بداية نستطيع القول إن حروب المعلومات في عصر الذكاء الاصطناعي أكدت أكثر من أي وقت مضى ما بات يطلق عليه «ما بعد الحقيقة»، بمعنى ازدياد ميل الناس إلى تشكيل آرائهم وقناعاتهم بناء على المشاعر، أكثر منها على الحقائق، فيما يتعلق بالشؤون السياسية والعامة، فيزداد رفض الناس لتقبّل الحقائق، وقبول الكذب وحتى المفضوح منه، وهو ما يرتبط بشكل واسع بما تروج له وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تغلب عليها الشائعات أكثر من الحقائق.
مع قبول الناس لهذه الشائعات بشكل مثير للدهشة «كما تشير لذلك دراسات عديدة». وهذا ما دعا الفيلسوف الألماني «بتر سلوتردايك» للقول إن المجتمعات الغربية أصبحت كالذي فقد الثقة في الأطباء فاتجه إلى المعالجين بالوصفات السحرية والدجالين بحثاً عن أمل مستحيل، ومن هنا كان المأزق الجوهري المتولد عن انهيار مسلّمة «عصمة وحكمة الأغلبية العاقلة»، التي هي الفكرة الأساس التي تأسست عليها الديمقراطية. لم تعد الكذبة إشاعة تطلق في الأسواق اعتباطاً، بل تحولت إلى صناعة كاملة حتى وصل الأمر إلى الانتقال من تزييف الحقائق إلى خلق الوقائع، كما تؤكد الكثير من الدراسات. فمصطلح ما بعد الحقيقة لا يعني مجرد التلاعب بالحقائق وإنكار الواقع، على ما هو شائع ومتداول، وإنما يعني صعوبة قد تصل إلى الاستحالة لوصول معظم الناس إلى حقائق الأشياء.
في هذا السياق، عُقد المؤتمر السنوي الأخير لمركز التميّز الاستراتيجي للاتصالات التابع لـ «الناتو» في ريغا «لاتفيا» في الفترة ما بين 7-8 يونيو 2023، تحت عنوان (Riga StratCom Dialogue) لمناقشة كيف أن الذكاء الاصطناعي (AI) بات لا يعزز القدرات الهجومية للعدو في المجال الرقمي فحسب، بل إنه يضعف أيضاً القدرات الدفاعية لمجتمعات ضد التلاعب بالمعلومات.
أهداف الدراسة
أولاً: أهم أدوات حروب المعلومات المعززة بالذكاء الاصطناعي ومخاطرها
كما يوضح الشكل رقم (1)، فالذكاء الاصطناعي من خلال برامج توليد النصوص مثل ChatGPT والصور مثل Midjourney يمكن أن يستخدم في توليد ونشر معلومات مضللة أو معلومات مغلوطة أو خطاب كراهية، مما يؤدي لما يطلق عليه ظاهرة التلوث المعلوماتي التي تهدد التقدم البشري والأمن والسلم الدوليين.
كما تعتبر الساحة الرئيسية لحروب المعلومات المعززة بالذكاء الاصطناعي هي وسائل التواصل الاجتماعي، فنظره متأنية للشكل رقم (2) توضح لنا الأعداد الهائلة المشتركة في تلك الوسائل.
كما أن هناك إدراكاً لشريحة عريضة من مستخدمي تلك الوسائل، بأنهم يتعرضون لحرب معلوماتية قد تكون في بعض الأحيان معززة بالذكاء الصناعي، حيث وجدت دراسة لبيانات مستقاة من أجوبة مشاركين في استقصاءات في 142 دولة أن 58.5 % من الأشخاص الذين يرتادون الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بانتظام في جميع أنحاء العالم قلقون من خطر التعرض للمعلومات المغلوطة والمضللة على الإنترنت. كما أن 83 % من المستجيبين في استطلاع رأي حديث للأمم المتحدة قد أفادوا بأن المعلومات الخاطئة والمضللة كان لها تأثير كبير على الانتخابات الأخيرة التي جرت في بلدهم/إقليمهم.
ويؤكد الخبراء أن من بين الاتجاهات العشرة لتوظيف الذكاء الاصطناعي في الحروب توظيف الخداع «التزييف» العميق. فالذكاء الاصطناعي بإمكانه إنتاج فيديوهات لزعماء ومسؤولين وقادة يدلون فيها بتصريحات ليست حقيقية مما قد يسبب بلبلة في الرأي العام وتزييف الحقائق وقيام الصراعات وإلحاق وتشويه رموز عامة، وسياسية وفنية من خلال بصمات الصوت والوجه بإتقان بالغ، مما يجعل من مهمة اكتشاف أو تمييز صحة أي محتوى رقمي، أمراً صعباً، خصوصاً على عامة الناس.
ثانياً: Riga StratCom Dialogue السياق والأهداف والمخرجات
بحسب «الأرضية المعرفية» للمؤتمر، يتطلب المشهد الجيوسياسي غير المستقر أن تقوم الدول الأعضاء وحلف الناتو بتطوير نهج فعال في مجال حرب المعلومات، خصوصاً بعد سلسلة الأزمات العالمية التي حددت معالم عالم اليوم والغد: كورونا، أفول الديمقراطية، الحرب الروسية الأوكرانية، أوكرانيا على أعتاب أوروبا، وارتحال القوة لمناطق غير غربية وحالة الطوارئ المناخية، بما يجعل من مصطلح (Permacrisis) الكلمة المفتاحية لهذ العقد. ومعنى ذلك أن دول الحلف وربما مناطق كثيرة من العالم ستعيش فترة طويلة من الارتباك والمعاناة نتيجة للصعوبات والتحديات الضخمة التي يبدو أنها لا نهاية لها: فالغرب وربما العالم أجمع قد وقع في فخ «الأزمة الدائمة».
وما زاد من ضراوة الأزمة وساهم في ديمومتها حروب المعلومات، خصوصاً المرتبط منها بالذكاء الاصطناعي. حيث تعمل التقنيات المرتبطة بالواقع الممتد، بما في ذلك ChatGPT (الذي نال انتشاراً هائلاً مؤخراً)، على إثارة المخاوف بشأن التلاعب بالمعلومات على نطاق غير مسبوق. ولا تتوقف وتستمر ثورة الذكاء الصناعي في مجال المعلومات، ما يعني أننا سنشهد تحولات جيوسياسية استراتيجية مصحوبة بحرب المعلومات المعززة بالذكاء الصناعي.
وتتطلب هذه التطورات تفكيراً مبتكراً وعقلية خلاقة للتطوير واستراتيجية ديناميكية طويلة المدى. من أجل ذلك عقد هذا المؤتمر تحت عنوان The Riga StratCom Dialogue مستقطباً مئات الخبراء والممارسين وصانعي السياسات رفيعي المستوى من مختلف التخصصات ومن جميع أنحاء العالم للانغماس في مناقشات حيوية والبحث عن حلول مستدامة.
خلاصة الأمر، استهدف هذا المؤتمر أن يكون بمثابة منصة مناقشات وحوارات معمقة حول كيفية تقييم فعال لبيئة المعلومات المعاصرة والثغرات المحتملة التي يجب معالجتها لضمان أمن المعلومات.
أهم فعاليات المؤتمر ومخرجاته
● جلسة مقاربات ومناهج «تتبع حملات التأثير العالمية» .. والتي أشرف عليها مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي (DFRLab) التابع للمجلس الأطلسي والذي أخذ الحضور في رحلة عبر دراسات الحالة التوضيحية للتلاعب المعلوماتي وحملات التأثير على المعلومات عبر الإنترنت باستخدام الذكاء الاصطناعي. خلال الجلسة، قام الفريق المشرف على الجلسة بعرض تحقيقات OSINT الأخيرة التي كشفت عن جوانب جديدة من القضايا العسكرية والسياسية والمجتمعية في أرمينيا ومولدوفا والسودان، ودراسة محاولات روسيا المستمرة للتأثير ليس فقط على أوروبا الغربية، بل على العالم. واستطاع الفريق من خلال أمثلة تطبيقية تفاعلية مع جمهور الجلسة عبر منصات Meta وX وTelegram خطوة بخطوة جعلهم يلعبون دور Digital Sherlock.
● جلسة الردع المعلوماتي في العقود القادمة.. الغزو الروسي لجورجيا في عام 2008 وأوكرانيا في عام 2014، والصراع في سوريا، والهجرة، والتحديات العالمية الأخرى، كانت هناك العديد من المنبهات التي تجاهلها الغرب في لحظة غفوة. فلقد أثبت عام 2022 أن نشوب حرب تقليدية واسعة النطاق ليس مجرد احتمال افتراضي، بل هو واقع وحشي يحدث في قلب أوروبا بحسب المشاركين في تلك الجلسة. فهل الغرب قادر على ردع روسيا، ليس فقط بمنع إراقة المزيد من الدماء، بل وأيضاً عن تنفيذ عمليات التدخل الهجين والتدخل الأجنبي في أوروبا، بما في ذلك في مجال المعلومات وخصوصاً المعززة بالذكاء الصناعي أم الناتجة عنه؟ ذلك كان السؤال المحوري لتلك الجلسة.
● جلسة حروب السرديات .. بحسب الناتو، تواصل الصين الاستثمار في الترويج لسرديتها ورؤاها للعالم والتأثير الحازم والواضح المعالم في جميع أنحاء ما بات يسمي «الجنوب العالمي». ما هو مقدار البيانات والبنية التحتية المعلوماتية التي جمعها الحزب الشيوعي الصيني تحت ستار الجنوب العالمي؟ هل الناتو وحلفاؤه مستعدون لمسارح حروب الغد المعلوماتية خصوصاً المعززة بالذكاء الصناعي مع الصين وغيرها من الدول غير الصديقة؟ من جانب آخر، السرديات الروسية ووكلاؤها الموجودون بقوة في الفضاء المعلوماتي للعديد من البلدان في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى يمثلون خطراً على السرديات الغربية. والسؤال الذي طرحته تلك الجلسة هو: ماذا يمكن لحلف الناتو وحلفاؤه أن يفعلوا لمواجهة تلك السرديات؟وما يزيد من صعوبة المواجهة هو إمكانية إنتاج سرديات دعائية عالية الجودة بتكلفة منخفضة نسبياً باستخدام الذكاء الاصطناعي، فبفضل قدرته على البرمجة بلغات كمبيوتر مختلفة، تسهل برامج مثل ChatGPT على سبيل المثال إنشاء مواقع على الإنترنت وشبكات من الحسابات التلقائية (botnets) تهدف إلى تضخيم السرديات والتسويق الماكر لها.
ثالثاً: مقترحات مجابهة حروب المعلومات المعززة بالذكاء الاصطناعي وتحدياتها
إن المخاطر المعلوماتية التي تمثلها أدوات الذكاء الصناعي على توليد ونشر المعلومات المغلوطة أو المعلومات المضللة أو خطاب الكراهية على قدرة المجتمعات على الصمود لا شك فيها، ولكن العديد من الاستجابات يمكن أن تخفف من آثارها:
● أحد هذه الأمور ينطوي على زيادة كبيرة في الاستثمارات المخصصة للبحث الأكاديمي. فالمزيد من الدارسات من شأنه أن يجعل من الممكن بالفعل تحسين التعرف على الرسائل التي صاغتها أدوات الذكاء الاصطناعي، ولا سيما بفضل النموذج القائم على تحالف قياس الأسلوب، أي التعرف إلى التعبيرات اللغوية الزائدة على الحاجة، والتعلم الآلي.
● وتتمثل في إتاحة البيانات التي تجمعها الشركات وأدواتها الخاصة بالتحقق من المعلومات، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من الجهود المكرسة لتمكين المواطن من الدفاع المعلوماتي عن نفسه ومجتمعه. وتسلط دراسة حديثة الضوء على الإمكانات المفيدة لتلك الشركات والبرامج، بما في ذلك ChatGPT، من أجل تحسين كفاءة وسرعة عمليات التحقق من المعلومات للمواطنين شريطة الحياد المعلوماتي لتلك البرامج والشركات.
● وبما أن الذكاء الاصطناعي يهدد تماسك المجتمعات ككل، فإن هذه الاستجابات تتطلب إعادة النظر في أطرها القانونية. إن القواعد الواضحة ضرورية بالفعل من أجل مساءلة الشركات عند استخدام أدواتها في عمليات التضليل. ويبدو أن الإجماع الأكاديمي يؤيد التكيف السريع للأطر القانونية الوطنية، أو حتى الأوروبية، مع الأحكام المطبقة على الذكاء الاصطناعي، مثل تلك المتعلقة بحقوق النشر أو حماية بيانات المستخدم. وفي الوقت نفسه، من الممكن تبني تدابير وقائية في مواجهة التهديدات التي يفرضها الاستخدام الاستبدادي للذكاء الاصطناعي.
● يضاف إلى ذلك التوسع الضروري في الأساليب التي تستخدمها الجهات الحكومية في اتصالاتها الاستراتيجية، والتي تدعمها الآثار الإيجابية للتعرض الوقائي للمعلومات المضللة.
● كما أن الموازنة بين الابتكار والسلامة أمر بالغ الأهمية لضمان التطوير والاستخدام المسؤولَين لتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال المعلومات. يتوجب على الحكومات تطوير القواعد التنظيمية لتلك الموازنة ووضعها موضع التنفيذ لمعالجة مخاطر الذكاء الاصطناعي المحتملة وآثارها على البيئة المعلوماتية.
● كما أن الاتفاق على إطار أخلاقي لتطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي المسؤول أمر ضروري لأمن البيئة المعلوماتية. فيجب أن تكون الشفافية والإنصاف والمساءلة من المبادئ الأساسية التي توجه تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه في توليد ونشر المعلومات. يجب تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي بحيث تتماشى مع القيم والحقوق الإنسانية، وتعزيز الشمولية، وتجنب التحيز، والتمييز. كما يجب أن تكون الاعتبارات الأخلاقية جزءاً لا يتجزأ من دورة حياة تطوير الذكاء الاصطناعي في المجال المعلوماتي.
● تمكين الجمهور بالتعليم كدفاع ضد التضليل المعلوماتي. فيعد محو الأمية بالذكاء الاصطناعي واستخداماته في مجال الحروب المعلوماتية بين الأفراد أمراً بالغ الأهمية لتعزيز مجتمع يمكنه التغلب على تلك الحروب.
● التعاون التشاركي بين الفاعلين في مجال مجابهة الحروب المعلوماتية المعززة أو المنتجة بالذكاء الصناعي. تتطلب مواجهة التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي في المجال المعلوماتي، التعاون بين خبراء الذكاء الاصطناعي وواضعي السياسات وقادة الصناعة. من خلال توحيد خبراتهم ووجهات نظرهم بما يقود لحلول فعالة.
ولكن يعيق من تحقق أو من نجاعة بعض تلك الحلول المقترحة ما يلي من تحديات:
أولاً: الممارسات الاحتكارية، فمثلها مثل المنصات الرقمية، تظل البيانات الناتجة عن التبادلات بين المستخدمين وأدوات الذكاء الاصطناعي حكراً على احتكار القلة من الشركات والحكومات.
ثانياً: الافتقار التقني والمالي لصناع القرار السياسي والمجتمع العلمي من مجابهة ناجعة للتهديدات التي يشكلها الذكاء الاصطناعي في مجال التضليل المعلوماتي.
ثالثاً: الأبعاد الجيوسياسية التي تعيق الجهود المبذولة للاستخدام المسؤول للذكاء الصناعي. إذا كانت الدعوات إلى إنشاء مراكز دولية مسؤولة عن مراقبة التطورات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي تبدو جديرة بالثناء، فإنها تظل غير ذي جدوى السياسة الواقعية للدول والتحالفات.
الخاتمة
باتت الكثير من التكتلات على غرار حلف الناتو تؤمن أكثر من أي وقت مضى بأن التقدم غير المحسوب للذكاء الاصطناعي يمكن أن يحوله لأداة قوية للتضليل والاضطراب السياسي، فمجموعة السبع في اجتماع لها في شهر مايو 2023 قالت إنها تخطط لكبح جماح الذكاء الاصطناعي وأطلقت «عملية هيروشيما» في اجتماعها بالمدينة اليابانية، من أجل عقد مناقشات على مستوى الوزراء حول تقنيات الذكاء الاصطناعي سريعة التطور وتأثيراتها على البيئة المعلوماتية. وفي يونيو من نفس العام، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش إن العالم يجب أن يواجه «الضرر الدولي البالغ» الناجم عن تفشي الكراهية والأكاذيب عبر الفضاء الرقمي.
يبدو إذاً أن البيئة المعلوماتية للإنسان المعاصر ستظل مهددة بحروب التضليل المعلوماتي وخطاب الكراهية والمعلومات المضللة المعززة بالذكاء الاصطناعي إلى أن نتعايش معها أو نتمكن من وضح حد لتأثيراتها الأخطر.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح
خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات