منذ أن أعلنت الصين عن إنشاء أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي في عام 2017، كانت هناك تكهنات كبيرة حول مكان وجود قاعدتها التالية. وتماهى الافتراض السهل، مع العبارة الشهيرة للكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير، «كل العالم مسرح»، في إشارة إلى أنه يمكن للصين إقامة قواعد في أي مكان في العالم.
قبل الخوض في هذه الافتراضات أو غيرها، من المهم النظر إلى التكتيكات الأمنية للصين من خلال ربطها بمشروعها الاقتصادي الرائد مبادرة الحزام والطريق (BRI)، التي تتضمن مذكرات تفاهم وقعت مع 140 دولة وأطلق عليها اسم «مشروع القرن». وتستحضر مبادرة الحزام والطريق الذكريات التاريخية لطريق الحرير، التي سهلت التواصل والتجارة والتبادلات الثقافية بين الحضارات. في شكله الحالي، تم تصميم مبادرة الحزام والطريق لتعزيز السياسات الاقتصادية للصين وتحقيق أهداف سياستها الخارجية. وترتبط هذه الاستراتيجية بالنجاح الاقتصادي الصيني، والذي تحقق من خلال تطوير البنية التحتية. وتعد الخطة تكراراً لهذه الاستراتيجية الاقتصادية في الخارج. ومن خلال محاولة إنشاء طرق تجارية برية وبحرية تربط الصين بأوروبا، عبر آسيا (بما في ذلك الشرق الأوسط) وإفريقيا وما وراءها، بهذه الاستراتيجية تعتزم بكين مواصلة نموها الاقتصادي، خاصة في وسط وغرب الصين، فضلاً عن تحقيق النمو للبلدان الأخرى أيضاً.
وفي حين أن النسخة الأولى من مبادرة الحزام والطريق (2013 – 2018) كانت مشروعاً اقتصادياً غالباً، فإن النسخة الثانية من المبادرة تغلب عليها، وبنحوٍ متزايد الصبغة الأمنية، لأنها تزامنت مع «تضاؤل» النفوذ الغربي في جميع المجالات الثلاثة للقوة العالمية: الاقتصادية والدبلوماسية والدفاعية. ويُنظر إلى مبادرة الحزام والطريق على أنها أداة تستخدمها الصين لتحدي الهيمنة الأمريكية العالمية.
وجادل الباحث الصيني وانج جيسي بأن مبادرة الحزام والطريق كانت «ضرورة استراتيجية» بسبب سياسة إدارة باراك أوباما «التوجه إلى آسيا»، أو «إعادة التوازن» في السياسة الأمريكية باتجاه آسيا. وبالإضافة إلى ذلك، أشارت الصحيفة الرسمية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني (Qiushi) إلى مبادرة الحزام والطريق على أنها «استراتيجية».
والأهم من ذلك، ونظراً لأن العديد من طرق مبادرة الحزام والطريق معرضة لـ «عدم الاستقرار السياسي والتوترات الدينية والعرقية والبيئات القانونية الهشة والإجرام والتدهور البيئي والضغوط الاجتماعية»، وحتى الإرهاب العابر للحدود والمشاعر المعادية للصين، فمن المنطقي أن تعزز بكين الوجود الأمني لحماية مصالحها. في حين أنها تستخدم إلى حد كبير خدمات وكالات الأمن الخاصة، والتي توظف في الغالب أفراد «جيش التحرير الشعبي الصيني» المتقاعدين وأفراد الشرطة، فمن المحتمل أن تلجأ البحرية إلى إنشاء المزيد من القواعد مثل تلك الموجودة في جيبوتي.
خطاب استراتيجي فريد
في ذات الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى نشر قوتها العسكرية في الخارج، فإنها تستخدم مفهوماً استراتيجياً فريداً. فنظراً لأن «القاعدة العسكرية الخارجية» غالباً ما ترتبط ببناء القوى الإمبريالية قواعد لها على أرض أجنبية بغية الاستغلال، يفضل الخبراء العسكريون الصينيون استخدام مصطلح «نقطة القوة الاستراتيجية». ويعني المواقع التي «تقدم الدعم للعمليات العسكرية الصينية في الخارج، أو تعمل كقاعدة أمامية لنشر القوات العسكرية في الخارج».
وبالتالي، فإن قاعدة جيبوتي هي أول نقطة قوة استراتيجية خارجية للصين. ومن المثير للاهتمام أن الصين تروج أيضاً لمثل هذه القواعد باعتبارها مفيدة لأمن البلدان المضيفة، وتؤكد أن مثل هذه المواقع لن تُستخدم لإجراء عمليات هجومية، كما هو الحال في الغالب مع القواعد الخارجية لدول أخرى.
ونظرًا لأن خطة البحرية الصينية هي وجه المهمات العسكرية الصينية في الخارج، فإنها تقوم بأمرين: الأول، حماية خطوط اتصالاتها البحرية (SLOCs)، والتي تخشى أن تعطلها الولايات المتحدة في حالة نشوب صراع؛ والثاني، حماية مصالحها الخارجية، الأمر الذي يضع مبادرة الحزام والطريق في المقدمة. تتطلب كلتا المهمتين «نقاط تجديد» و»أشكالاً مختلفة من التواجد المحدود للقوة»، وهو ما تفي به نقاط القوة الاستراتيجية في الخارج.
ولا تعد خطة البحرية الصينية سوى عنصر واحد من خطة أكبر للصين. تحرص بكين أيضاً على تحويل جيش التحرير الشعبي إلى «جيش من الطراز العالمي» بحلول عام 2050 «لحماية سيادة الصين وأمنها ومصالحها التنموية». من بين مهام جيش التحرير الشعبي، يشير الكتاب الأبيض للدفاع لعام 2019 إلى «حماية المصالح الخارجية للصين» وينص صراحة على تطوير «المرافق اللوجستية الخارجية». تتضمن استراتيجية «الخروج» لجيش التحرير الشعبي الصيني استراتيجية الخدمة الجديدة للبحرية الصينية المتمثلة في «الدفاع عن البحار القريبة» (بحر الصين الجنوبي)، وحماية البحار البعيدة (المحيط الهندي). تشمل المهام الأخرى المدرجة «عمليات حماية السفن، والحفاظ على أمن السفن الشراعية، وتنفيذ عمليات الإخلاء في الخارج وحماية الحقوق البحرية».
في الوقت الحالي، تفوقت خطة البحرية الصينية على جيش التحرير الشعبي في إنشاء قاعدة خارجية أولى للصين في جيبوتي.
كم وأين؟
أياً كان المصطلح، قاعدة أو نقطة القوة الاستراتيجية، فإن الصين عادة ما تكون متحفظة بشأن خططها. لكن منافستها الرئيسية، الولايات المتحدة، أعلنت عن تقييمها الخاص الذي حدد الأهداف المحتملة للقواعد الصينية في مناطق بجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب آسيا وإفريقيا وغرب المحيط الهادئ.
ووفقاً للتقرير السنوي لوزارة الدفاع لعام 2020: «فضلاً عن قاعدتها الحالية في جيبوتي، من المحتمل جداً أن تدرس الصين بالفعل وتخطط لإنشاء مرافق لوجستية عسكرية إضافية في الخارج لدعم القوات البحرية والجوية والبرية». ثم يسرد التقرير مجموعة من البلدان التي «من المحتمل أن تأخذها الصين في الاعتبار»، بما في ذلك «ميانمار وتايلاند وسنغافورة وإندونيسيا وباكستان وسريلانكا والإمارات العربية المتحدة وكينيا وسيشيل وتنزانيا وأنغولا وطاجيكستان».
في حين أن معظم التكهنات تدور حول «جوادر» في باكستان كوجهة تالية لقاعدة صينية نظراً لضخامة استثماراتها في مبادرة الحزام والطريق، فإن بلداً آخر لم يتم إدراجه في القائمة الأمريكية، ولكنه على نفس القدر من الأهمية ألا وهو كمبوديا. تم الاتفاق بين الحكومتين الصينية والكمبودية في يوليو 2019 على أن يُنشىء أسطول الجيش الشعبي الصيني منشأة في «ريم» (Ream). في حين أن «ريم» يمكن أن تفي بمتطلبات «الدفاع عن البحار القريبة»، يمكن لجوادر تعزيز تكتيك «حماية البحار البعيدة».
كانت هناك أيضاً تقارير عن قاعدة عسكرية محتملة في ممر واخان في شمال غرب أفغانستان، والتي ترتبط بشكل جيد بتقارير عن موقع لجنود صينيين في شرق طاجيكستان، بالقرب من التقاطع الاستراتيجي لأفغانستان والصين وباكستان.
ووفقاً لتقرير البنتاغون لعام 2019، تشعر الدنمارك بالقلق إزاء اهتمام الصين بـ «طريق الحرير القطبي» في منطقة القطب الشمالي، والذي تضمن خططاً لإنشاء محطة أبحاث ومحطة أرضية للأقمار الاصطناعية، إلى جانب الاهتمام ببناء مطار وتوسيع أنشطة التعدين.
في استكشاف العوامل التي قد تؤثر في النهاية على قرارات الصين المستقبلية، تعتبر حالة جيبوتي مفيدة. كانت القاعدة الأولى في القرن الإفريقي تتويجاً لأول انتشار خارجي طويل الأمد للصين، وذلك كجزء من فرقة عمل لمكافحة القرصنة، في خليج عدن بدأت في عام 2008. وتشير الإحصاءات إلى أن 31 أسطولاً بحرياً صينياً رافقت 6600 سفينة بين عامي 2008 و2018 في خليج عدن والمياه قبالة الصومال. من بين هؤلاء 3400 أو 51.5% كانت سفناً أجنبية، وتم إنقاذ أكثر من 70 سفينة في خطر. يجب أن تُسكِت هذه الإحصائية المنتقدين الذين يجادلون بأن الصين لا تتحمل المسؤولية الدولية.
ونظراً لأن الانتشار في خليج عدن حدث لحماية المصالح الاقتصادية، فمن المحتمل أن تظل العوامل التجارية في صميم الاعتبارات الصينية عند تحديد المواقع المستقبلية. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن بعض العلماء الصينيين قد طرحوا نموذج «PEST»، الذي يلخص العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، للمساعدة في تحديد القواعد المحتملة. كما صرحت الحكومة أن الفرصة الدبلوماسية والمتطلبات الاستراتيجية الأوسع ستكون قضايا رئيسية في القرارات المستقبلية بشأن هذه المسألة. ولتحقيق أهدافها، من المحتمل أن تلجأ إلى وسائل متنوعة - «الشراء، والتأجير، والتعاون، لبناء قواعد خارجية أو مراكز حماية خارجية».
في عام 2017، قال مسؤول كبير من الرابطة الصينية للحد من التسلح ونزع السلاح: «ستبني الصين حوالي عشر قواعد أخرى … ونأمل أن يكون للصين قواعد في كل قارة، لكن هذا يعتمد على الدول التي ترغب في التعاون مع الصين».
وقال موظف آخر في أكاديمية العلوم العسكرية بجيش التحرير الشعبي في عام 2019 إن الصين ستفتح قواعد جديدة بشرطين، «يتم تحديد هذا الأمر بشكل أساسي من خلال ما إذا كانت هناك حاجة إلى قاعدة جديدة لمساعدة الصين على أداء المهام التي كلفتها بها الأمم المتحدة بشكل أفضل… ثانياً، يعتمد الأمر على موافقة الدولة التي يجب إقامة قاعدة جديدة على أرضها». وشدد المسؤول كذلك على أن الوظيفة الرئيسية لهذه المواقع هي توفير الدعم اللوجستي لوحدات جيش التحرير الشعبي في الخارج، وليس نشر القوات العسكرية الصينية في دول أخرى.
ووسط الافتقار إلى الوضوح بشأن قواعد محددة، تشير التكتيكات الحالية للصين إلى أنها يمكن أن تستهدف قواعد في البلدان التي تشارك فيها بالفعل في تطوير الموانئ البحرية. في عام 2018، شاركت الشركات الصينية في بناء وصيانة أكثر من 40 ميناء في حوالي 35 دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط والخليج. بينما تقوم الشركات الدنماركية والسويسرية والإماراتية ببناء وتشغيل موانئ في عشرات البلدان، بعضها أكثر من الصين، إلا أنها تعمل على أساس تجاري بحت. من ناحية أخرى، بالنظر إلى التطورات في جيبوتي وكمبوديا وباكستان، تتوقع الصين وجود ارتباط اقتصادي – سياسي – أمني مهم من خلال تطوير الموانئ.
إلى جانب الدفاع عن مصالح سلسلة التوريد الاقتصادية الخاصة بها، حدد الخبراء الصينيون خمس وظائف أخرى للمنشآت العسكرية الخارجية: الحرب، والدبلوماسية، والتغيير السياسي، وبناء العلاقات، والتدريب. ويمكن تحقيق ذلك من خلال المهام التي تتضمن الدعم اللوجستي لمكافحة القرصنة وعمليات حفظ السلام والمساعدة الإنسانية والإغاثة في حالات الكوارث، فضلاً عن العمليات العسكرية بخلاف الحرب، والتي تشمل إخلاء غير المقاتلين والإنقاذ في حالات الطوارئ.
تعتبر بكين أيضاً التوسع الدفاعي مهماً لأنها تشعر أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر تصادمية في محاولتها لكبح نفوذ الصين المتزايد وقوتها. يوضح الكتاب الأبيض لعام 2019 بوضوح أن الصين والولايات المتحدة أصبحتا قوتين عظميين متنافستين. ويشير إلى أنه على الرغم من أن جيش التحرير الشعبي لا يزال متخلفاً كثيراً عن الجيوش الرائدة في العالم، فإن قدرات الصين الدفاعية المتزايدة ستكون قادرة على تحدي الولايات المتحدة. ومع ذلك، هناك شيء واحد ينص عليه الكتاب الأبيض بشكل قاطع وهو أن الصين لن تسعى أبداً إلى الهيمنة أو التوسع أو زيادة مجالات النفوذ في سعيها للدفاع عن مصالحها الوطنية، مما يشير إلى أنها لن تتبع خطى القوى الاستعمارية الغربية.
الخاتمة
دعماً للتأكيد أعلاه، يقترح العلماء الصينيون تكتيكات دبلوماسية، خاصة في الشرق الأوسط، يمكن أن تساعد في تعزيز سياسة الأمن العالمية المتطورة لبكين. وتشمل هذه التكتيكات الوساطة للدفاع عن المصالح التجارية بدلاً من المصالح الأمنية، «إدارة» الصراعات بدلاً من «علاجها»، وتعزيز علاقات متناغمة بين الشركاء الاستراتيجيين للصين، وكثير منهم منقسمون بشدة ومنخرطون في أطراف متنازعة في حروب بالوكالة.
هذه الأفكار تخدم غرضين.. أولاً، تخفف الانتقادات الموجهة إلى بكين باعتبارها غير مهتمة وتضرب بأقل من ثقلها للمساهمة في استقرار الشرق الأوسط وأماكن أخرى. وبدلاً من ذلك، فإنها تصور بكين على أنها تدرس بجدية الخيارات المختلفة لزيادة المشاركة في الشؤون الإقليمية والعالمية. ثانياً، تروج للفكرة الصينية وللنهج الدبلوماسي المتوازن الذي يعتمد بشكل أكبر على الوساطة الحاذقة، بدلاً من أي شكل من أشكال التدخل الدبلوماسي أو العسكري العدواني.
بشكل عام، تعكس المناقشات في الصين محاولة بكين للانتقال من الأسلوب الغربي في إدارة التفاعلات الدولية، والقائم على «السياسة بين الدول» وتحويله إلى اقتراب الصين القائم على «سياسة بين الشبكات»، مع التركيز على «الاتصال» عبر مبادرة الحزام والطريق بدلاً من «السيطرة (الهيمنة)». قد يساعد هذا النهج الدقيق للصين، الذي يتضمن «أقصى قدر من الدبلوماسية» بدلاً من «أقصى ضغط»، في تهدئة التوترات في الشرق الأوسط والعالم بأسره.
» الدكتور ن. جاناردان
(زميل باحث أول، متخصص في العلاقات الآسيوية – الخليجية
بأكاديمية الإمارات الدبلوماسية(