمتاز بها الآليات المسيرة عن بعد في المجال البحري، والتي تنقسم إلى طائرات بدون طيار وقوارب عائمة بدون ربان وغواصات مسيرة عن بعد، وتشتغل منظمات مدنية وعسكرية لتحسين أداء هذه الآليات، سواء في الجو على سطح البحر أو تحته. وفي كل من هذه الأماكن، تعمل هذه المركبات سواء بشكل مستقل أو شبه مستقل أو بتحكم عن بعد. وفي المياه الضيقة للشرق الأوسط، يمكن للطائرات المسيرة التي تحلق لمسافات قصيرة، أن يكون لها تأثير حاسم في المجال البحري.
الطائرات بدون طيار
أثبتت الطائرات بدون طيار (UAVs) نجاحها في الرحلات الطويلة والتي لا تتطلب مهام مراقبة كبيرة. وتعتبر شركة أيروفيل فليكسروتور رائدة في صناعة هذه الطائرات التي تزن 25 كيلوغراماً فقط ويمكن إطلاقها من منصة حجمها ستة أمتار في ستة أمتار. وتتمتع هذه الطائرات ذات الإقلاع والهبوط العموديين بقدرتها على الطيران لمسافات طويلة لمدة ثلاثين ساعة، بالإضافة إلى قدرتها على تنفيذ مهام المراقبة والاستطلاع باستعمال الأشعة تحت الحمراء لمسافات تصل إلى 160 كيلومتراً. وفي عام 2016، تم استخدامها على متن كاسرات الجليد في القطب الشمالي وعلى متن يخوت (زوارق بحرية) في أمريكا الوسطى. وصممت هذه الطائرات لتقوم بمهام الاستطلاع الجوي بغرض حماية الحدود ومراقبة سفن الصيد والبحث والإنقاذ، وذلك بكلفة منخفضة نسبياً. ويبلغ سعر الوحدة منها 200 ألف دولار أمريكي، بالإضافة إلى أن استخدامها غير مكلف، خاصة الطائرات المسيرة من نوع فليكسروتور والتي تعتبر أقل كلفة من حيث القيام بمهام استطلاعية مقارنة بالطائرات الحربية التقليدية أو الزوارق العسكرية.
ومَكَّن التطور التكنولوجي من تقليص حجم الرادار ذي الفتحة الاصطناعية (SAR) وحزمة الحرب الالكترونية بشكل يسمح بوضعها على متن الطائرات المسيرة عن بعد. ويمكن للطائرات المسيرة من نوع بروموكو 150 (Promoco 150) أن تحلق لعشر ساعات في المهام التي يستعمل فيها الرادار ذو الفتحة الاصطناعية والأنظمة الإلكتروبصرية والأشعة تحت الحمراء. وقد استعملت دولة شرق أوسطية وطورت الطائرة بدون طيار من نوع هاروب (Harop) لأكثر من عقد من الزمن. وباستطاعة هذه الطائرات حمل أنظمة استشعار إلكتروبصرية وتحت حمراء وبقدرتها التحليق لست ساعات لمسافة 1000 كيلومتر، كما يمكنها الطيران بشكل عمودي، سواء من اليابسة أو من خلال منصة بحرية، وأن يتم التحكم فيها عن بعد أو أن تحلق بشكل مستقل. وتستعمل هذه الطائرة ست دول حالياً.
وكما سبق الإشارة إليه، فإن الشركات تواصل تطوير طائرات بدون طيار لتوصيل الطرود، خاصة باستعمال الطائرات ذات المروحيات الأربع أو الأجنحة المثبتة أو مروحيات الهليكوبتر المسيرة. وتشتد المنافسة بين المئات من الشركات حول العالم المصنعة لهذه الطائرات التي تضم طائرات غير مكلفة للتوصيل المحلي وأنظمة الهليكوبتر المستقلة التي تستطيع الطيران لمسافة 180 إلى 200 كيلومتر. وقد تم استخدام هذه الطائرات لتوصيل الطرود إلى منصات النفط البحرية والسفن في عرض البحر. ومن الواضح أن لهذا النوع من الطائرات قدرات للقيام بمهام استطلاعية، وإعادة الإمداد بالإضافة إلى القيام بعمليات القصف وسط البحر.
وبالنسبة للسوق العسكري، طورت شركة كامان الهليكوبتر بدون طيار من نوع كاي ماكس (K-MAX) وهي مروحية شبه مستقلة استعملتها قوات مشاة البحرية الأمريكية بنجاح كبير طوال عامين في أفغانستان. وباستطاعة هذه المروحيات حمل 2700 كيلوغرام وبلغ معدل الجاهزية الخاص بها نحو 95 بالمائة طوال فترة استخدامها، والتي امتدت لعامين.
وفي الأخير، تقوم مختلف القوات الجوية بتجريب طائرات بدون طيار مستقلة يمكن استخدامها كـ”Loyal Wingmen طائرات يمكن تغيير مهمتها بتبديل الجزء الأمامي منها جواً” لمساندة الطائرات المأهولة. وفي هذا الصدد تجري القوات الجوية الأمريكية تجارب على الطائرات بدون طيار من طراز إكس كيو 58 أي فالكيري (XQ-58A Valkyrie) التي تبلغ سرعتها القصوى 1000 كيلومتر في الساعة وسعة حمولتها 260 كيلوغراماً (قنبلتان صغيرتا القطر أو صواريخ جو-جو) وتستطيع التحليق لـ2500 كيلومتر وبما أنها تقلع وتهبط عمودياً، فإنها لا تحتاج إلى مطار. وعرضت شركة كراتوس (Kratos) هذه الطائرة بمبلغ مليوني دولار أمريكي للوحدة نظير شرائها في دفعة تتكون من مائة وحدة. ورغم اعتبارها في الأساس طائرات للتحليق فوق اليابسة، فإن مدى التحليق الطويل لديها يؤهل فالكيري لتوفير غطاء جوي للعمليات البحرية. وبالنظر إلى إقلاعها وهبوطها العموديين، فإنه يمكن إطلاقها ونزولها على غرار الـ”هاربو” على سفن أصغر بكثير من حاملات الطائرات.
القوارب والسفن العائمة بدون ربان
تسعى شركات تجارية إلى صنع سفن ذات إبحار مستقل من أجل خفض عدد العاملين على متنها وتقليص الكلفة وعدد الحوادث المحتملة. وطورت شركة لويدز ريجيستر (Lloyds’ Register) مقياساً لتحديد مدى استقلالية سفن المستقبل من صفر إلى ستة، ويعني رقم ستة أنها تعني الاستقلالية التامة للسفينة. وقد وقعت شركة نرويجية عقداً لاقتناء سفينتين مسيرتين بصورة آلية ومستقلة لاستعمالهما على سواحل جزيرة أسلو فيورد. إلا أن أشد المتفائلين يتوقعون أن يمر عقد أو أكثر قبل أن تكون هذه المراكب المسيرة المستقلة كلياً آمنة للإبحار في عرض المحيطات.
ومن وجهة نظر عسكرية، تسير البحرية الأمريكية بوتيرة سريعة لنشر المراكب العائمة بدون ربان، إذ قال وزير الدفاع الأمريكي مارك سبنسر إن القوة الحربية الأمريكية ستمتلك في 2045 ما يربو على 150 مركباً من هذا النوع. وفي هذا السياق، نجحت البحرية الأمريكية في الإبحار بالمركب بدون ربان المسيّر “سي هانتر” (Sea Hunter) من كاليفورنيا إلى هاواي والذي ستدمجه في تمارين لمجموعة هجومية من حاملات الطائرات في 2021. وطلبت البحرية تخصيص 579.9 مليون دولار أمريكي في موازنة 2020 للبحث وتطوير المراكب بدون ربان، بهدف صناعة عدد كبير من السفن الكبيرة العائمة بطول يتراوح بين 30 و60 متراً وحمولة ما بين 1000 و2000 طن ومزودة بأسلحة مضادة للأهداف السطحية والحرب الهجومية، وسيبلغ طول السفن المتوسطة بدون ربان ما بين 15 و60 متراً بحمولة 500 طن وسيتم توظيفها في مهام التجسس والاستطلاع والمراقبة والحرب الإلكترونية. كما تقوم البحرية الأمريكية بتجارب على سرب من القوارب الصغيرة بدون ربان للقيام بدوريات بحرية في الممرات الرئيسية. من جهتها، تجري البحرية الملكية كذلك تجارب على القوارب العائمة بدون ربان.
الغواصات المسيّرة عن بعد
تتقدم البحرية الأمريكية بشكل سريع لتطوير غواصات مسيرة عن بعد (UUSV) ويضم هذا الصنف فئة غواصات “أوكرا إكسترا لارج” الكبيرة، بالإضافة إلى الغواصات الاستطلاعية ذات القدرة على قطع مسافات طويلة والغواصات التي تزرع الألغام بشكل مستقل.
ويتوقع أن تتمكن الغواصة المسيرة “أوكرا” كبيرة الحجم من قطع 6500 ميل وأن تبقى بحالة إبحار بشكل مستقل لمدة شهر، وستكون مجهزة بمختلف أجهزة الاستشعار والأسلحة، وتقوم وزارة الدفاع البريطانية باستغلال الفرص التي توفرها هذه الغواصات، التي يبلغ سعرها حوالي 50 مليون دولار أمريكي للوحدة، والتي تطرح بديلاً اقتصادياً للغواصات التقليدية المأهولة.
وتقوم البحرية الأمريكية بالاستثمار في الغواصات المتوسطة والصغيرة الحجم للقيام بمجموعة من المهام، بما فيها التوصيل والمراقبة والدوريات، حيث تتم الاستعانة بالباحثين المدنيين الذين استعملوا لسنوات هذا النوع من الغواصات للقيام بمسح للأعماق المحيطات. وباستطاعة بعض هذه الغواصات البقاء في البحر لخمس سنوات بفضل قدرتها على استغلال فوارق الهبوط الحراري والتواصل عبر الأقمار الاصطناعية حينما تطفو على السطح.
هذه المركبات المسيَّرة مفيدة بشكل خاص لأنها يمكن أن تعمل في المياه الساحلية الضحلة التي تشكل خطورة كبيرة حتى بالنسبة للقوارب الصغيرة. تسمح العملية المستقلة بذاتها بنشر مئات المركبات المسيرة بجزء بسيط من كلفة إبقاء سفينة مسح في البحر. طورت بعض الشركات أسراباً من المركبات المسيرة ذاتياً التي تتعاون لمسح منطقة بسرعات تفوق بكثير التقنيات التقليدية. بمواءمة أجهزة استشعار هذه المركبات، يمكن استخدامها في مهام المراقبة الأمنية للمساحات البحرية.
كما يمكن أيضاً استخدامها كأسلحة عن طريق تغيير الحمولات التي تنقلها هذه المركبات المسيرة متوسطة الحجم والصغيرة إلى ألغام أو طوربيدات. على سبيل المثال، سيتم نشر لغم Hammerhead التابع للبحرية الأمريكية من مركبات غير مأهولة تحت الماء. وسوف تتجول في منطقة مخصصة لأعمال الدوريات للبحث عن غواصات العدو وإغراقها.
خاتمة
مَكنَّت التطورات التكنولوجية الناتجة عن التنافس بين المجالين العسكري والمدني من الوصول إلى نتائج مدهشة بخصوص قدرات المركبات المسيّرة عن بعد لدعم العمليات البحرية في الجو أو سطح البحر أو تحته. ومن المهم الإشارة إلى أنه يمكن القيام بهذه العمليات بكلفة آخذة في الانخفاض مقارنة مع المركبات المأهولة. وقد شرعت الأساطيل البحرية الوطنية والشركات التجارية، على حد سواء، في استغلال هذه الأنظمة التي أظهرت جلياً قدرات على تغيير العمليات البحرية بشكل جذري.
» توماس إكس هيمز (باحث في الشؤون العسكرية(