يمثل الذكاء الاصطناعي بالنسبة لإسرائيل مجالاً تكنولوجياً ذات أهمية بالغة على الصعيد الأمني، حيث أصبح من أبرز المجالات التي تتمتع فيها بموطئ قدم وريادة كبيرة، وذلك بفضل الشركات الناشئة التي تنمو في البلاد، فضلاً عن إنشاء مراكز تطوير الشركات العالمية في إسرائيل. كما بدأ موضوع الذكاء الاصطناعي يكتسب في السنوات الأخيرة حصة كبيرة في مجال الحلول الأمنية، حيث إن هذه التطبيقات مدمجة في العديد من التقنيات الأمنية لتعزيز قدراتها.
وهو ما جعل إسرائيل تمتلك عدداً من الخصائص الفريدة التي تؤثر على هذه الجوانب، لاسيما في الجيش الإسرائيلي، وفيما يلي تقدم الدراسة محاور تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الاستراتيجية القتالية بالجيش الإسرائيلي، وذلك على النحو التالي:
الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الأمنية
تتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال الأمني مجموعة متنوعة من التطبيقات، بما في ذلك في مجال الاستخبارات، على سبيل المثال: الأنظمة القادرة على مسح كميات هائلة من البيانات وتحديد الأهداف، فضلاً عن أن التطبيقات اللوجستية تتيح التحسين وتوفير الموارد، كما أن القيادة الذاتية، والتي لها أيضاً إمكانات في المجال الأمني، مثل تلك الموجودة في المجال المدني وحتى خارجها وكذلك أنظمة الأسلحة المستقلة تتيح بدورها تحسين الدقة وتقليل المخاطر للمقاتلين الذين يستخدمونها علاوة على أنظمة التخطيط والدعم لصنع القرار والمحاكاة. وهو ما أتاح بدوره تحسين وتقصير عمليات التخطيط واتخاذ القرارات في المراحل قبل أداء المهام، بناءً على كميات هائلة من البيانات التي لم يكن بالإمكان تحليلها من قبل. إلى جانب استخدامات أخرى، ومنها مايتعلق بأنظمة القيادة والتحكم التي تسمح بالتعامل مع البيانات الضخمة (Big data) من مصادر مختلفة.
علاوة على الاستخدامات في الحرب السيبرانية والدفاع السيبراني، وهما من المجالات الرائدة في استخدام الذكاء الاصطناعي، لأغراض الهجوم والدفاع، وكذلك في التعامل مع كميات البيانات والمعدلات التي تتجاوز القدرات البشرية، حتى تمكن من التنبؤ والرد وكذلك إدارة حالات الكوارث، بما في ذلك القدرة على استخدام قواعد بيانات ضخمة أو أجهزة استشعار مختلفة من أجل إجراء تجميع للمعلومات، مما يؤدي إلى رؤى لا يمكن الوصول إليها بوسائل أخرى.
إلى جانب ذلك هناك تقنيات مدعومة بالذكاء الاصطناعي وتطبيقات مختلفة في مجال التفاعل بين الإنسان والآلة، تهدف لتقصير الوقت بين تلقي المعلومات من قبل الإنسان والمساعدة في اتخاذ القرار ونقله مرة أخرى إلى الجهاز. تعزز هذه القدرات والتطبيقات الصلة الوثيقة بين تقنية الذكاء الاصطناعي والأمن القومي بشكل عام، والأمن القومي في إسرائيل بشكل خاص. وهو ما يتماشى بدوره مع مفهوم إسرائيل للأمن القومي في جوانبه الواسعة، حتى تلك التي تتجاوز المفاهيم العسكرية، ووفقاً لاستراتيجية الجيش.
توظيف الذكاء الاصطناعي في الجيش الإسرائيلي:
أثارت فكرة أن الحرب قائمة على التكنولوجيا وأنها ستحل محل القوة البدنية والوجود البشري على الأرض في بادئ الأمر مصدر انزعاج وحتى معارضة بين أوساط الجيش الإسرائيلي، إلا أن العديد من الخبراء في مجال الذكاء الاصطناعي قد أكدوا في تقديراتهم مع بدأ توظيف التقنيات أن دمج الذكاء الاصطناعي في الاستراتيجية القتالية بالجيش الإسرائيلي، ليس بهدف استبدال الجنود في الميدان، ولكن من خلال فهم الإمكانات الكامنة فيهم في كفاءة القتال وبالتالي تحقيق فعالية وكفاءة أكثر في ساحة المعركة.
لذلك تطلب الأمر منهم في الجيش الإسرائيلي لتطوير واستيعاب تقنيات الذكاء الاصطناعي قوة بشرية فريدة ومدربة، من بينهم مهندسو المعلومات لنقل المعلومات المعقدة إليهم، وكذلك محللون لاسترداد البيانات من قواعد البيانات وتقديمها للمستهلكين بطريقة يسهل الوصول إليها ومفهومة. وبالفعل اتخذ الجيش الإسرائيلي اليوم خطوات عملية لتطوير القوة البشرية لهذه المهن من خلال مسارات التميز لجنود وضباط الاحتياط المتميزين في المجال، إلا أنه على ضوء نقص القوة البشرية المتخصصة في تلك المجالات قد ينتج بشكل طبيعي عمليات طلب وتوريد من شأنها التأثير مباشرة على هجرة العقول من الجيش الإسرائيلي، وخاصة في الرتب الأولى.
وبالوقوف على تحليل العناصر الأساسية الأربعة لمفهوم الأمن الإسرائيلي والتي تمثلت في (الردع، الإنذار، الحسم، الدفاع) يتبين أن للذكاء الاصطناعي القدرة على التأثير الإيجابي حول القدرة على الإنجاز والحفاظ على كل واحدة من تلك العناصر، من خلال دمجها في الأنظمة العسكرية المختلفة أو إنتاج الابتكار.
كما ساهم الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في تحقيق جزء كبير من الأهداف المقدمة في استراتيجية الجيش الإسرائيلي (2018) من قبل رئيس الأركان السابق جادي إيزنكوت. فقد أحصت تلك الاستراتيجية أربعة أنواع من الجهود الأساسية ذات الصلة بأي عملية عسكرية: (الهجوم ، الدفاع ، المساعدة، والتمكين) لأجل تعزيز كل واحد من هذه الجهود لأهمية التفوق التكنولوجي والذكاء الاصطناعي الذي هو مجال رئيسي يسهم في الحفاظ على التفوق.
على سبيل المثال، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي بالفعل في أنظمة الدفاع الجوي، وهي ذات تأثير كبير على الجهد الدفاعي. كذلك استخدام واسع النطاق للذكاء الاصطناعي في مجالات الاستخبارات وتكنولوجيا المعلومات بما يساعد على تحسين القدرات ذات الصلة بجانب الانذار.
كما أسهم كذلك الذكاء الاصطناعي في مساعدة الجيش الإسرائيلي بشكل كبير في مجال التعلم والتخطيط التشغيلي الوارد في استراتيجية الجيش بما في ذلك أنظمة التخطيط والمحاكاة أومن خلال استخدام التقنيات. فهي تمكن من التوصل إلى استنتاجات كان لا يمكن التوصل إليها في الماضي من خلال الجهد البشري، نظراً لصعوبة التعامل مع كميات البيانات الكبيرة وتحليلها. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع إسرائيل بميزة نسبية في المجالات التكنولوجية، بما في ذلك الأدوات غير المأهولة والسيبرانية، وهي مجالات أمنية واضحة. الجمع بينهما وبين الذكاء الاصطناعي كمضاعف للقوة يساعد إسرائيل بشكل كبير في الحفاظ على الأمن القومي وتوسيعه، سواء من خلال الوسائل العسكرية أو من خلال التأثيرات الاقتصادية والدولية الأخرى.
ولذلك ينظر إلى الذكاء الاصطناعي في الجيش الإسرائيلي على أنه عنصر رئيسي ضمن التقنيات الموجودة في السوق المدنية تم تكييفها مع عالم الجيش، وذلك لما تقدمه من مساعدات في الأدوار الخطرة التي يؤديها حالياً البشر فقط. لذا يعد الجمع بين الروبوتات والآلات في مهام مهمة تتعلق بالأمن ليس أمراً بسيطاً، وبالتالي من الصعب ترك الأمور الأمنية في يد الآلة، لذلك يتم التحكم في العملية بشكل جيد وتدريجي حتى بات الجيش الإسرائيلي يتطور أكثر بفضل استخدام هذه التكنولوجية المتطورة في الميادين القتالية.
الفعالية في الحرب
وبالانتقال إلى قياس مدى فعالية الذكاء الاصطناعي في ميادين الحرب، فقد اتخذنا هنا من عملية «حارس الأسوار» على قطاع غزة نموذجاً، حيث تواردت تقارير إعلامية بعد أسبوع من انتهاء العملية نقلاً عن شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي تتطرق لأداء الجيش وفعالية استراتيجته القتالية ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة أثناء العملية العسكرية سالفة الذكر، بفضل الذكاء الاصطناعي، حيث أكدوا أنه للمرة الأولى يكون الذكاء الاصطناعي عنصراً رئيسياً ومضاعفاً للقوة في القتال أمام تلك الحركات. وحسب مصدر رفيع بشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» تعد هذه هي المعركة الأولى من نوعها بالنسبة للجيش الإسرائيلي والتي تجسد فيها أساليب عمل جديدة ومتطورة تكنولوجياً تضاعف القوة بالنسبة للجيش الإسرائيلي بأسره، فقد كان دمج الاستخبارات الكبير والمتنوع مع الذكاء الاصطناعي والاتصال العميق بالميدان قد مثل تحولاً دراماتيكياً في تقوية الارتباط الاستخباراتي بالجانب العملياتي.
وبحسب ما ورد عن الجيش الإسرائيلي أن عملية «حارس الأسوار»، كانت على النقيض من كل المعارك العسكرية التي سبقتها، فقد اتسمت باستخدام غير مسبوق لقدرات الذكاء الاصطناعي، حيث قاموا بأداء ثالوث مثير للإعجاب بين قائمة طويلة من القدرات، بما في ذلك التطبيقات المتخصصة التي تم تطويرها لجعل المعلومات الاستخباراتية في الوقت الفعلي في متناول جميع القوات في الميدان، وخلايا الهجوم الرقمية، والطائرات المسيرة، وأنظمة الانذار، وقدرات استخباراتية أخرى.
استندت العملية على إنشاء «مؤسسة المعلومات والمعرفة» التابعة للجيش الإسرائيلي، وهي منصة تكنولوجية متقدمة للذكاء الاصطناعي تهدف إلى مركزية جميع معلومات الجيش الإسرائيلي عن العدو في منصة واحدة، من أجل تمكين التحليل واستخراج المعلومات في الزمن الحقيقي.
تحتوي المنصة على حوالي 90 % من جميع المعلومات التي في حوزة الجيش الإسرائيلي، وتمكن من قدرات واسعة في مجالات الدفاع والأهداف والمناورات في الميدان القتالي، والتي لم تكن في حوزة الجيش الإسرائيلي حتى وقت قريب. تحت قيادة الوحدة 8200، تم تطوير ثلاثة أنظمة رئيسية لنجاح البرنامجومنها «الكيميائي» و»عمق الحكمة»، التي استخدمت أثناء القتال، أما النظام الثالث الذي تطور من خلال رجال الوحدة 8200، هو نظام يولد توصيات للأهداف من خلال الذكاء الاصطناعي للباحثين المستهدفين في قسم الأبحاث بشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في القيادات والفرق العسكرية. والباحث يوافق على توصيات النظام ويعمل بمقتضاها لأجل مواصلة وإنتاج أهداف نوعية أخرى للقوات المقاتلة.
لتحديات
في ظل التحديات الناشئة عن المنافسة الدولية، وعلى الرغم من المزايا والفرص العديدة التي أثبتت فعاليتها في الاستراتيجية القتالية بالجيش الإسرائيلي، فإن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تنطوي على مجموعة متنوعة من التحديات بالنسبة لإسرائيل، والتي تتطلب تعامل صانعي القرار في هذا المجال. ومن بينها:
1 التحديات التقنية: تشمل تحديات في التطوير، حيث لايزال هناك بعض الصعوبات في تكييف التكنولوجيا المدنية على الاستخدام العسكري، ومنها نقص البيانات الخام (الداتا)، فضلاً عن صعوبة شرح نتائج تشغيل أحد أنظمة الذكاء الاصطناعي لكونه «الصندوق الأسود».
2 التحديات التنظيمية: تشمل الحاجة إلى ميزانيات مخصصة، استثمار وإدارة الموارد البشرية، التعامل مع إسرائيل كونها دولة صغيرة بموارد محدودة.
3 التحديات في الاستخدام: تشمل الصعوبات في تكييف وتيرة البيئة أو الأشخاص الذين يستخدمون هذه الأنظمة مع قدراتهم العالية، صعوبة الأنظمة في التكيف مع البيئات الجديدة التي لم يتم تدريبهم فيها، التحديات في مجال تأمين وموثوقية الأنظمة، فالتحديات الأخلاقية هي التحيزات الناتجة عن المعلومات، وكذلك استخدام هذه الأنظمة لإنتاج «معلومات كاذبة» تبدو موثوقة.
4 التحديات الأمنية والسياسية: بما في ذلك سباق التسلح الدولي، صعوبة الاتفاق على أنظمة ضبط الأسلحة في الميدان وتطبيقها، إلى جانب تعرضها للهجمات الإلكترونية أو عمليات التلاعب الأخرى. وفي خضم تعامل صانع القرار الإسرائيلي مع تلك التحديات، نود الإشارة إلى أن قيمة الاستثمار الحكومي السنوي في المجال تبلغ من 1-2 مليار شيكل من إجمالي الاستثمار في إسرائيل، فيما يتطلب الأمر لجعلها قوة ذكاء اصطناعي وواحدة من الدول الخمس الرائدة في العالم، الاستثمار في هذا المجال بقيمة 10 مليارات شيكل.
استنتاج
وفي الختام، يمكن القول إنه بالرغم من المزايا وإثبات الذكاء الاصطناعي فعاليته في الاستراتيجية القتالية بالجيش الإسرائيلي وتعزيز قدراته، فإنه إذا نظرنا أبعد وأكثر إلى الماضي، سنستنتج تلقائياً أنه كان من الأسهل بشكل عام تقييم التطورات المتوقعة في مختلف مجالات التكنولوجيا وتأثيرها على الجيش، وخاصة في ساحة المعركة المستقبلية، إلا أن الوتيرة السريعة للتطورات التكنولوجية اليوم تجعل من الصعب للغاية توقع المستقبل على مدى العقد القادم، حيث إن التطورات المهمة بشكل رئيسي في مجال البرمجيات وكل ما يتعلق بها مثل الإلكترونيات الدقيقة والحواسيب وعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي والقدرة على اكتساب رؤى قائمة على أساس تقنيات (big data)، وتقنيات «السحابة» لتخزين البيانات، والسيبرانية، والاتصالات إلى جانب التطورات في مجال المعدات العسكرية مثل أنظمة الأسلحة ومعدات الدعم القتالي تتزايد وتيرة تطورها.
على أية حال، يبدو أن التطور التكنولوجي قد بدأ يقلل بشكل متزايد من مكانة الإنسان في الحروب المستقبلية، مما يثير عدة أسئلة: ما هي أدوار الشخص في الأنظمة التي يعمل من خلفها – الذكاء والقيادة واتخاذ القرار؟ علاوة على ذلك، هل التنبؤات حول المستقبل البعيد محكوم عليها بالفشل؟ على ضوء ذلك نستنتج أن التطورات المستقبلية بدرجة أو بأخرى، من شأنها أن تنبع من تقدير الوضع الموجود فعلياً في الميدان القتالي، والذي لا يزال موجوداً على جداول التخطيط بتحديث الاستراتيجية القتالية وفق مقتضيات الحاجة والتطور التكنولوجي الذي بدوره يسهم في تعزيز القدرات ورفع كفاءة الجيوش ويزيد من تفوقها النوعي والتكنولوجي معاً.
د. رانيا فوزي
باحثة في الشؤون الإسرائيلية