ضخت كبرى الجيوش في العالم مئات الملايين من الدولارات في عمليات البحث والتطوير في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد، وذلك لتعزيز الاستفادة من هذه التقنية في عمليات التصنيع العسكري، والاستفادة من المزايا العديدة التي توفرها هذه التقنية الجديدة للجيوش.
والطباعة ثلاثية الأبعاد إحدى تقنيات “التصنيع بالإضافة”، إذ يتم إنشاء جسم مادي عن طريق ترسيب طبقات رقيقة من المواد، مثل السبائك الفلزية، أو أنواع من اللدائن البلاستيكية والبوليمرات، بعضها فوق بعض، بناء على وصف رقمي لتصميم المنتج. وتختلف هذه التقنية عن التصنيع بالإزالة التقليدية، والذي ينشئ المنتجات عن طريق إزالة المواد عبر الحفر، أو الخراطة من خامة صلبة .
يعود تاريخ تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى بداية الثمانينات من القرن العشرين، وتطورت تطوراً بطيئاً حتى عشر سنوات مضت، نظراً لخضوعها لقوانين حماية الملكية الفكرية الخاصة بشركة “ثريه ديه سيستمز” ومؤسسها تشاك هيل الذي ابتكر هذه التقنية.
ومع رفع الحظر، بدأت التقنية تشهد تطوراً متسارعاً، خاصة فيما يتعلق بتطوير ماكينات طباعة بتكلفة أقل، ففي السنوات الخمس الماضية فقط، تغيرت تكلفة الطابعات، فبعد أن كان سعر الطابعة يتجاوز 50 ألف دولار أمريكي أصبح سعرها الآن 1800 دولار فقط، بل إن بعضها يمكن الحصول عليه بأقل من 500 دولار.
كما حدث توسع في مجالات استخدامها، كالطب، والأجهزة التعويضية البديلة، ومحاكاة التماثيل الأثرية، والمنتجات الاستهلاكية والمنزلية، وحتى عمليات تشييد حوائط المنازل والسفن، وكذلك بعض الاستخدامات العسكرية.
التصنيع العسكري ثلاثي الأبعاد
بدأ استخدام هذه التقنية في التصنيع العسكري، ولكن بصورة محدودة حتى الآن، ويتم استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد في إنتاج محركات المقاتلات، وكذلك قطع غيار بعض الأسلحة، مثل الدبابات والغواصات، وتدرك العديد من دول العالم، وخاصة جيوش الدول الكبرى فوائد التصنيع ثلاثي الأبعاد، ولذلك اتجهت إلى وضع استراتيجيات وطنية لتنسيق الجهود الرامية للاستفادة من هذه التقنية الجديدة.
وبدأ الجيش الأمريكي في التوسع في استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، وتدخل مجلس التصنيع الدفاعي المشترك التابع لوزارة الدفاع في وقت سابق من عام 2021 لتنسيق كل ذلك في إطار استراتيجية موحدة لتوظيف التصنيع بالإضافة لتعزيز الاستعداد العسكري، وخفض التكاليف، وتقصير سلاسل التوريد، وتسريع الابتكار. وتدعو استراتيجية التصنيع بالإضافة الأولى للبنتاجون إلى دمج الطباعة ثلاثية الأبعاد في القاعدة الصناعية الدفاعية واستخدامها في جميع أفرع القوات المسلحة.
ويقوم الجيش الأمريكي حالياً بمراجعة أجزاء أنظمة الأسلحة لمعرفة الأجزاء التي يمكن إعادة تصنيعهاباستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد، خاصة تلك الموجودة في الأنظمة القديمة، مثل القاذفة الاستراتيجية “بي 52”. ويمكن توضيح فوائد التصنيع الثلاثي على النحو التالي:
1- خفض التكاليف ورفع الأداء: يرغب الجيش الأمريكي في طباعة هياكل ثلاثية الأبعاد للمركبات القتالية من قطعة واحدة. وتعاقد الجيش الأمريكي مع مؤسسة “أسترو أمريكا” (ASTRO America) غير الربحية للبحث والتطوير في أبريل 2021 للإشراف على تطوير أكبر طابعة معدنية ثلاثية الأبعاد في العالم لتصنيع هياكل من قطعة واحدة، والتي ستكون في النهاية تكلفتها أقل، وتزن أقل، كما أنها ستكون أسرع في الإنتاج، والأهم من ذلك، أنها ستكون أكثر قابلية لمواجهة الصدمات والهجمات المختلفة، خاصة مع تطوير تصميمات أفضل لها.
ولا تعد المركبات القتالية المصنوعة من قطعة واحدة بالأمر الجديد، فقد تم إنتاجها في السابق، وثبت أنها تتمتع بقدرة تحمل فائقة حتى مع انخفاض وزنها. وتمثل التحدي أمام التوسع في إنتاجها حينها، وهو ما يرتبط بأن إنتاجها باستخدام الأساليب التقليدية للتصنيع كان مكلفاً للغاية، كما أنه كان من الصعب إنتاجها على نطاق واسع.
ومع ظهور التصنيع بالإضافة، وإطلاق الجيش الأمريكي برنامج “هيكل بلا مفصل”، يمكن حل مشكلة إنتاج المركبات القتالية الأمريكية على نطاق واسع في المستقبل القريب. وسوف يؤدي نجاح نظام التصنيع ثلاثي الأبعاد في إنتاج مركبات مصنوعة من قطعة واحدة في زيادة قدرة المركبات على مقاومة أضرار الصدمات حتى مع انخفاض الوزن والتكلفة .
2- توفير الوقت: يمكن استخدام طابعة ثلاثية الأبعاد في تشييد مبانٍ كاملة بخرسانة سريعة الجفاف في غضون 36 ساعة فقط. فقد قامت قوات مشاة البحرية الأمريكية باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد من الشركة المصنعة “أيكون” (Icon) وذلك لبناء هيكل خرساني محصن، وقد بلغ من الاتساع قدراً أنه كان كافياً لإخفاء نظام إطلاق صواريخ متعدد مثبت على شاحنة.
وبالمثل، استغرق سلاح الجوي الأمريكي حوالي 16 أسبوعاً لإنتاج قطعة غيار لمقاتلة “إف 16″، غير أنه باستخدام تقنية الطباعة بالإضافة تم إنتاج قطعة الغيار المطلوبة في أسبوعين فقط . كما أنه عادة ما يستغرق بناء غواصة صغيرة حوالي 5 أشهر. أما الآن، وبفضل الطباعة ثلاثية الأبعاد، يمكن بنائها في 4 أسابيع فقط. وكشفت البحرية الأمريكية النقاب في 24 يوليو 2020، عن أول هيكل غواصة مطبوع بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد للجيش الأمريكي .
3- إنتاج قطع الغيار القديمة: يمكن استخدام الطابعة ثلاثية الأبعاد من أجل إنتاج قطع غيار المركبات والطائرات القديمة، التي تم إيقاف إنتاجها من قبل الشركة المصنعة لها. فمن أجل إنتاج قطع الغيار هذه، يستلزم الأمر إنفاق مبالغ مالية كبيرة قد تصل إلى آلاف الدولارات. ومع الطابعة ثلاثية الأبعاد، فإن تكلفة إنتاجها تتراجع بشدة.
ومن الأمثلة على ذلك قيام الجيش الأمريكي بطباعة قطع غيار للمروحية “بلاك هوك”، والتي يزيد عمرها على 41 عاماً، والقاذفة “بي 2 سبيرت” (B-2 Spirit)، إذ تعتزم وزارة الدفاع الأمريكية الحفاظ على هذه الآلات في الخدمة لعقد آخر على الأقل، ولذلك تحولت إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد لقطع الغيار. كما يجري حالياً استخدام نفس الأسلوب مع القاذفة الأمريكية “بي 52” .
4- إنتاج مكونات فريدة من نوعها: يتفق خبراء الصناعة على أن الطباعة ثلاثية الأبعاد قد غيرت القيود التي كانت مفروضة على التصميمات المبتكرة، إذ إن إمكانات التصميمات الجديدة المنفذة من خلال الطابعات ثلاثية الأبعاد تعد أعلى بكثير من إمكانات التصنيع التقليدي. ويرجع ذلك إلى أن طباعة المعادن تتيح إنشاء أشكال لا يمكن لعمليات تصنيع المعادن التقليدية أن تتطابق معها. وحتى الأجزاء الموجودة التي تتطلب ضم قطع متباينة يمكن صنعها كقطعة واحدة باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد.
وتتيح أحدث تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد في إنتاج مكونات لمجموعة واسعة من المعدات العسكرية، بصورة مبتكرة، والتي لا يمكن تصنيعها باستخدام طرق التصنيع التقليدي. ومثال على ذلك هو فوهة التزود بالوقود لشركة “جنرال ديناميكس”، إذ قامت الشركة بإنشاء فوهة وقود مطبوعة كقطعة واحدة، مما أدى إلى القضاء على جميع اللحامات الداخلية التي كانت سبباً في مشاكل مثل تسرب الوقود. وكانت النتيجة إنتاج فوهة وقود معقدة، والتي لا يمكن لأي طريقة تصنيع تقليدية إنتاجها.
5- تصنيع مكونات تتسم بالاستدامة: تمكن سلاح الجو الأمريكي من الطباعة ثلاثية الأبعاد لقطعة جديدة من التيتانيوم لمقاتلة “إف 22رابتور” الشبحية، ويأمل البنتاجون أن تكون هذه مجرد بداية، وأن يتم التوسع في إنتاج معدات إضافية بنفس الأسلوب.
ويلاحظ أن المكون الجديد المطبوع هو جزء صغير إلى حد ما، ويستخدم في قمرة القيادة، وكان يتم تصنيعه في الأصل من الألمنيوم، وغالباً ما يتم استبداله بنسبة 80% من الحالات أثناء الصيانة. وعلى عكس الجزء المصنوع من الألمنيوم، لن يتآكل الجزء المطبوع المصنوع من التيتانيوم، ويمكن أن يستمر طوال العمر المتبقي للمقاتلة الشبحية، وهو ما يقدم ميزة كبيرة. ويخطط الجيش الأمريكي، في حالة انتهاء الاختبارات للقطعة الجديدة، أن يتم التوسع في إنتاج معدات أخرى من المقاتلة الشبحية باستخدام نفس الأسلوب.
6- تعزيز التصنيع المحلي: كانت الولايات المتحدة تقوم بالاعتماد على شراء معدات الحماية الشخصية من الصين، والتي هيمنت على عملية تصديرها عالمياً، غير أنه مع انتشار تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في صناعة الدفاع، فإن هذا الأمر قد يساهم في إعادة إنتاج وتصنيع العديد من المكونات العسكرية إلى الولايات المتحدة من جديد، والتي كان في السابق تعتبر من المكلف للغاية إنتاجها، ويرجع الفضل في ذلك إلى الطابعات ثلاثية الأبعاد.
7- سرعة الاستجابة لأي تطورات مفاجئة: يمكن أن يساهم “التصنيع بالإضافة” في سرعة إنتاج أي معدات أو قطع غيار بصورة سريعة، خاصة لو كان خط إنتاجها قد تعرض للتوقف المفاجئ بسبب أي تطورات غير متوقعة، مثل تعرض المصنع المنتج لها لهجوم، أو توقف استيراد هذا المكون من الخارج لأي سبب من الأسباب .
قصور الطباعة بالإضافة:
على الرغم من الفوائد السابقة التي يمكن أن تحققها الجيوش من توظيف الطباعة ثلاثية الأبعاد في التصنيع، فإنها لاتزال تعاني من أوجه قصور رئيسية، كما أنها تزيد التهديدات التي تواجه الدول، ويمكن تفصيل أوجه القصور هذه والتهديدات في النقاط التالية:
1- صعوبة إنتاج بعض المكونات العسكرية: يلاحظ أن بعض المواد المطبوعة باستخدام طابعات ثلاثية الأبعاد لا تناسب في بعض الأحيان مستويات الحرارة المطلوبة لتطبيقات وزارة الدفاع، لذا فلا يمكن تعميمها في كافة عمليات التصنيع العسكري، ولذلك فإنه لا يزال هناك حاجة إلى انتظار حدوث تطور تكنولوجي في الطابعات ثلاثية الأبعاد، والتي تتيح إنتاج هذه المكونات التي تتحمل مستويات حرارية مرتفعة.
2- الاختراق السيبراني: تحتاج عملية الطباعة ثلاثية الأبعاد إلى وجود طابعات متصلة بشبكة متصلة بالإنترنت، أو حتى شبكة اتصال داخلية، وهو ما يعرضها للتهديد الإلكتروني. من المحتمل أن يتم اختراق هذه الشبكات بهجمات سيبرانية يصعب اكتشافها، والتي يمكن أن تؤثر على عملية تصميم الأجزاء ثلاثية الأبعاد، ولذلك من الضروري أن نقوم بتأمين مثل هذه الشبكات وتجنب أي ثغرات أمنية .
ويمكن أن يترتب على هذا الاختراق تغيير بعض التصاميم، ولو بصورة محدودة، وهو ما يترتب عليه إنتاج معدات عسكرية مثل الطائرات أو الدبابات، تعاني من أوجه قصور، أو خلل، وهو ما قد يترتب عليه دمارها في الواقع المادي . ناهيك عن إمكانية سرقة التصاميم العسكرية التي يمكن أن يتم إنتاجها.
3- إدارة التصميمات المعقدة: يهدف برنامج التصميم التحويلي “تراديز” (TRADES) التابع لـ “داربا” (DARPA) إلى تطوير الرياضيات والأدوات الحسابية اللازمة لإنشاء وإدارة التصميم المعقدة التي تحتاجها الطابعات ثلاثية الأبعاد.
ويتوقع أن تسمح تقنيات “تراديز” النهائية للمصممين بالتنقل بسهولة أكبر في مساحة التصميم لاكتشاف التصميمات المبتكرة المعقدة، ولكن القابلة للتحقيق، والتي تستفيد بشكل كامل من المواد الجديدة وأساليب التصنيع المتقدمة، مما يعرض في النهاية طريقاً للمضي قدماً لأنظمة وعمليات التصميم المستقبلية.
4- تهديد الجماعات الإرهابية: يمكن أن تقوم جهات إرهابية بسرقة تصاميم إنتاج بعض الأسلحة، وتقوم بإنتاجها من خلال الطابعات ثلاثية الأبعاد، واستخدامها في تنفيذ عمليات إرهابية. وعلى سبيل المثال، هناك مخاوف من أن يقوم الإرهابيون بسرقة تصاميم إنتاج طائرات مسيَّرة انتحارية، واستخدامها لتهديد حياة البشر ومهاجمة البنية التحتية الحيوية، وفقاً لأسوأ سيناريو.
وعلى الرغم من أنه كانت هناك مخاوف بتصنيع المسدسات باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، خاصة بعد قيام عشرات الآلاف من الأشخاص بتنزيل ملفات لتصاميم أجزاء البنادق والمسدسات المختلفة. فإن الباحثين في مؤسسة راند الأمريكية خلصوا إلى أنه من غير المحتمل أن تشكل الأسلحة المطبوعة تهديداًجديداً، إذ إن المسدسات المنتجة بهذا الأسلوب تعاني من بعض أوجه القصور في تصميمها، وهو ما يجعل أداءها غير موثوق فيه، ومن جهة ثانية، فإنه ليس من الصعب أو المكلف شراء بندقية احترافية، بصورة غير شرعية.
وفي الختام، يمكن القول إن “التصنيع بالإضافة” يعد أحد التطورات التي يشهدها التصنيع العسكري، وعلى الرغم من التحديات سابقة الذكر، فإنه يتوقع أن يساهم التطور التكنولوجي في التغلب عليها، بصورة تساهم في توسع اعتماد التصنيع العسكري بهذه التقنية مستقبلاً، خاصة مع الفوائد العديدة التي تحققها.
الدكتور/ شادي محمد (باحث في الشؤون العسكرية)