تبدو الكابلات البحرية، وغيرها من البنية التحتية تحت سطح البحر كخطوط أنابيب النفط والغاز، معرضة للعديد من المخاطر، سواء بسبب التنافس الدولي الحاد حول الهيمنة على هذا المجال، أو لتصاعد الهجمات التي تستهدف هذه الكابلات. وقد كشفت الحوادث المتكررة خلال الأشهر الأخيرة كيف أصبحت الكابلات البحرية نقطة ضعف جوهرية في الاقتصاد العالمي، إذ إن طبيعة وحجم البنية التحتية تحت سطح البحر يجعل من الصعب توفير الحماية اللازمة لها، وباتت تشكل هدفاً رئيسياً لحروب المنطقة الرمادية الغامضة، والتي تنطوي على هجمات يمكن إنكارها والتنصل منها دون أن تصل إلى مستوى الحروب الشاملة.
أثارت الحرب الروسية – الأوكرانية، وتداعياتها في بحر البلطيق وبحر الشمال والبحر الأسود، وكذا هجمات الحوثيين المستمرة في البحر الأحمر، العديد من التساؤلات بشأن ملامح الحروب المستقبلية تحت سطح البحر، والطريقة التي سيتم بها خوض هذه الحروب، في ظل تزايد استهداف البنية التحتية البحرية بشكل مطرد. ويعكس هذا القلق مدى أهمية البنية التحتية تحت سطح البحر كعامل حاسم في المشهد الأمني العالمي في الوقت الراهن، وأحد محددات الحروب البحرية المستقبلية.
نشأة وتطور أهمية الكابلات البحرية
يتم صناعة الكابلات البحرية من خيوط الألياف الضوئية المصنوعة من زجاج السيليكا، وعادةً ما تكون هذه الألياف التي تحمل الإشارات الضوئية رفيعة للغاية، ويتم تغليفها بطبقات قليلة من البلاستيك أو الفولاذ للعزل والحماية. وترجع بداية توصيل الكابلات في أعماق البحار إلى خمسينات القرن التاسع عشر، قبل أن تقوم سفينة (SS Great Eastern) بوضع أول كابل بحري في المحيط الأطلسي، فقد كانت هذه الكابلات مُسخَّرة بالأساس لخدمة الأهداف الاستيطانية للإمبراطوريات الكبرى. ولتنسيق التعقيدات التقنية المرتبطة بهذه الكابلات، تم إنشاء «الاتحاد الدولي للبرق» (ITU) عام 1865، (أصبح حالياً الاتحاد الدولي للاتصالات)، وهو من أوائل المنظمات الدولية في العالم، والذي اتخذ جملة من الخطوات لحماية الكابلات البحرية، أبرزها اتفاقية حماية كابلات التلغراف البحرية لعام 1884. ورغم ذلك ظلت هذه الكابلات محل نزاع بين الدول، ولم يتم التوصل لتدابير حماية توافقية ضد استهداف هذه الكابلات وقت الحرب.
وفي عام 1982، تم توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) لتكون مكملة للاتحاد الدولي للاتصالات عن طريق حماية حرية الشركات في مد الكابلات البحرية وخطوط الأنابيب في المياه الدولية. لكن، حتى الآن لم توقع الولايات المتحدة على هذه الاتفاقية، بل إنها، وكذلك الصين، لديها قوانينها الخاصة التي تتعارض مع بعض نصوص هذه الاتفاقية.
من ناحية أخرى، تمثل شبكة الفواعل المتعددة والمتباينة في مجال الكابلات البحثية محدداً آخر في تعقيد التنسيق للاتحاد الدولي للاتصالات، وبالتالي ففي ظل غياب البيئة التنظيمية القوية التي تضمن حماية الكابلات البحرية، تتزايد المخاطر المرتبطة بالإنترنت، وتأجيج الصراعات في المواقع الجيواستراتيجية في العالم، على غرار منطقة بحر الصين الجنوبي.
وتشكل الكابلات البحرية حالياً أهمية كبيرة في كافة أنحاء العالم، كونها تمثل أحد أبرز البنى التحتية الرقمية في العالم، فأكثر من 95% من الاتصالات العابرة للقارات تعتمد بالأساس على الكابلات البحرية، والأمر لا يقتصر فقط على الإنترنت، بل يتضمن أيضاً مختلف المعاملات المالية والتحويلات بين البنوك، بل إن هناك الكثير من إدارات الدفاع تعتمد بشكل كبير على هذه الكابلات البحرية. وتقدر تدفقات البيانات والاتصالات الدولية عبر الكابلات البحرية بحوالي 10 تريليونات دولار من المعاملات المالية سنوياً عبر أكثر من 950 ألفاً من الكابلات الضوئية تحت سطح البحر، ويمكن أن تؤدي أي أضرار لهذه الكابلات إلى منع الوصول إلى الإنترنت في مناطق شاسعة، واضطرابات اقتصادية هائلة.
أبعاد حروب الكابلات البحرية
تجدر الإشارة إلى أن حروب الكابلات لا تعد حديثة، فهناك العديد من الحوادث التاريخية لهذا النوع من الحروب، على غرار استهداف بريطانيا لكابلات التلغراف الألمانية في أعماق البحار أثناء الحرب العالمية الأولى، فضلاً عن عملية «أجراس اللبالب» Ivy Bells التي قامت بها البحرية الأمريكية في فترة الحرب الباردة للاستفادة من الكابلات السوفييتية.
لكن، رغم قدم هذه الحروب، فإن طبيعة النظام الدولي الراهن تجعل الحروب الحالية مختلفة كثيراً عن الأشكال التقليدية لهذا النمط من الحروب، حيث بات العالم أكثر اتصالاً من السابق، ويتم الاعتماد في نقل الطاقة والغاز الطبيعي والنفط، ناهيك عن الانترنت، على البنية التحتية في أعماق البحار. وبالتالي، فأي هجوم يستهدف هذه البنية في إحدى الدول، ستكون له تداعيات على بقية الدول الأخرى.
تقليدياً، ركزت الحروب في عالم ما تحت سطح الأرض على الصراعات بين الغواصات، إلا أن تطور المركبات البحرية غير المأهولة ومهام التدابير المضادة للألغام، فضلاً عن تزايد الحاجة لحماية البنية التحتية البحرية، لا سيما الكابلات، شكل تحولاً ملحوظاً في طبيعة هذه الحروب.
وفي هذا الإطار بدأت العديد من الدراسات تطرح مفهوم حرب الكابلات البحرية لتعكس بعدين رئيسيين، يتمثل الأول في التنافس الحاد بين الولايات المتحدة والصين ومحاولة كل طرف تحقيق الهيمنة في هذا المجال، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن التنافس الجيواستراتيجي بين البلدين عبر الكابلات البحرية يمكن أن يؤدي إلى تفتيت البنية التحتية العالمية للإنترنت، والدفع نحو حرب باردة تحت سطح البحر. بينما ينطوي البعد الآخر على تصاعد التهديدات التي باتت تستهدف هذه الكابلات في الآونة الأخيرة. ويمكن عرض بعدي حرب الكابلات البحرية على النحو التالي:
1. حرب باردة جديدة تحت سطح البحر: لطالما كانت شركات الاتصالات الحكومية هي التي تقوم بالاستثمار في قطاع الكابلات البحرية، بيد أن هذا الأمر بدأ يتغير بشكل واضح خلال العقد الماضي، حيث شرعت شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، على غرار جوجل ومايكروسوفت وميتا، في الاستثمار في هذا المجال، وقد بلغ إجمالي هذه الاستثمارات في الفترة ما بين 2016 و2022 حوالي ملياري دولار، بما يعادل 15% من الاستثمارات العالمية في قطاع الكابلات البحرية، ويتوقع أن تزداد هذه الاستثمارات خلال السنوات الثلاث بحوالي 3.9 مليار دولار إضافي، بحيث يشكل 35% من الاستثمارات العالمية في هذا القطاع.
وربما يتسق ذلك مع قناعة الحزب الشيوعي الصيني بأن تحقيق الهيمنة يستند إلى السيطرة على طريق المعلومات السريع، وأن كابلات الإنترنت تحت سطح البحر باتت تشكل العصب الجديد للقوة العسكرية والتجارية في النظام الدولي الراهن. ولعل هذا ما يفسر إطلاق بكين في عام 2015 لطريق الحرير الرقمي، والذي انطوى على استثمارات ضخمة في الكابلات البحرية، بغية تحقيق الهيمنة للصين على النظام الرقمي، وتطوير قدراتها الخاصة في مجال الكابلات البحرية، وإنهاء سيطرة الغرب على هذا المجال، وهو ما يشكل أحد أبعاد حروب الكابلات البحرية الحالية.
وقد نجحت شركة «هواوي مارين» في الاستحواذ على قرابة 15% من السوق العالمية للكابلات البحرية في عام 2019، قبل أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات صارمة على شركة هواوي الصينية، الأمر الذي أفضي في نهاية الأمر إلى استحواذ شركة الكابلات الصينية على شركة «هواوي مارين» وأعادت تسميتها تحت مسمى (HMN Tech)، وبدأت تسعى للحصول على عقود كبيرة للكابلات البحرية.
وفي هذا السياق، عمدت الولايات المتحدة إلى الرد على هذه التحركات الصينية من خلال سلسلة من القيود التي فرضتها على بعض الشركات الصينية، ومحاولة استبعاد هذه الشركات من أي صفقات كبيرة. ففي فبراير 2023، حصلت شركة SubCom الأمريكية على عقد مشروع إنشاء الكابلات البحرية الجديد بقيمة بلغت حوالي 600 مليون دولار، وذلك بعد نحو ثلاث سنوات من فوز شركة HMN Technologies الصينية على العقد، فقط مارست واشنطن ضغوطات على شركات الاتصالات حتى لا تدعم العرض الصيني. ولا يزال فريق الاتصالات، التابع لوزارة العدل الأمريكية، يعمل بشكل حثيث للحيلولة دون حصول الشركات الصينية على عطاءات أو مد كابلات مباشرة بين الولايات المتحدة والصين.
كما أطلقت الولايات المتحدة في عام 2020 «مبادرة الشبكة النظيفة» في محاولة لاستقطاب حلفاء واشنطن بعيداً عن المشاريع الصينية، ومحاولة منع الشركات الصينية من أن تصبح فاعلاً رئيسياً في سوق الكابلات البحرية، حيث يقدر حجم الكابلات البحرية التي توفرها الصين بنحو 10% من إجمالي الكابلات العالمية. وفي عام 2021، نجحت الضغوطات الأمريكية في إقناع البنك الدولي بإلغاء مشروع الكابلات البحرية الذي كان يفترض أن يربط ثلاث دول جزرية في منطقة المحيط الهادئ، بهدف تجنب منح شركة (HMN Tech) الصينية عقد هذا المشروع. كما أقر الكونجرس الأمريكي، في مارس 2023، قانوناً خاصاً بالتحكم في الكابلات البحرية، بغية ضمان استمرار التفوق الأمريكي في مجال الكابلات البحرية.
في المقابل، كشفت بعض التقارير الغربية في أبريل 2023 أن هناك تحركات صينية راهنة لرسم خريطة لإحدى أكثر شبكات الكابلات البحرية تقدماً في العالم، وهو مشروع EMA والذي يفترض أن يربط الصين بأوروبا عبر سنغافورة وباكستان والمملكة العربية السعودية ومصر وفرنسا، وذلك في إطار المنافسة الراهنة مع مشروع «SeaMeWe-6» الخاص بشركة SubCom الأمريكية. ويبدو أن هذا التوجه لبناء شبكتين متنافستين من الكابلات البحرية التي تربط آسيا وأوروبا يعكس مؤشراً مهماً يتعلق بالاتجاه نحو حالة من الاستقطاب الحاد في البنية التحتية العالمية للإنترنت، بما في ذلك الكابلات البحرية ومراكز البيانات وشبكات الهواتف، وبلورة نظام دولي أقل اتصالاً، مع الدفع نحو حرب باردة تحت سطح البحر بين الكتلتين الشرقية والغربية.
فعلى الرغم من التحركات التي تقوم بها الولايات المتحدة لعرقلة التحركات الصينية في اختراق السوق العالمي الخاصة بالكابلات البحرية، فإن الشركات الصينية عمدت إلى الانخراط في بناء كابلات دولية لبكين والعديد من الدول الحليفة لها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما أن هناك العديد من السفن الصينية المنخرطة بالفعل حالياً في أعمال إصلاح معقدة للألياف الضوئية المملوكة حتى للولايات المتحدة، ما يُصعب من نجاح مساعي واشنطن في استبعاد الشركات الصينية من العمود الفقري للإنترنت في العالم.
2. تصاعد الهجمات على الكابلات البحرية: أضحت البنية التحتية تحت سطح البحر جزءاً من حروب المنطقة الرمادية، فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في وتيرة الهجمات المقصودة وغير المقصودة على البنية التحتية للكابلات البحرية، منها الهجمات التي أدت إلى قطع عدة كابلات بحرية جنوب فرنسا في أبريل وأكتوبر 2022، حيث كشفت شركة «Zscaler» للأمن السحابي آنذاك بأن هذه الهجمات أثرت على الكابلات الرئيسية في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة وغيرها من المناطق حول العالم. ناهيك عن الحوادث التي تتمخض عن الظواهر الطبيعية والتي تؤدي إلى قطع أو تلف في الكابلات البحرية، كالتلف الذي لحق بالكابلات البحرية في «تونجا» بجنوب المحيط الهادئ بعد ثوان من البركان الذي شهدته هذه المنطقة في يناير 2022.
وفي فبراير 2023، قطعت السفن الصينية كابلين بحريين تابعين لجزر ماتسو التايوانية، ورغم استمرار عمل نظام الإرسال الاحتياطي بالموجات الدقيقة، فإن الاتصالات كانت بطيئة للغاية، مع عدم القدرة على الوصول إلى أغلب مواقع الويب، الأمر الذي عكس بوضوح مدى أهمية الكابلات البحرية في ظل اعتماد الاقتصادات المتقدمة بشكل كبير على الإنترنت.
وقد كشفت بعض التقارير الغربية عن تباطؤ الاتصالات بالإنترنت الذي شهدته بعض أجزاء من آسيا وإفريقيا وأوروبا فجأة في فبراير 2024، حيث تضررت وقتها ثلاثة كابلات بحرية في البحر الأحمر، وتجدر الإشارة إلى أن منطقة البحر الأحمر تعد نقطة اختناق للإنترنت والاتصالات، حيث تقدر الاتصالات التي تمر بالبحر الأحمر بحوالي 90% من إجمالي الاتصالات بين أوروبا وآسيا، بالإضافة لـ 17% من حركة الإنترنت العالمية تمر عبر الكابلات البحرية في مضيق باب المندب.
وعلى الرغم من عدم رصد أي هجمات مباشرة من قبل الحوثيين ضد الكابلات البحرية في منطقة البحر الأحمر حتى الآن، فإن هناك بعض التقارير الأمريكية التي كشفت عن تورط الحوثيين في استهداف هذه الكابلات بطريقة غير مباشرة، حيث تم قطع بعض الكابلات البحرية في فبراير 2024 من خلال مرساة السفينة البريطانية «روبيمار»، بعدما أصيبت بصاروخ أطلقه الحوثيون عليها.
وبالإضافة للاستهدافات التي تركز على الكابلات البحرية الخاصة بالاتصالات والإنترنت، ثمة هجمات أخرى تتعلق ببقية البنية التحتية تحت سطح البحر، كخطوط أنابيب الغاز والنفط، لعل أبرزها الهجمات التي استهدفت خطوط «نورد ستريم»، فضلاً عن تعرض خط أنابيب «Balticconnector»، الذي يربط فنلندا وإستونيا، لأضرار جسيمة في عام 2023.
وفي إطار الحرب الأوكرانية الجارية، حذرت العديد من التقارير الدولية من إمكانية تعرض الكابلات البحرية في البحر الأسود للخطر، إذ ربما يؤدي النشاط البحري المتزايد في هذه المنطقة إلى تصاعد احتمالية قيام السفن بقطع الخطوط البحرية عن طريق الخطأ، ناهيك عن الاتهامات المتبادلة من قبل القوى الدولية بشأن تعمُّد استهداف هذه الكابلات، في ظل الصراعات الدولية الحادة حالياً بين روسيا من ناحية، والغرب من ناحية أخرى.
تزايد الاهتمام الدولي
ثمة اهتمام دولي متنامٍ بشأن مستقبل حروب الكابلات البحرية ومآلاته المحتملة في تشكيل الحروب المستقبلية تحت سطح البحر، فعلى الرغم من عدم قيام الحوثيين حتى الآن بهجمات فعلية على الكابلات البحرية، والذي ربما يعزى بالأساس إلى التخلف التكنولوجي النسبي للحوثيين وافتقارهم للغواصات القادرة على الوصول للكابلات، فإنه بمرور الوقت لا يمكن استبعاد احتمالية أن يطور الحوثيون من تكتيكاتهم البحرية لتعزيز قدرتهم على استهداف البنية التحتية البحرية. وفي ظل طبيعة مياه الخليج الضحلة التي يبلغ عمقها حوالي 100 متر فقط، تزداد هذه الاحتمالية بسبب عدم الحاجة إلى غواصات ذات تقنيات عالية.
وقد أثارت الهجمات التي استهدفت خطوط أنابيب الغاز «نورد ستريم» في بحر البلطيق، في سبتمبر 2022، العديد من التخوفات الدولية من احتمالية أن تشهد السنوات المقبلة مزيداً من الاستهدافات ضد البنية التحتية الواسعة تحت سطح البحر في أوروبا، وما سيتمخض عنه من تعديل وتخريب محتمل. لا سيما وأن روسيا تعتبر أكثر الدول استثماراً في تعزيز قدراتها الهجومية تحت سطح البحر، حيث تمتلك موسكو حالياً أسطولاً كبيراً من الغواصات النووية القادرة على حمل غواصات نووية أصغر.
من ناحية أخرى، أثارت بعض التقارير الغربية إشكالية رئيسية تتعلق بمآلات الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، والتي يتوقع أن تمتد تحت سطح البحر، وهو ما ستكون له انعكاسات مباشرة على حروب الكابلات المستقبلية، من خلال انقسام الإنترنت إلى نظامين متنافسين، فانفصال الولايات المتحدة والصين عن بعضهما بعضاً في مجال المعلومات سينطوي على تداعيات سلبية على التجارة العالمية والخدمات المصرفية عبر الإنترنت وأدوات الاقتصاد العالمي.
وعلى جانب آخر، رجحت بعض التقارير الغربية أن ينطوي أي هجوم صيني محتمل على تايوان في المستقبل على تهديد للبنية التحتية تحت سطح البحر، وفي ظل كابلات الانترنت المحدودة التي تربط تايوان بالعالم الخارجي، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، فمن شأن استهداف هذه الكابلات أن يؤدي إلى عزل الجزيرة جزئياً، وجعل عمليات التنسيق أكثر صعوبة.
لماذا لا تزال الكابلات البحرية أهدافاً ضعيفة في الحروب المستقبلية؟
كشفت بعض التقارير الغربية أن أكثر من 70 % من أعطال الكابلات البحرية تتم بشكل غير مقصود، سواء عن طريق المراسي، شباك الصيد، عوامل الطقس ولدغات القروش، أو بسبب السفن الغارقة التي باتت مؤخراً أحد مصادر التهديد لهذه الكابلات. الأمر الذي يجعل هناك صعوبة في التمييز بين الحوادث غير المقصودة والهجمات الحقيقية، ما يزيد من حالة الغموض وسهولة تنصل المهاجمين من أي مسؤولية. من ناحية أخرى، هناك نقطة ضعف أخرى مرتبطة بالكابلات البحرية تتمثل في سهولة تحديد مواقع هذه الكابلات، وكذا خطوط الأنابيب، حيث تعمد الشركات إلى الإفصاح عن مواقعها بغية تقليل الحوادث البحرية.
لذا، فالغموض الذي يهيمن على البيئة تحت سطح البحر يجعل البنية التحتية الموجودة فيها، بما في ذلك الكابلات البحرية، أهدافاً مغرية للحروب الهجينة، ويزداد الأمر خطورةً في ظل سهولة عملية استهداف هذه البنية وقدرة أي دولة، حتى وإن كانت صغيرة، وكذا الفواعل من غير الدول في تشكيل تهديد مباشر للبنية التحتية، وفي الوقت ذاته صعوبة إثبات شبهة التعمد في الجاني، حتى وإن كان معروفاً.
من ناحية أخرى، مراقبة الكابلات البحرية مهمة ليست سهلة، فحجم هذه الكابلات يمكن أن يمتد حول العالم 30 مرة حال تم وضع هذه الكابلات في خط مستقيم، ويقع بعض هذه الكابلات على أعماق كبيرة تصل إلى 8000 متر، ما يعد تحدياً كبيراً للعمل في هذه الأعماق، وهو ما انعكس في انفجار الغواصة التجريبية «تيتان» على عمق 3500 متر، منتصف عام 2023.
وفي الختام، في إطار التهديدات المتزايدة للكابلات البحرية، وتحولها لأحد أبعاد الحروب الراهنة تحت سطح البحر، يمكن أن تعمل الحكومات الدولية على تعزيز القدرة على الصمود لتأمين البنية التحتية تحت سطح البحر وردع أي عدوان في المنطقة الرمادية، ويمكن تحقيق هذا الأمر من خلال بناء أنظمة أكثر مرونة للمشروعات الجديدة من البداية. بالإضافة لذلك يمكن أن يكون الحل القصير المدى هو تعزيز الوعي البحري، حيث يمكن أن تقل احتمالية قيام الجهات المعادية باستهداف الكابلات البحرية إذا أدركت بأنها مراقبة، الأمر الذي يتطلب مزيداً من أجهزة الاستشعار، كالتصوير عبر الأقمار الصناعية الفضائية، وأجهزة الاستشعار على السفن والمركبات البحرية، لا سيما في ظل التقدم الكبير في الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية. وفي هذا الإطار، هناك أهمية خاصة لتعزيز التنسيق بين القطاعين العام والخاص لبناء الأنظمة المرنة وزيادة الوعي البحري.●
عدنان موسى (مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة )