سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:
يوسف بن تاشفين، أحد الشخصيات التاريخية التي حكمت المغرب الأقصى 40 سنة في القرن 11 الميلادي، وعاش نحو قرن، ويعد من أقوى الأمراء الذين حكموا الدولة المرابطية، التي كانت تمتد من مدينة بجاية الجزائرية شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن منطقة بلاد السودان جنوباً حتى بلاد الأندلس (إسبانيا) شمالاً، كأكبر دولة في إفريقيا وأوروبا حينها.
المولد والنشأة
ولد يوسف بن تاشفين، ثاني ملوك الدولة المرابطية، سنة 1009 ميلادية في منطقة لمتونة، وهي إحدى قبائل صنهاجة بموريتانيا.
نشأ ابن تاشفين على حب الجهاد داخل أسرة ملتزمة بدينها الإسلامي، مثل باقي قبائل صنهاجة آنذاك، كما كان شجاعاً وقيادياً وهو صغير السن، الأمر الذي مكنه من الالتحاق بالحركة المرابطية التي أسسها الشيخ عبدالله بن ياسين، في منطقة على نهر النيجر في منطقة نائية بالسنغال.
الدراسة والتكوين العلمي
أخذ يوسف بن تاشفين تعاليم الدين الإسلامي على يد الفقيه الشيخ عبدالله بن ياسين، الذي كان له الفضل في تكوين الجيل الأول من حركة المرابطين، وتعلم منه الفروسية إلى جانب التكوين الديني.
وجعله حبه العلم والعلماء وتعلقه بنشر الدين الإسلامي محط حب وتقدير عند رجال العلم، الذين أشادوا به في كتاباتهم وأعمالهم، مثل ما كتبه الإمام الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء “كان ابن تاشفين كثير العفو مقرباً للعلماء، وكان سائساً حازماً”.
هذه الصفات أسهمت في تكوين شخصية يوسف بن تاشفين القيادية، التي أهلته وهو صغير السن إلى تولي قيادة إمارة البربر، بعدما عينه ابن عمه أبوبكر بن عمر اللمتوني أميراً على إمارة الصحراء، حيث بايعه شيوخها وسادتها وزعماؤها.
التجربة السياسية والعملية
في بداية القرن 11 الميلادي، أصبح المرابطون أسرة حاكمة، بعدما كانوا مجرد حركة صغيرة أسسها عبدالله بن ياسين، وحكموا دولة صغيرة جنوب الصحراء، في منطقة لمتونة على الساحل الأطلسي بين موريتانيا والسنغال، تحت قيادة يحيى بن عمر اللمتوني، الذي كان نائباً للشيخ عبدالله بن ياسين.
كان أبوبكر قائداً عسكرياً مقتدراً، فاستولى على سهول سوس الخصبة وعاصمتها أغمات بعد عام واحد من وفاة شقيقه، واستمر في بسط سيطرته على المناطق في الصحراء بمساعدة ابن عمه يوسف بن تاشفين، وعهد إليه بعد ذلك بقيادة منطقة سوس والمناطق التابعة لها بعدما سيطروا عليها بالكامل.
ثم بدأ يوسف بن تاشفين بسط سيطرته على مناطق أخرى وإخضاعها لحكمه، انطلاقاً من مدينة “سجلماسة” التي اتخذها قاعدة جنوبية لدولته، وأصبحت مركز تجمع للصنهاجيين الصحراويين الجنوبيين، وخصوصاً من قبائل لمتونة ومسوفة وجدالة.
وكان ذلك قبل أن يواصل بناء مدينة مراكش سنة 1062، التي كان قد أسسها قبله ابن عمه أبوبكر بن عمر اللمتوني، واتخذها ابن تاشفين بعد ذلك عاصمة للدولة المرابطية.
وغزا ابن تاشفين مملكة تلمسان (في الجزائر) وأسس مدينة الجزائر الحالية، وامتد حكمه إلى الشرق الأقصى حتى وهران. وعلى مستوى المغرب، امتد حكم ابن تاشفين إلى جبال منطقة الريف والمناطق الصحراوية العتيقة ثم مدينة فاس، قبل أن يصل إلى مدينة طنجة.
استغاثة ملوك الطوائف
في الوقت الذي كان فيه ابن تاشفين يواصل فتوحاته ببلاد المغرب، ويعمل على استتباب الأمن والاستقرار بالدولة المرابطية، كان المسلمون في بلاد الأندلس يعيشون الويلات بسبب القمع والاضطهاد من قبل ملوك الإفرنجة الصليبيين.
وكان ملوك الطوائف الأندلسية يدفعون الجزية والهدايا كل عام إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة لنيل رضاه.
وعندما ضاقوا ذرعاً من تصرفات ملك قشتالة، أعلنوا التمرد عليه وامتنعوا عن دفع الجزية، وأقدم أمير إشبيلية المعتمد بن عباد على قتل كل الأشخاص الذين كلفهم ألفونسو السادس بتحصيل الجزية والهدايا.
تَمَرُد المسلمين جعل ملوك الإفرنجة (ملوك إسبانيا وفرنسا والبرتغال) يتفقون على طرد كل المسلمين من بلاد الأندلس، خاصة بعد سقوط طُليطلة.
وذلك عندما خرجوا بجيش جرار، وقاموا بغزو أغلب الممالك التي كانت تحت حكم المسلمين هناك، إذ كان المسلمون في الأندلس يحكمون 22 دويلة صغيرة، ولكل دويلة ملك، فيما سمي عهد “ملوك الطوائف”.
واستمر ذلك الغزو إلى أن وصلوا إلى إمارة إشبيلية، وعملوا على إحراقها وإحراق كل القرى والمناطق المحيطة بها، كما حاصروا قلعة سرقسطة حصاراً شديداً.
وعندما كانت قلعة سرقسطة على وشك السقوط، وبدأ الخناق يشتد على ملوك الطوائف الذين كانوا يعيشون في البذخ والترف، قاموا بالاستنجاد بيوسف بن تاشفين أمير الدولة المرابطية، ليدافع عنهم ويقيهم شر ألفونسو السادس وحلفائه.
لم تكن مسألة الاستنجاد والاستغاثة بالأمير المرابطي محل إجماع من قبل ملوك الطوائف، لخشيتهم من تبعات هذه الفكرة على مُلْكهم.
وفي هذا الاستنجاد، خلَّد أمير إشبيلية المعتمد بن عباد كلمته التاريخية “رعي الجِمال عند ابن تاشفين خير عندي من رعي الخنازير عند ألفونسو”. في إشارة إلى أن العيش تحت حكم ابن تاشفين خير له من العيش تحت حكم ملك قشتالة ألفونسو السادس.
واستجاب ابن تاشفين، الذي تجاوز عمره حينها 70 عاماً، لنداء الاستغاثة الذي وجهه ملوك الطوائف، وجهز جيشاً ضخماً دخل به مدينة الجزيرة الخضراء التي كانت تحت حكم المعتمد بن عباد، فحصنها وجعلها قاعدة خلفية لقواته العسكرية.
وبدأ في تبادل الرسائل مع ملك قشتالة، ودعاه إما للإسلام وإما الاستسلام ودفع الجزية، لكن ألفونسو رفض ذلك، الأمر الذي دفع يوسف بن تاشفين إلى عبور البحر بجيوشه ودخول الأندلس.
وانضمت إليه جيوش بعض ملوك الطوائف استعداداً لمعركة “الزلاقة” الفاصلة التي جرت سنة 1086 ميلادية، وغيّرت تاريخ الأندلس ومددت حكم المسلمين هناك 4 قرون.
معركة الزلاقة
التقى الجيشان في سهل الزلاقة بإسبانيا، حيث كان يقود الجيش المرابطي المسلم الأمير يوسف بن تاشفين، في حين كان ملك قشتالة ألفونسو السادس يقود الجيش القشتالي المسيحي.
بدأت المعركة يوم 23 أكتوبر 1086م، وانتهت بعد عدة أيام بهزيمة ساحقة للجيوش القشتالية، وتمكن بذلك المسلمون من استرجاع مدينة بلنسية وبسط سيادتهم من جديد على الجزيرة الخضراء، التي كانت قد سُلبت منهم قبل ذلك.
ووضع يوسف بن تاشفين خلال هذه المعركة خطة محكمة، يقال إنه استلهمها من خطة الصحابي الجليل خالد بن الوليد في موقعة الولجة في فتوح فارس، بحيث عمل على تقسيم جيشه إلى 3 جيوش:
جيش المقدمة الذي ضم 15 ألف جندي، وكان يقوده المعتمد بن عباد.
جيش ثان كان خلف الجيش الأول وضم 11 ألف مقاتل، وكان على رأسه الأمير ابن تاشفين.
الجيش الثالث الذي كان بمثابة الحرس الخاص له، الذي قدر عدد عناصره بـ4 آلاف مقاتل من أمهر الرماة والمحاربين.
مكنت الخطة ابن تاشفين من استخدام عنصر المفاجأة، خاصة عندما دخل أرض المعركة بحرسه الخاص وباغتوا من الخلف جيش ألفونسو، الذي كان عدده يصل إلى 80 ألف مقاتل، وأصبح محاصراً بين جيش المقدمة بقيادة ملك إشبيلية المعتمد بن عباد وجيش المقاتلين الأشدّاء بقيادة ابن تاشفين من الخلف.
وهزموا بذلك وانكسرت شوكة الصليبيين، وأصيب ملك قشتالة ألفونسو السادس إصابة بليغة في رجله، ظلتّ تلازمه طوال حياته. وتقول الروايات إنه خرج فاراً من هذه المعركة الكبرى بـ500 مقاتل فقط من أصل 80 ألفاً، قُتل منهم نحو 24 ألفاً وأُسر الباقون، ولم يدخل معه طُلَيْطِلَة إلا 100 فارس.
بعد هذه الهزيمة، رفع ألفونسو الحصار عن العديد من الممالك في الأندلس، وفي الوقت نفسه عاد ابن تاشفين إلى المغرب بشكل مفاجئ بسبب وفاة ابنه وولي عهده أبي بكر، وترك وراءه نحو 3 آلاف مقاتل من جيشه تحت تصرف ملك إشبيلية المعتمد بن عبّاد.
الوفاة
توفي أمير الدولة المرابطية يوسف بن تاشفين سنة 1106م، عن عمر قارب 100 عام، بعدما عانى من المرض في آخر سنة من عمره، ودفن بمدينة مراكش المغربية، حيث يوجد قبره.
إعداد: نادر نايف محمد