كان أحد التحولات المتسارعة لتسريع عملية إنتاج المقاتلات الجديدة هو «الهندسة الرقمية»، واستفادت الصين من هذا الأمر لمواكبة الولايات المتحدة بسرعة. فقد استغرقت الصين حوالي 30 عاماً لامتلاك مقاتلة «جيه 30»، والتي تشبه المقاتلة الأمريكية «إف 15»، بينما استغرقت حوالي عشر سنوات فقط لإنتاج المقاتلة «جيه 20»، والتي تشابه المقاتلة الأمريكية «إف – 22» من الجيل الخامس. وأحد العوامل الأساسية التي ساعدت على ذلك هو «الهندسة الرقمية»، إذ يمكن الآن تصميم الطائرات رقمياً، ليس فقط إنتاج المخططات والتصاميم الأولية، ولكن بناء نماذج ثلاثية الأبعاد، والتي يمكن محاكاة أدائها واختبارها، حتى قبل الشروع في الإنتاج، وهو ما يساعد كثيراً في تسريع عملية الإنتاج، وتقليل التكاليف.
وتسعى الولايات المتحدة للاستفادة من هذا التطور كذلك، إذ تضغط وزارة الدفاع الأمريكية على الشركات الدفاعية المتعاقدة معها، لتطبيق الهندسة الرقمية، من أجل تسريع عملية إنتاج المقاتلات الجديدة، وذلك لكي تستغرق وقتاً أقل، خاصة بعد أن استغرقت واشنطن 14 عاماً لإنتاج مقاتلة الجيل الخامس «إف 35».
تعريف الهندسة الرقمية
الهندسة الرقمية هي أكثر التطورات التكنولوجية ثورية في التصنيع العسكري. فبينما استخدم مهندسو الطيران أجهزة الكمبيوتر لعقود من الزمن للمساعدة في بناء الطائرات، فقد طورت شركات الدفاع مؤخراً أدوات النمذجة ثلاثية الأبعاد، والتي يمكنها نمذجة دورة الحياة الكاملة للسلاح، أي التصميم والإنتاج وتقديم الدعم الفني لها، وذلك بمستوى عالٍ من الدقة.
فالهدف النهائي هو أن تمتلك الدولة القدرة على بناء واختبار وتحسين جميع أنظمة القوات الجوية بالكامل في بيئات افتراضية قبل تصنيعها فعلياً، إذ سيتم تصميم كل أنواع الأسلحة بدءاً من الطائرات إلى أنظمة الأسلحة المختلفة عبر بيئات الحوسبة الخاصة بالقوات الجوية الأمريكية، مما يوفر الوقت والمال، وذلك من خلال العمل في عمليات المحاكاة الافتراضية، بدلاً من تصنيع النماذج الأولية، وتقييم أدائها في الواقع العملي، ثم إجراء تعديلات عليها لمواجهة أي أنواع من القصور، للوصول في النهاية إلى المنتج النهائي بعد تلافي كل عيوب التصميم الأولي.
وتسمح هذه العملية للشركات ليس فقط ببناء مجسم تفصيلي للطائرة، ولكن أيضاً نمذجة كيفية عمل خط الإنتاج باستخدام مستويات مختلفة من العمال، أو كيفية إجراء الصيانة للإصلاحات في المستودع. ويلاحظ أن هذه التقنية ليست جديدة، فهي مستخدمة بالفعل في الصناعات المدنية، وتحديداً من قبل شركات إنتاج السيارات، بهدف تطوير نماذج جديدة ومحسنة عن سابقتها، وبوتيرة سريعة، وبدأت تجد طريقها مؤخراً للتصنيع العسكري.
ومنذ أواخر العام الماضي، يسعى سلاح الجو الأمريكي لإقناع شركات الدفاع المتعاونة معه بتبني هذه الأسلوب، وتستغرب الصناعات الدفاعية الأمريكية الهندسة الرقمية، نظراً لأنهم يعملون على مدار عقود بالطرق التقليدية، أي تطوير نماذج أولية مادية للسلاح، مثل المقاتلة، ثم اختبار أدائها في الواقع العملي عدة مرات، للتأكد من خلوها من أي عيوب، ثم بدءالتصنيع. وأبدت هذه الشركات، حتى الأكثر قرباً من الجيش الأمريكي، قلقاً من تجريب هذه الطريقة الثورية، في حين تصر القوات الجوية الأمريكية على ضرورية التوسع في تطبيق الهندسة الرقمية.
وكشف مسؤولون أمريكيون أن قيادة العمليات الخاصة الأمريكية (USSOCOM) قد تستخدم الهندسة الرقمية لتصميم الجيل التالي من نموذج «الغاطسة القتالية الجافة» (Dry Combat Submersible). وأكد جيم سميث، المدير التنفيذي للاستحواذ في قيادة العمليات الخاصة الأمريكية أن النموذج التالي من «الغاطسة القتالية الجافة»، سيكون «مرشحاً رائعاً» لتطبيق الهندسة الرقمية عليه. وأوضح سميث أن مرحلة النماذج الأولية لبرنامج الغواصة التالية يمكن أن تبدأ في عام 2024، وذلك بعد الاتفاق على شكل النموذج الجديد لهذه الغواصة.
تجارب عملية
انتقلت المقاتلة المخصصة لأغراض التدريب «تيه – 7 إيه» (T-7A) من مجرد التصميم إلى أول رحلة خلال ثلاث سنوات، وذلك نتيجة لكسر نموذج التصنيع التقليدي للمقاتلة، ومكنت هذه العملية في النهاية من إنتاج مقاتلة تتمتع بميزات تتناسب مع الطائرات المقاتلة من الجيل الرابع والخامس.
ومقارنة ببرامج تطوير الطائرات التقليدية، فقد تفوقت «تي – 7 إيه» على طريقة إنتاج المقاتلات التقليدية في ثلاثة جوانب رئيسية، وهي تحسين الجودة الهندسية بنسبة %75، وخفض ساعات التجميع بنسبة %80، وأخيراً تقليل وقت تطوير البرامج والتحقق منها بنسبة %50.
وبعد ذلك، يريد سلاح الجو الأمريكي استخدام الهندسة الرقمية لبرنامجي أقمار صناعية سريين وربما نظام أسلحة تكتيكية، في 23 سبتمبر الحالي. ويتم تطبيقه بالفعل على برنامج الردع الاستراتيجي الأرضي، والذي يهدف إلى استبدال الصواريخ العابرة للقارات «مينتمان 3» بأخرى أحدث.
وقامت شركة «ريدوير» الأمريكية (Redwire)، والعاملة في قطاع الفضاء الخارجي، يوم 19 أغسطس الماضي، بافتتاح منشأة للهندسية الرقمية، حيث يمكن للوكالات الحكومية وشركات الطيران وضع نماذج أولية للأجهزة وتصميم الهياكل للأجهزة الفضائية، وتسمى المنشأة «مختبر هيبرون لمحاكاة الفضاء العملياتي» (Hyperion Operational Space Simulation Laboratory)، والذي هو عبارة عن بيئة افتراضية تماماً، يمكن الوصول إليها من مواقع بعيدة. وتأمل «ريدوير» في جذب العملاء الحكوميين الذين يرغبون في تجربة الأنظمة ووضع نماذج أولية لها في بيئة رقمية تقوم بتجريب أداء الأجهزة والبرامج افتراضياً، كما لو أنه يتم تجريبها في العالم الحقيقي، وهي تقنية تُعرف باسم «التوأم الرقمي» (digital twin).
ويلاحظ أن تطوير الأقمار الصناعية باستخدام تقنية التوأم الرقمي يجعل من السهل ترقية الأنظمة المستخدمة في الأقمار الاصطناعية ببرامج جديدة. وعلى سبيل المثال، فإنه بمجرد تشغيل مركبة فضائية، وكانت الشركة المصنعة ترغب في إجراء أي تعديلات على البرنامج المستخدم في توجيه القمر، أو ربما إضافة برنامج تابع لشركة أخرى، فيمكن القيام بذلك على الأرض باستخدام «التوأم الرقمي»، قبل أن يتم استخدام البرنامج بالفعل على المركبة الفضائية.
وقد منح مختبر أبحاث القوة الجوية الأمريكية في العام الماضي شركة ريدوير عقداً لبناء بيئة تشغيلية لمعمل هندسي هجين لنمذجة مفاهيم العمليات العسكرية، مثل القيادة والسيطرة المشتركة لجميع المجالات القتالية (Joint All-Domain Command and Control)، وهي مبادرة البنتاجون لربط أجهزة الاستشعار ومشاركة البيانات عبر كافة أسلحة الجيش الأمريكي. ويمكن أن يساعد معمل الهندسة الرقمية في محاكاة المفاهيم المعقدة مثل القيادة والسيطرة المشتركة لجميع المجالات القتالية، وذلك قبل تجريبها في الواقع العملي.
فوائد تصنيعية واسعة
يمكن إجمال فوائد التصنيع العسكري بالهندسة الرقمية على النحو التالي:
1 خفض التكاليف: يتوقع أن تسفر هذه الطريقة في التصنيع في توفير مليارات الدولارات مقارنة بطرق التصنيع التقليدية. وتشير التقديرات الأمريكية إلى أن كل دولار ينفقه الجيش الأمريكي على إنتاج الأسلحة، يذهب 70 سنتاً منها لعمليات التحديث، في حين أن 30 سنتاً يخصص لعمليات التصنيع. وسوف تسهم الهندسة الرقمية في توفير تكاليف التطوير، نظراً لأن النماذج الأولية سوف يتم بناؤها واختبارها افتراضياً، وليس في الواقع العملي.
2 تسريع عملية الإنتاج: يلاحظ أن مقاتلات القرن العشرين اتسمت بالسرعة الكبيرة في تطويرها، فقد كانت تستغرق نحو خمس سنوت فقط، في حين أن مقاتلات الجيل الخامس قد استغرقت وقتاً أطول، فعلى سبيل المثال، استغرق بناء المقاتلة الأمريكية «إف 35» من الجيل الخامس نحو 14 عاماً، ولذلك، يؤمن الجيش الأمريكي بأنه من خلال الهندسة الرقمية، فإنه سيستطيع أن يقلص عملية إنتاج المقاتلات الجديدة. وقد تحقق هذا فعلاً، حينما صدم ويل روبر، مساعد سكرتير القوات الجوية للاستحواذ والتكنولوجيا والخدمات اللوجستية، مجتمع الطيران العسكري في 15 سبتمبر 2020، عندما أعلن في مؤتمر صناعي أن سلاح الجو الأمريكي قد أنتج نموذجاً أولياً لمقاتلة الجيل التالي، وقام بتجربة التحليق بها سراً. وعزا التطور السريع لبرنامج «الجيل القادم للهيمنة الجوية»، والذي يهدف إلى بناء الجيل القادم من المقاتلات، إلى أساليب الهندسة الرقمية.
وأكد جايل جيه ميلر، كبير مهندسي «تيه – 7 إيه» (T-7A) في شركة بوينج الأمريكية، أن الجداول الزمنية السابقة للتطوير كانت تستغرق حوالي 10 سنوات، أما الآن، فإنه يمكن تطوير المقاتلات في ثلاث سنوات فقط، بمساعدة الهندسة الرقمية.
ويرى ميلر أنه «لا يمكن أن تكون هناك دورة إنتاج تستغرق عشر سنوات، لأنه بصراحة، فإن التهديد سوف يكون قد تغير، وذلك بحلول الوقت الذي يتم فيه الانتهاء من المنتج الجديد».
3 القدرة على منافسة الخصوم: هناك اعتقاد سائد لدى الدوائر العسكرية الأمريكية بأن انتشار المعرفة والتكنولوجيا على نطاق واسع يُقوِّض الميزة التنافسية التي كانت الولايات المتحدة تتمتع بها تاريخياً في مواجهة خصومها، كما أن خصوم الولايات المتحدة، مثل روسيا والصين، يتجهون للإنفاق بصورة أكبر على البحث والتطوير العسكري.
وترى واشنطن أن أحد الأساليب التي سوف تمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوقها التكنولوجي في مجال تطوير الأسلحة هو الاعتماد على الهندسة الرقمية. وفي هذا الإطار، ترى كريستين بالدوين، نائبة مساعد سكرتير القوات الجوية للعلوم والتكنولوجيا والهندسة، أن «التحول» الرقمي «أمر حاسم للقدرة على الحفاظ على ميزة الولايات المتحدة التنافسية في مواجهة الأقران والخصوم».
4 تسريع الإنتاج العسكري أثناء الحرب: تعتقد القوات الجوية الأمريكية أن الحصول على أسلحة مصممة رقمياً بالكامل يمكن أن يؤدي إلى تسريع عملية التصنيع أثناء الحرب، وذلك من خلال تسهيل قيام شركات الدفاع المختلفة على القيام بأعمال الإنتاج والترقية. وتثير هذه المحاولات ذكريات الحرب العالمية الثانية، عندما اعتمدت الولايات المتحدة على شركات صناعة السيارات الأمريكية لبناء قاذفات ودبابات ثقيلة. ويأمل المسؤولون في القوات الجوية أن الدفع نحو تصميم وتصنيع الأسلحة الرقمية سيسمح لهم بتحديث الأسلحة الجديدة بسرعة والحفاظ على تنافس الشركات على أعمال التحديث خلال وقت استخدام السلاح في الجيش الأمريكي.
تحديات التقنية الجديدة
أحد التحديات الرئيسية أمام تطبيق الهندسة الرقمية في المجال العسكري هو الأمن السيبراني. فقد كانت الهندسة العسكرية التقليدية تعطي الأولوية لأمن بيانات المشروع، وذلك عبر إبقاء هذه المعلومات الهندسية بعيداً عن التداول من خلال أي شبكة للإنترنت. وعلى النقيض من ذلك، فإن الهندسة الرقمية غالباً ما تتطلب تخزيناً سحابياً للمعلومات، حتى يمكن للشركات العسكرية المتعاونة مع الجيش والعاملين الآخرين الذين لا يعملون بشكل مباشر مع الحكومة الفيدرالية الوصول إليها.
وسوف يشكل هذا الأمر تحدياً كبيراً، حيث إن توظيف الهندسة الرقمية سوف يكون بمثابة منعطف رئيسي للجيش، الذي عادة ما يعطي الأولوية لنقل التصميمات العسكرية مادياً، فضلاً عن فرض حراسة شديدة عليها. ولذلك، من المحتمل أن يكون الحفاظ على أمن البيانات في التخزين السحابي أحد التحديات الكبيرة. وسيحتاج الجيش الأمريكي إلى تأمين البيانات والتصاميم الهندسية من الهجمات التي يشنها مجرمو الإنترنت والجهات الحكومية الساعية للتجسس على الولايات المتحدة وسرقة البيانات الحساسة المتعلقة بالتصميمات الجديدة. وفي الوقت نفسه، سيحتاج أيضاً إلى أن يتم توفير إجراءات الحماية بشكل كافٍ للمقاولين العاملين مع الجيش في مشروع معين.
وفي الختام، يمكن القول إن تكنولوجيا «الهندسة الرقمية» سوف تفتح الباب أمام ما يسمى «القرن الرقمي»، والذي يتم فيها سرعة بناء الأسلحة الجديدة، بصورة تفوق المعتاد، وبتكاليف أقل، وهو تطور ثوري بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
د. شادي عبدالوهاب