أدت التغيرات المتسارعة في بيئة الأمن العالمي، بفعل التطورات التكنولوجية، إلى تعطيل نماذج التصميم التقليدية، وهو ما تمخض عنه ظهور أدوات جديدة لتحديث ودعم هيكل القوة المتكاملة، فقد أضحت عملية تحديث أنظمة ومعدات عسكرية جديدة، والتي تتوافق مع متطلبات المهام الحالية والمستقبلية، أحد أبرز محددات المنافسة الراهنة على قمة النظام الدولي، في ظل محاولة كل طرف تحقيق الهيمنة على النظام الجديد.
في هذا السياق، لم تعد عمليات الهندسة والاستحواذ التقليدية قادرة على تقديم حلول فعالة قادرة على مواجهة التهديدات المتغيرة والمتزايدة، وهو ما أدى إلى ظهور الهندسة الرقمية، كمقاربة جديدة قادرة على الاستفادة من التطورات الراهنة في الحوسبة وإدارة البيانات والقدرات التحليلية والنمذجة. حيث يتم دمج النماذج الرقمية مع عمليات المحاكاة والبدائل والأنظمة، وهو ما يوفر رؤية متكاملة للتنبؤ الدقيق بمستوى أداء أنظمة التسليح الجديدة.
تطور مفهوم الهندسة الرقمية
لطالما اعتمدت الشركات العسكرية على أجهزة الكمبيوتر لبناء أنظمة التسليح المختلفة، وذلك من أجل وضع التصميمات المطلوبة، لتبدأ بعد ذلك عملية تصنيع النماذج الأولية المادية، حيث يتم تقييم أدائها في الواقع العملي وإجراء التعديلات عليها بناء على أوجه القصور التي كشفتها عملية التجربة العملية، وأخيراً تَعْمَد الشركات لطرح المنتج النهائي بعد تلافي العيوب التي ظهرت في النموذج الأولي. وبالتالي كانت عملية إنتاج سلاح جديد تمر بمرحلة طويلة وتستغرق وقتاً طويلاً.
وفي إطار الثورة التكنولوجية الراهنة، والتي تعد الهندسة الرقمية أحد أبرز ملامحها، عمدت الصناعات العسكرية للاستفادة من هذه الثورة، عبر تطوير أدوات النمذجة التي يمكنها محاكاة كاملة ودقيقة لدورة حياة السلاح، بدايةً من مرحلة التصميم وصولاً للإنتاج والتجريب وعمليات الصيانة، ومن ثم تسمح هذه النمذجة بتقليص المدة الزمنية اللازمة لتصميم وبناء واختبار المعدات العسكرية افتراضياً وبدرجة دقة عالية، وكذا بتكلفة أقل، قبل أن تبدأ علمية التصنيع الفعلي.
وعلى عكس الهندسة التقليدية التي تم الاعتماد عليها في إدارة البرامج والملفات بشكل تعاوني، من خلال استخدام بعض البرامج، على غرار Google Docs أو Microsoft Teams، فإن مشروعات الاستحواذ المعقدة وواسعة النطاق في الوقت الراهن، باتت في حاجة إلى وصول كافة أصحاب المصلحة في البرنامج إلى نفس الوثائق والنماذج والمعلومات المرتبطة بالبرنامج، فقد ساعدت التطورات التكنولوجية والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة على إحداث ثورة في ممارسات الهندسة الراسخة، تمثلت فيما يعرف بـ«الهندسة الرقمية». والتي عرَّفتها وزارة الدفاع الأمريكية بأنها «نهج رقمي متكامل يستخدم مصادر موثوقة لبيانات النظام والنماذج عبر التخصصات المختلفة لدعم أنشطة دورة حياة النظام».
وتجدر الإشارة إلى أن استخدام النماذج لتلبية متطلبات عمليات الاستحواذ الدفاعية لا تعد اتجاهاً حديثاً، فقد بدأ القادة العسكريون في الولايات المتحدة في استخدام هندسة النظم للتعامل مع التعقيدات المتزايدة لبرامج استحواذ وزارة الدفاع، وهي تعبر عن نهج للتصميم والإدارة للتعامل مع البرامج الخاصة بالقدرات الدفاعية الجديدة من منظور متكامل وشامل عبر دورة حياة البرنامج، بدلاً من التعامل مع أجزائه المعزولة، وقد شكل هذا التطور نقطة فارقة في معالجة احتمالات عدم توافق هذه الأجزاء أو عدم الالتزام بالجدول الزمني المحدد، لكن هندسة النظم ظلت معتمدة بالأساس على النماذج المادية والوثائق الورقية حتى بدأ الاعتماد على الحوسبة والبرمجيات والنمذجة باستخدام أدوات مثل (CAD) و(CAM)، وذلك بدايةً من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وهو ما أتاح فرصة لإنجاز المهام بشكل أسرع وبدقة أعلى من قبل شركات المقاولات الدفاعية الكبرى.
ووصولاً لمطلع العقد الأول من القرن الحالي، ظهر مفهوم آخر يتمثل في «هندسة الأنظمة القائمة على النماذج» (MBSE)، حيث تم استبدال الوثائق الورقية للتصميم، كالمخططات ثنائية الأبعاد ووثائق متطلبات البرنامج وعملية اختبار النماذج الأولية، بالنماذج الرقمية على غرار (CAD) و(CAM)، وبالتالي مثلت (MBSE) تطوراً مهماً في إدارة البرامج، فقط أتاحت للمهندسين وأصحاب المصلحة باستخدام تقنيات المحاكاة والاختبار الرقمي لإنشاء واختبار التصميميات الجديدة. ورغم ذلك ظلت تطبيقات (MBSE) معتمدة على النماذج المنعزلة غير القادرة على دمج القرارات والوظائف المختلفة عبر مختلف أصحاب المصلحة.
ومن هذا المنطلق، جاءت الهندسة الرقمية لتعالج هذه الإشكاليات، من خلال الجمع بين (MBSE) وأدوات البرمجيات المرتبطة بالمعالجة السحابية وتحليلات البيانات الضخمة بالإضافة للشبكات عالية السرعة. حيث تسمح الهندسة الرقمية بإنشاء نماذج أولية افتراضية واسعة النطاق لأنظمة التسليح الجديدة وذلك قبل بناء النموذج المادي الأولي، فضلاً عن إنشاء توائم رقمية للمعدات الموجودة بالفعل. كما أنها تتيح إمكانية تسريع كافة مراحل دورة حياة البرنامج، وتحقيق التكامل بين جميع أنشطته، مع تسهيل الاختيارات الفنية والتصميمية الدقيقة، فضلاً عن دورها في تحسين جودة وسرعة الإنتاج، وضمان الرقابة الشاملة على مختلف مكونات البرنامج. ومع التقدم المستمر في معالجة وتحليلات البيانات الضخمة والحوسبة السحابية وقدرات التخزين خلال السنوات الأخيرة، تزايدت أهمية الهندسة الرقمية، حيث أصبح ممكناً تخزين هذه النماذج ومشاركتها باستخدام شبكات آمنة تتيح لأصحاب المصلحة الوصول للبرنامج في أي وقت، وعندما يقوم المهندسون بإجراء أي تعديلات على التصميم، يتم تحديث هذه التغيرات فوراً ونشرها لكافة أصحاب المصلحة، وهو ما يوفر درجة غير مسبوقة من التعاون والتنسيق.
دور الهندسة الرقمية في تسريع دورة الاستحواذ والتطوير الدفاعي
في إطار التحولات المتسارعة في وتيرة التهديدات في ساحات المعاركة الحديثة، تعمل الهندسة الرقمية على تطوير القدرات الدفاعية للجيوش، ودمج التكنولوجيا الناشئة في الأنظمة القديمة بما يحقق ميزة تنافسية ضد الخصوم ودرجة أعلى من الاستعدادية. وقد كشفت بعض التقارير الأمريكية عن دور الهندسة الرقمية في تحقيق التطوير الدفاعي من خلال ثلاثة جوانب رئيسية، يتمثل الأول في تسريع عمليات التصميم للنماذج الأولية، حيث تعمل الهندسة الرقمية على إحداث ثورة في طرق مراجعات التصميم، على غرار تطوير ونمذجة الأنظمة الجوية غير المأهولة، والمساعدة في تحسين مركبات القتال من الجيل التالي، فباستخدام الهندسة الرقمية يتم محاكاة هذه الأنظمة بدقة عالية، الأمر الذي يتمخض عنه تصميمات محسنة مع تقليص الوقت اللازم للانتقال من مفاهيم التصميم إلى النماذج الأولية الوظيفية. وبالتالي ربما تسمح الهندسة الرقمية بتقليص الوقت المطلوب لطرح الابتكارات في الأسواق بنسبة تزيد على 50 %.
يتمثل الجانب الثاني في تحقيق التكامل في التكنولوجيا الناشئة، حيث تعد النمذجة والمحاكاة، ناهيك عن الذكاء الاصطناعي، جزءاً من ترسانة قادرة على دمج التقنيات المتقدمة مع الأنظمة القديمة، والتي تعمل على تبسيط العمليات ورفع فاعلية وموثوقية الأصول العسكرية، فضلاً عن العمل كحماية استباقية ضد المشكلات المحتملة، وهو ما يعزز من قدرة الجيش على الاستجابة السريعة للمتطلبات التشغيلية، ويمتد هذا التكامل أيضاً لمجال الصيانة والاستدامة، حيث تساعد الهندسة الرقمية على التنبؤ بمتطلبات الصيانة بشكل دقيق، مما يقلل من وقت التوقف المكلف ويضمن توافر أعلى درجات الجاهزية التشغيلية مع إطالة العمر التشغيلي للمعدات العسكرية.
أما الجانب الثالث فيرتبط بزيادة نقاط اتصال المقاتلين، إذ تسمح الهندسة الرقمية بإجراء تجارب أكثر قوة وبسرعة أكبر، حيث يمكن للجنود أن يتلقوا بشكل سريع أحدث التدريبات وأكثرها واقعية على التقنيات المتقدمة وباستخدام أدوات متطورة تحاكي بدقة عالية الواقع الفعلي مما يعزز من درجة الاستعدادية، كما يسمح هذا النهج بتخصيص المعدات للاحتياجات الدقيقة الخاصة بالوحدات المختلفة، وبالتالي فالقدرة على التكيف تعد محدداً مهماً لتعزيز الفاعلية الشاملة واستعداد وحدات الجيش.
وعلى المنوال ذاته، أشار تقرير صادر عن «معهد ميتشل لدراسات الفضاء الجوي»، التابع لجمعية القوات الجوية والفضاء الأمريكية، إلى الدور المحوري الذي تلعبه الهندسة الرقمية في تسريع دورة الاستحواذ والتطوير الدفاعي في عصر المنافسة الاستراتيجية، وتعد القوات الجوية أحد أبرز أهداف الهندسة الرقمية بالنسبة للولايات المتحدة، حيث ترى أن هذه التقنيات سيكون لها تأثير كبير على موقفها الاستراتيجي في مواجهة روسيا والصين، خاصةً أن القوات الجوية الأمريكية، وفقاً للتقرير، تعد هي الأقل استعداداً مما كانت عليه في السابق، وبالتالي تبدو الحاجة ملحة لقدرات أكثر تقدماً والمزيد من الوقت من أجل تطوير هذه القدرات. إذ إن مسرعات تكنولوجيا القوات الجوية، كمكتب القدرات السريعة ومكتب القدرات السريعة الفضائية، غير مصممة لتقديم قدرات دفاعية على نطاق واسع، وبالتالي فهذه المكاتب لها تأثير محدود ولا تعالج غالبية برامج الاستحواذ الخاصة بالخدمة. في المقابل، تشكل الهندسة الرقمية بديلاً أكثر فاعلية، فهي تتمتع بإمكانية حل العديد من هذه المشكلات من خلال تحسين تحليل المتطلبات وتعزيز جودة الإنتاج وجهود التحديث والاستدامة. وتجدر الإشارة إلى أن الهندسة الرقمية تستفيد من البنية التحتية الحديثة لتكنولوجيا المعلومات، كما أنها تستخدم شبكات آمنة عالية السرعة والنطاق الترددي، ومعالجة البيانات الهائلة والحوسبة السحابية والتخزين، وذلك بهدف إنشاء مكتبة رقمية من البيانات والنماذج والوثائق. وهو ما يسمح للمهندسين وأصحاب المصلحة بالوصول إلى المعلومات ومشاركتها في الوقت الفعلي بشأن أي جانب من جوانب أي برنامج، والعمل من قاعدة بيانات واحدة مركزية ومتزامنة وموثوقة.
تزايد الاهتمام بالهندسة الرقمية في إطار التنافس الدولي
تشكل الهندسة الرقمية محدداً رئيسياً في المنافسة الدولية الراهنة، كونها تتمتع بالقدرة على تطوير ونشر قدرات جديدة بشكل أسرع وأقل تكلفةً، كما أنها تشمل العديد من التطورات في الحوسبة وتحليل البيانات والتخزين السحابي، ناهيك عن مشاركتها للمعلومات الآمنة التي يمكنها إحداث ثورة في التصميم والنمذجة والمحاكاة وممارسات هندسة الأنظمة. بل إن بمقدورها أيضاً ربط دورة حياة أنظمة الدفاع بالكامل، بدايةً من تحديد المتطلبات الأولية، مروراً بالاختبار، وصولاً للتصنيع والتشغيل وضمان الاستدامة. وبالتالي، تعد الهندسة الرقمية هي «التطور الطبيعي والتحويلي لممارسات الهندسة، والتي تستفيد من التطورات الهائلة في قوة الحوسبة وتحليلات البيانات وأدوات النمذجة والمحاكاة، وكذا تقنيات نقل المعلومات الآمنة»، لذا فهي تجمع بين أدوات النمذجة والمحاكاة الرقمية القديمة من ناحية، والتطورات الحديثة في الشبكات والمعالجة وهندسة النظم من ناحية أخرى، بغية بناء «خيط رقمي» في الواقع الفعلي، وهي بنية تشبه إلى حد كبير منصات المشاركة المنتشرة في الأعمال التجارية الخاصة. ويمكن لهذا التكامل المتزايد الذي تحققه الهندسة الرقمية أن يعزز من كفاءة وجودة العمليات عبر دورة حياة النظام ككل.
وتعد الصين إحدى أبرز القوى الدولية الرائدة في الهندسة الرقمية، وهو ما ساعد بكين على تطوير قدراتها العسكرية بوتيرة أسرع مقارنة بالولايات المتحدة، فقد استغرفت الصين على سبيل المثال حوالي 30 عاماً في تطوير نظير لطائرة «F-15» الأمريكية، لكنها استغرقت 10 سنوات فقط لمضاهاة «F-22». وبينما تستغرق الولايات المتحدة حالياً حوالي 16 عاماً لتطوير وتسليم أنظمة الأسلحة الجديدة، لا تحتاج الصين لأكثر من 7 سنوات فقط لتطوير أنظمتها، وهو ما يمنح بكين ميزة تشغيلية رئيسية، وقدرة للتكيف مع نظيرتها الأمريكية، بل وربما التفوق عليها. واستناداً لهذه الوتيرة المتسارعة، تشير بعض التقديرات إلى أن الصين سيكون بمقدورها استكمال عملية تحديث قدراتها العسكرية بحلول عام 2027، والتحول لقوة عسكرية عالمية قبل عام 2049.
ولعل هذا ما يتسق مع تحذيرات وزير القوات الجوية الأمريكية، فرانك كيندال، في مايو 2024، والذي أشار إلى أن الصين ظلت خلال العقدين الأخيرين تبني جيشاً قادراً على ردع الولايات المتحدة وهزيمتها حال تدخلت في غرب المحيط الهادئ، وأن الوقت حان كي تقوم واشنطن بإعادة بناء قدارتها لمواكبة القدرات الصينية، مشيراً إلى أن الهندسة الرقمية باتت تشكل عاملاً رئيسياً في تحقيق الأهداف الأمريكية في هذا الشأن، فالنهج القديم في الاستحواذ وتطوير القدرات الدفاعية الذي تتبناه وزارة الدفاع الأمريكية في الوقت الراهن لا يمكنها التفوق على الصين، أو حتى مواكبتها.
وفي هذا السياق، طرحت بعض الأدبيات نهج الهندسة الرقمية كبديل مناسب يمكن أن يساعد على تسريع عمليات الاستحواذ الدفعية الأمريكية ومواكبة الصين، دون الحاجة إلى إجراء إصلاحات كبرى على السياسات القائمة، وبالتالي يمكن للهندسة الرقمية معالجة العديد من المشكلات المتعلقة بتأخيرات الاستحواذ في وزارة الدفاع الأمريكية، كما أنها قد تساعد على تطوير المتطلبات وتسريع عملية التصميم والاختيار، وتبسيط إدارة البرامج.
هل تعول الولايات المتحدة على الهندسة الرقمية لاستعادة هيمنتها العسكرية؟
ثمة تحديات متزايدة تواجه القدرات العسكرية الأمريكية في الوقت الراهن، بسبب النقص الحاد في القدرات والامكانيات في مختلف القطاعات، ولطالما دعم التفوق التكنولوجي خلال العقود الماضية من الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة، بيد أن اتجاه واشنطن لإعطاء الأولوية لمهام مكافحة التمرد في السنوات الأخيرة، فضلاً عن ضغوط الميزانية، أدى إلى تقويض هذه الميزة، لا سيما بالنسبة للقوات الجوية، والتي باتت تمتلك حالياً أصغر مخزون طائرات في تاريخها.
وقد أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن المقاربات التقليدية لوزارة الدفاع الأمريكية في الاستحواذ والتطوير والاستدامة أثبتت أنها مكلفة للغاية ولم تعد فعالة لتلبية الاحتياجات القتالة، ناهيك عن بطئها في مواكبة جهود التحديث للقوى الدولية المنافسة، لا سيما الصين. وبالتالي فشلت الجهود التقليدية لإصلاح سياسة الاستحواذ الأمريكية في تحقيق المستوى المطلوب لتسريع تطوير القدرات الجديدة ونشرها، مما أدى إلى خسارة الولايات المتحدة لمبادرة الابتكار والمرونة لصالح منافسيها.
ولطالما اعتمد الجيش الأمريكي على هندسة الأنظمة التقليدية، لكنها كانت يدوية إلى حد كبير، وتحتاج إلى وثائق مكثفة توزع على مختلف أصحاب المصلحة، وهو ما كان يتطلب وقتاً طويلاً وتكلفة مرتفعة، الأمر الذي يحد من تقديم أنظمة تسليح متطورة بوتيرة سريعة.
وقد شكلت الهندسة الرقمية آلية جديدة لمحاولة استعادة الهيمنة للجيش الأمريكي في ظل المنافسة الجيواستراتيجية الراهنة على قمة النظام الدولي، حيث تقدم هذه التكنولوجيا مجموعة من الأدوات الفعالة التي يمكنها زيادة سرعة وجودة القدرات العسكرية للولايات المتحدة، من خلال الاعتماد على التطورات الحاسوبية المتقدمة ونهج إدارة البرامج القائمة على النماذج، وبالتالي المساعدة في تسريع عمليات الهندسة والاستحواذ والإنتاج بالنسبة لوزارة الدفاع الأمريكية، وبمقدور تقنيات الهندسة الرقمية معالجة العديد من الإشكاليات المتعلقة بالاستحواذ، على غرار التكاليف المرتفعة والجداول الزمنية الطويلة وانخفاض الأداء وأعباء الصيانة.
وفي إطار مساعي وزارة الدفاع تطوير قدراتها الجوية، أوصت بعض التقديرات بضرورة أن تعمل وزارة الدفاع الأمريكية على فرض استخدام الهندسة الرقمية لجميع برامجها المستقبلية، مع طرح حزمة من الحوافز للمقاولين الرئيسيين للقوات الجوية من أجل توسيع اعتمادهم على الهندسة الرقمية من قبل قاعدة الموردين الخاصة بهم.
وفي يونيو 2018، اصدرت وزارة الدفاع الأمريكية أول استراتيجية لها للهندسة الرقمية، حددت فيها رؤية القوات الجوية لاستخدام الهندسة الرقمية لتحسين عمليات الاستحواذ، وتمثلت أهداف هذه الاستراتيجية بالأساس في تحسين كافة وجودة أنظمة القوات الجوية، استناداً للتقارير التي أشارت إلى أن تحقيق هذه الأهداف يمكن من خلال تحسين التصميم والجدول الزمني وتكلفة عمليات الاستحواذ لأنظمة التسليح الجديدة.
وفي مايو 2024، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن سياستها الجديدة بشأن الهندسة الرقمية، تستهدف تجديد أنظمتها وعملياتها الهندسية التقليدية، وذلك من خلال استخدام التكنولوجيا المتطورة والنمذجة والمحاكاة الحاسوبية واستكشاف التحديات الهندسية. كما تنص السياسة الجديدة لوزارة الدفاع على أنه في ظل التهديدات المتزايدة فثمة حاجة لتسريع وتيرة التغيير التكنولوجي وتحسين البيئة المالية المقيدة. ويفترض أن تسمح هذه السياسة الخاصة بالهندسة الرقمية للجيش الأمريكي بالانتقال من العمليات القديمة والورقية واليدوية إلى البيئات الرقمية، كما أنها ستتيح للمهندسين وخبراء اللوجستيات ومديري البرامج وكذا المقاولين بتجربة التصميمات البديلة واجراء الاختبارات والصيانة من خلال أنظمة المحاكاة، وهو ما سيوفر مزيداً من الوقت والتكلفة.
وقد حددت السياسة الجديدة ثلاثة مجالات رئيسية لتنفيذ الهندسة الرقمية، تتمثل بالأساس في المركبات الأرضية وأجهزة الاستشعار والطيران، وقد استخدمت المؤسسة العسكرية الأمريكية بالفعل الهندسة الرقمية في اثنين من أنظمتها الجديدة، مركبة المشاة القتالية (XM-30) والتي تم تطويرها لتحل مكان (M2 Bradley)، وطائرة الهجوم بعيدة المدة ذات المراوح الدوارة والتي حلت مكان (UH-60 Black Hawk)، كما يستخدم الجيش الأمريكي الهندسة الرقمية لتطوير أجهزة استشعار جديدة يمكن تشغيلها على مجموعة مختلفة من المنصات. بالإضافة لذلك تركز السياسة الجديدة لوزارة الدفاع الأمريكية على تحسين الاستدامة لبعض برامج الاستكشاف Pathfinder التي توقفت أو التي كان من المفترض أن تنتهي قريباً، كطائرات الهيلكوبتر (UH-60 Black Hawk) و(AH-64 Apache) و(CH-47 Chinook)، وناقلة (M113) المدرعة. كما يتمثل أحد أبرز اهداف السياسة الجديدة في تطوير قوة عاملة قوية وذات مهارة ومعرفة عالية.
وفي هذا السياق، نشرت مؤسسة راند الأمريكية تقريراً حول تقييم استخدام الهندسة الرقمية من قبل القوات الجوية الأمريكية، توصل التقرير إلى أن تنفيذ الهندسة الرقمية يتطلب بعض التكاليف المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات وإدارة البيانات وتوظيف وتدريب قوة عاملة مؤهلة مع ضمان الاحتفاظ بها. من ناحية أخرى، أثبتت عملية التقييم أن أكبر المكاسب التي تحققها الهندسة الرقمية تتركز في مرحلة التشغيل والدعم، فقد ساعدت الهندسة الرقمية على إحداث تحسينات في الأداء والتكلفة والإطار الزمني، وذلك نتيجةً لإدارة البيانات واتخاذ القرارات الأكثر موثوقية والقائمة على النمذجة والمحاكاة وتحليلات البيانات. كما ساعدت الهندسة الرقمية أيضاً على تحسين هندسة الأنظمة وزيادة الابتكار أثناء عملية الانتاج والتطوير، مع تخفيض الحاجة إلى الاختبارات المادية.
تحديات قائمة
وعلى الرغم من النقلة النوعية التي يمكن أن تحققها الهندسة الرقمية، بيد أن هناك جملة من التحديات التي يمكن أن تحول دون تبنيها على نطاق واسع، يتعلق بعضها بموردي المكونات الفرعية للأنظمة الجديدة، والذين قد لا يتمكنون من الوصول للبرمجيات المطلوبة، أو ربما تكون برامجهم غير متوافقة مع البرامج الخاصة بالمقاولين الرئيسيين. من ناحية أخرى، تشير بعض التقديرات إلى أن تكنولوجيا الهندسة الرقمية ربما تكون مكلفة للغاية بالنسبة لبعض الشركات، وهو ما قد يدفع المؤسسات العسكرية في الدول إلى المشاركة في عملية التمويل.
كذلك، هناك تحدٍّ آخر يتعلق بمدى توافر قوى عاملة مدربة وقادرة على استخدام أدوات الهندسة الرقمية الجديدة، فضلاً عن المقاومة الثقافية والبيروقراطية التي تواجهها هذه التكنولوجيا من قبل البعض من النخب العسكرية. يضاف لذلك التهديدات السيبرانية التي ربما تشكل مصدر قلق للدول لزيادة الاعتماد على هذه التكنولوجيا في تطوير أنظمة تسليح جديدة. ناهيك عن وجود بعض التقديرات التي ترى بأن نتائج الهندسة الرقمية لا تزال في طور النمو، وبالتالي فهي تحتاج لبعض الوقت لضمان التحقق من صحتها من خلال الاختبار المادي، كما تشير هذه التقديرات إلى أن هناك بعض الأنظمة التي لا تستطيع فيها المحاكاة أن تحل مكان الاختبار الواقعي.
وفي الختام، تشير الخبرة المرتبطة بتنفيذ الهندسة الرقمية في برامج الاستحواذ الدفاعي إلى الحاجة لتطوير خطط عمل موجهة نحو الأهداف الخاصة بكل برنامج، مع الإدارة الفعالة للتشغيل البيني للبرامج بين مختلف أصحاب المصلحة، فضلاً عن أهمية تبني استراتيجيات لتوظيف قوى عاملة ماهرة والاحتفاظ بها، ناهيك عن الحاجة إلى إدارة فعالة للتغيير الثقافي، وفي النهاية يتوقع أن يكون للهندسة الرقمية تأثير كبير في مرحلة استدامة أنظمة التسليح الجديدة.
» عدنان موسى مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة