شهدت الأزمة الليبية خلال الأشهر القليلة الماضية تصعيداً ملحوظاً في وتيرة الصراع المحتدم في البلاد منذ الإطاحة بحكم معمر القذافي قبل نحو عشر سنوات، مدفوعاً بالأساس بتصعيد تركيا وتدخلها العسكري في هذا البلد دعماً لحكومة الوفاق الوطني والميليشيات التي تتبعها في مواجهة الجيش الوطني الليبي برئاسة المشير خليفة حفتر، وهو التدخل الذي أثار القلق الإقليمي والدولي، وطرح تساؤلات حول دوافع أنقره من وراءه، وتأثيراته على المشهدين السياسي والعسكري في ليبيا، ومساراته المستقبلية، ولاسيما في ظل ما يطرح من حديث عن سيناريوهات «سورنة ليبيا»، في إشارة إلى تكرار النموذج السوري، أو «قبرصتها» بمعنى تكرار نموذج التدخل التركي في قبرص عام 1974 في ليبيا، وهو التدخل الذي أفضى عملياً إلى تقسيم قبرص.
أولاً: تطور موقف تركيا من الأزمة الليبية
شهد الموقف التركي تطورات متباينة من الأزمة الليبية، عكست في جانب كبير منها الطابع النفعي الذي يميز هذا الموقف. ففي البداية كان التردد التركي واضحاً في في دعم الحراك الشعبي ضد نظام القذافي، نظرًا لأنها كانت تربطها مصالح اقتصادية وتجارية كبيرة مع هذا النظام، كما كانت هناك استثمارات هائلة قُدِّرت بأكثر من 20 مليار دولار عام ،2009 حيث دعت تركيا إلى تغليب لغة الحوار والحلول السلمية، كما ترددت أيضاً بشأن تأييد عملية حلف شمال الأطلسي في ليبيا، ولكن عندما أدركت أن بقاءها خارج التحالف الغربي الأطلسي سيبعدها عن التأثير في هذا الملف، عدلت موقفها نحو دعم مبادرة تدخُّل الحلف للإطاحة بنظام القذافي. وعقب الإطاحة بالقذافي، تحركت تركيا على الساحة الليبية بشكل نشط للحفاظ على مصالحها في هذا البلد؛ فكانت أول من بادر بتعيين سفيرٍ بطرابلس بعد سقوط «القذافى»، كما قام أردوغان بزيارتها في سبتمبر 2011، حتى قبل أن تستقر أوضاعها السياسية، وعملت أنقرة على إبرام تحالفات مع جماعات وقوًى سياسية إسلامية مرتبطة بها داخل ليبيا، واحتضنت الإخوان المسلمين والجماعات المتشددة هناك وقدمت لهم الدعم والتمويل والأسلحة بالتنسيق والتعاون مع قطر. وعندما حدث الانقسام بين الفرقاء الليبين ووقعت الحرب الأهلية في عام 2014، قدمت تركياً دعماً كبيراً للتيارات الإسلاموية، التي تمثلت في البداية في تحالف «فجر ليبيا» في طرابلس/مصراتة، في مواجهة تحالف «كرامة ليبيا» التابع للجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، ثم لحكومة الوفاق الليبية بقيادة فايز السراج التي تشكلت عام 2015.
ثانياً: التصعيد التركي الأخير ودوافعه
شهد التدخل العسكري التركي في الأزمة الليبية تصعيداً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة، ولاسيما بعد توقيع أنقرة ورئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج اتفاقيتين مثيرتين للجدل في نوفمبر 2019؛ الأولى: حول التعاون الأمني والعسكري، وتتضمن نقل الأسلحة وتبادل المعلومات والتدريب الأمني وتبادل أنظمة الأسلحة فضلاً عن إمكانية نشر قوات تركية بليبيا وتنفيذ تدريبات مشتركة وإنشاء مكتب مشترك للتعاون في مجالي الدفاع والأمن بين البلدين. والثانية تتعلق بترسيم جديد للحدود البحرية بين البلدين حيث تحدد احداثيات المنطقة الاقتصادية الخاصة بتركيا، بما يعطي لتركيا الفرصة لاستكشاف الطاقة بشكل أوسع في منطقة البحر المتوسط.
ورغم الانتقادات الواسعة التي تعرضت لها هاتين الاتفاقيتين على مستوى الداخل الليبي وعلى المستويين الإقليمي والدولي؛ بوصفهما تمثلان انتهاكاً صارخاً للسيادة الليبية، ولا تستوفيان الشروط الدستورية التي تتطلب موافقة مجلس النواب، بل وتشكلان انتهاكاً لحقوق سيادية لدول أخرى، فقد استندت أنقرة إلى هاتين الاتفاقيتين كسند قانوني لتبرير تدخلها العسكري في ليبيا، والذي اتخذ عدة صور ومظاهر، منها:
• إرسال قوات تركية ومستشارين عسكريين إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق، وذلك بعد موافقة البرلمان التركي في مطلع يناير 2020 على مشروع قرار يسمح بذلك. وقد أعلن أردوغان بالفعل في منتصف الشهر نفسه أن بلاده بدأت بالفعل في إرسال قوات إلى ليبيا.
• إرسال أسلحة ومعدات عسكرية متطورة للميليشيات الموالية لحكومة الوفاق، حيث أنشأت أنقرة جسراً جوياً وبحرياً لنقل الأسلحة إلى ليبيا، كما أشارت بعض المصادر المتخصصة إلى إرسال تركيا لنحو 12 طائرة عسكرية من نوع «إف 16» لمرافقة طائرت الشحن العسكرية والسفن التي تنقل الأسلحة، بل ومشاركتها في العمليات العسكرية.
• نقل المرتزقة والميليشيات المتطرفة من سوريا إلى ليبيا؛ حيث توسعت أنقرة في تجنيد المرتزقة والعناصر المنتمية للفصائل المسلحة في سوريا بما في ذلك العناصر الموالية لتنظيم داعش وجبهة النصرة وغيرها وإرسالها إلى ليبيا للقتال. وفي هذا السياق، أفاد تقرير للمرصد السوري لحقوق الإنسان، يوم 8 يونيو 2020، بأن الاستخبارات التركية تشرف على فصيل يضم عشرات المسلحين من داعش، مشيرًا إلى أن من مهام الفصيل تجنيد مرتزقة لصالح تركيا للقتال في ليبيا، وسط تقديرات بوجود نحو 13 ألف مرتزق موالٍ لتركيا في ليبيا.
وهذا التصعيد التركي غير المسبوق الذي يشكل انتهاكاً لسيادة ليبيا وللأمن القومي العربي ككل، تحركه مجموعة من الدوافع الرئيسية، يمكن الإشارة إلى أبرزها في التالي:
• العقلية الحاكمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تتملكة أوهام استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية البائدة، في إطار ما بات يعرف باسم «العثمانية الجديدة»، والتي تستهدف استعادة تركيا لنفوذها وهيمنتها في المناطق والدول التي كانت خاضعة لهذه الإمبراطورية، التي لا يتوقف أردوغان وأركان نظامه عن الحديث عنها والتذكير بها.
• المصالح الاقتصادية، ولاسيما تلك المرتبطة بتأمين مصادر الطاقة من النفط والغاز التي أنفقت عليها تركيا نحو 42 مليار دولار أمريكي في عام 2018، وتسهيل سيطرة تركيا على مصادر الغاز المهمة في مياه شرق المتوسط، ومحاولة الاستئثار بملف إعادة الإعمار بعد الصراع، والذي تقدر بعض المصادر التركية حجم استثماراته بأكثر من 100 مليار دولار.
• تمكين جماعات الإسلام السياسي الحليفة للنظام التركي؛ حيث تكاد ليبيا تكون الساحة الوحيدة المتبقية أمام نظام أردوغان للإبقاء على حلفائه من هذه الجماعات، بعدما تعرضت لضربات قاصمة في سوريا أمام النظام السوري الذي فرض سيطرته على معظم البلاد، وفي مصر بعد إسقاط حكومة الإخوان عام 2013، وفي السودان بعد سقوط حكم البشير. ولهذا يضع أردوغان كل ثقله في الملف الليبي؛ لأنه يدرك أن فشل مشروعه هناك سيعني فشل مشروعه في المنطقة كلها.
• الهروب من مشكلات الداخل، حيث تعرض نظام أردوغان لانتقادات وأزمات داخلية مستمرة منذ «محاولة الإنقلاب الفاشلة» عام 2016، والتي استغلها أردوغان لتشديد قبضته على الداخل، والاتجاه بتركيا نحو الطابع السلطوي عبر إقرار النظام الرئاسي، إضافة إلى تراجع الاقتصاد التركي، وغيرها من الأزمات التي أضرت بشعبية الحزب، وأفقدته الكثير من البلديات الكبرى في الانتخابات المحلية الأخيرة، وأحدثت انشقاقات حتى داخل حزب العدالة والتنمية نفسه. ومن ثم فقد بدأ النظام يبحث عن نصر خارجي لإثبات بطولته واستعادة شعبيته.
ثالثاً- المسارات المحتملة.. بين «السورنة» و «القبرصة» واحتمالات الحل السياسي
أحدث التدخل العسكري التركي تأثيرات مهمة على موازين القوى الداخلية على الأرض، حيث استعادة حكومة الوفاق السيطرة على الغرب الليبي وفرضت سيطرتها على العاصمة بالكامل، بل واتجهت شرقاً نحو سرت، حيث تتركز مصادر النفط والغاز التي تبحث عنها أنقرة، وهو ما جعل المسؤولين الأتراك يتحدثون علانية ويتفاخرون بأن تدخلهم العسكري قلب موازين القوى على الأرض لمصلحة حلفائهم.
وبينما لاتزال المعارك العسكرية محتدمة، فإن الحديث عن حسم عسكري كما يتحدث القادة الأتراك، لا يبدو واقعياً أو منطقياً، ولاسيما أن قوات الجيش الوطني الليبي لاتزال تفرض سيطرتها على معظم الأراضي الليبية. وفي هذا السياق، يطرح المراقبون أربعة سيناريوهات محتملة لتطور الصراع الليبي بعد التدخل التركي:
1
الأول هو مسار النموذج القبرصي: فتركيا التي تستميت في التدخل في ليبيا وتلقي بكل ثقلها هناك سوف تسعى بكل قوتها للبقاء هناك للأسباب التي تم ذكرها سابقاً، وترسيخ وجودها في هذا البلد لضمان حماية مصالحها فيه، ولهذا عارضت المبادرة المصرية التي طرحت لوقف إطلاق النار في يونيو 2020، وتعمل على عرقة أي جهد سلمي أملاً في الحسم العسكري أو على الأقل السيطرة على مناطق إنتاج النفط وضمها للمناطق التي تسيطر عليها، وهو ما يعيد الحديث عن النموذج القبرصي عندما تدخلت أنقرة في الأزمة القبرصية عام 1974 وتمكنت من فصل جزء من قبرص وهو جمهورية شمال قبرص التركية التي لاتزال تخضع لها.
2
الثاني هو سيناريو «السورنة»: كما يأتي هنا أيضاً الحديث عن سيناريو «سورنة سوريا»، ولاسيما في ظل الحديث المتواتر عن احتمال التوصل إلى تنسيق أو تفاهمات روسية- تركية لتقاسم مناطق النفوذ في ليبيا كما هو الحال في سوريا.
3
المسار الثالث، هو اتساع رقعة الصراع إقليمياً ودولياً. فهذا التدخل التركي يثير حفيظة الكثير من القوى الإقليمية والدولية التي لن تقبل بسيطرة تركيا على ليبيا، أو بتحويلها إلى ملاذ للجماعات والميليشيات المتطرفة، ما يشكل تهديداً صريحاً لمصالحها وأمنها القومي، وهو ما قد يدفع هذه الدول إلى الدخول في صراعات عسكرية مفتوحة مع تركيا على الساحة الليبية، ما يحول هذا البلد إلى ساحة حرب قد يطول أمدها. ويمكن الإشارة هنا بوضوع إلى تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يوم 20 يونيو 2020 التي اعتبر فيها أن مدينتي سرت والجفرة خط أحمر لمصر، ولمح إلى تدخل بلاده بشكل عسكري مباشر في ليبيا، معتبراً أن مثل هذا التدخل باتت تتوفر له الشرعية سواء في إطار حق الدفاع عن النفس، أو بناء على سلطة مجلس النواب الليبي، وأن أهداف هذا التدخل ستكون تأمين الحدود الغربية لمصر، واستعادة الأمن والاستقرار في ليبيا، وإطلاق تسوية سياسية بين الليبيين . وهي التصريحات التي لاقت دعماً عربيا ودولياً وأطلقت جرس الإنذار بشأن إمكانية تحقق هذا السيناريو.
4
الرابع، وهو مسار التسوية السياسية، وهذا المسار رغم أنه يبدوا بعيداً الآن إلا أنه مرجح، لأن القوى الإقليمية المحيطة بليبيا، العربية والأوروبية، لن تقبل بسيطرة تركيا على ليبيا، كما أن هذه الدول لن تقبل بتحول ليبيا إلى ملاذ للجماعات والميليشيات المتطرفة التي تنقلها تركيا من سوريا إلى ليبيا للتخلص من أعبائها بعد اندحارها هناك، خاصة في ظل قرب ليبيا الجغرافي من أوروبا، وإذا لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية، فإن هذه الدول ستتدخل لإعادة تغيير موازين القوى على الأرض. والأمر المؤكد هنا هو أن تغلغل تركيا بهذا الشكل في ليبيا، ونقلها للجماعات المتطرفة إلى أراضيها وتحويلها إلى سوريا أخرى، لا يشكل تهديدا لليبيا فقط، ولكن للأمن القومي العربي والأمن الأوروبي، وهو ما لا يتوقع أن يسمح به أحد.
» فتوح صادق )باحث في العلوم السياسية(