شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في يونيو 2022، على أن «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» باتت تلعب دوراً مهماً للغاية، ودورها يزداد في هذه المرحلة، ومؤكداً في حديثه مع نظيره البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، أهمية حشد جهود بلدان المنظمة. قائلاً «إنه لا ينبغي أن تواجه روسيا وحدها مساعي توسيع حلف شمال الأطلسي»، وهو ما يعكس محاولة روسيا إحياء حلف عسكري مناهض للناتو، خاصة بعد طلب فنلندا والسويد الانضمام إلى الحلف، وهو ما يثير التساؤل حول فرص نجاح موسكو في إقامة حلف عسكري موازن لحلف الناتو.
أنشأت موسكو «حلف وارسو» في عام 1955 كحلف عسكري، وذلك للرد على تأسيس واشنطن حلف شمال الأطلسي، أو ما يعرف باسم حلف الناتو، وسرعان ما تفكك الحلف في فبراير 1991، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. ومنذ ذلك الحين، سعت روسيا لتأسيس حلف عسكري بديل، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1 - تأسيس «معاهدة الأمن الجماعي» : وقعت كومنولث الدول المستقلة، وهو نادٍ فضفاض لدول ما بعد الاتحاد السوفييتي على تأسيس «معاهدة الأمن الجماعي» في عام 1992، أي بعد انهيار حلف وارسو بعام. وقد دخلت المعاهدة حيز التنفيذ بعد عامين، أي في عام 1994.
وتتألف المعاهدة من أرمينيا وجورجيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأذربيجان وأوزبكستان. وكان الهدف منها المساعدة في تنسيق السياسات العسكرية بين دول الاتحاد السوفييتي السابق. وفشلت المبادرة في تحقيق أي تكامل عسكري حقيقي، فقد اختار ثلاثة من الأعضاء التسعة، وهم أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان، الانسحاب من المعاهدة في عام 1999، أثناء تجديدها، لتتراجع عضويتها إلى ست دول فقط.
2 - تفعيل «منظمة معاهدة الأمن الجماعي»: مع صعود فلاديمير بوتين إلى الرئاسة الروسية في 1999، بدأ الكرملين في اتخاذ خطوات عملية لتحديث المنظمة وتقويتها. وشمل ذلك منح معاهدة الأمن الجماعي وضع «منظمة إقليمية دولية»، وتغيير اسمها إلى معاهدة منظمة الأمن الجماعي، كما تمت زيادة التدريبات العسكرية والتكامل بين الدول الأعضاء وإنشاء قوات الرد السريع الجماعية التابعة للمنظمة في عام 2009، والتي تهدف إلى إنجاز المهام ذات الطبيعة العسكرية والخاصة». ويلاحظ أن المنظمة لم تتمكن من القيام بأي عمليات عسكرية رئيسية خلال هذه الفترة، وهو ما يرتبط بصورة أساسية بتراجع التهديدات الأمنية في محيطها المباشر، فضلاً عن الانشغال الأمريكي بأفغانستان، غير أنه في أعقاب الانسحاب الأمريكي من هناك في منتصف عام 2021، بدأت روسيا في القيام بدور أمني متزايد خارج حدودها، وهو ما وضح في واقعتين أساسيتين، ويتمثل أولاهما في التدريبات العسكرية بين روسيا وأوزبكستان وطاجيكستان في أغسطس 2021، والتي تجرى في ميدان طاجيكي للتدريب قرب الحدود مع أفغانستان، وتهدف، وفق عسكريين روس، إلى تعزيز التنسيق بين قوات البلدان الثلاثة لمواجهة التهديدات الجديدة التي قد تنجم عن انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان في سبتمبر2021.
وعلى الرغم من أن هذه التدريبات قد تمت خارج إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي، غير أنها كانت مؤشراً على أن موسكو تسعى لتعزيز دورها الأمني في المنطقة عقب الانسحاب الأمريكي منها، وتقديم نفسها على أنها الضامن الأمني الرئيسي، وهو ما نجح فيه الكرملين بدرجة كبيرة، كما أنه من جهة أخرى، فإن كلاً من موسكو وطاجيكستان أعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو ما يعني أن دور المنظمة يمكن أن يزداد خلال الفترة المقبلة، سواء فيما يتعلق بزيادة عدد الأعضاء المنضمين لها، أو من خلال توسيع أدوارها.
أما ثانيهما، فتتمثل في إرسال موسكو لقوات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتي تشكلت بالأساس من قوات روسية، إلى كازاخستان، في 6 يناير 2022، وذلك لدعم الرئيس الكازاخي قاسم توكاييف، في مواجهة الاحتجاجات الحاشدة، التي تطورت لأعمال شغب واسعة في يناير 2022.
ووفقاً للمادة الرابعة من ميثاق منظمة معاهدة الأمن الجماعي، لا ترسل المنظمة القوات إلا لمساعدة دولة عضو تتعرض أراضيها أو سيادتها للتهديد من قبل قوة خارجية. وعلى الرغم من أن هذه الاحتجاجات الشعبية لا تستوفي الشرط السابق، فإن الرواية الروسية كانت تقوم على أن ما شهدته البلاد لم يكن سوى ثورة أخرى من الثورات الملونة، والتي تورطت فيها عناصر داخلية وخارجية. وتتمثل العناصر الداخلية في الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف.
أما القوى الخارجية المتورطة في هذه الأحداث، فتمثلت في الولايات المتحدة، فقد اندفعت وسائل الإعلام الغربية لتصوير ما جرى في كازاخستان على أنه انتفاضة شعبية ضد الفساد، فقد كتب السفير الأمريكي السابق لدى كازاخستان ويليام كورتني عبر «تويتر» أن «شعب كازاخستان يعلم أن هذه انتفاضة شعبية ضد الحكم الاستبدادي الفاسد، وليس عملاً عدوانياً من قبل عصابات إرهابية مدربة بالخارج»، وذلك رداً على إعلان السلطات الكازاخية القبض على جماعات إرهابية شاركت في الهجوم على منشآت حيوية في كازاخستان أثناء الاحتجاجات العنيفة.
وأياً كان الأمر، فإن الأمر المؤكد هو أن القوات الروسية، البالغ عددها حوالي 2500 جندي، تمكنت من استعادة الاستقرار في فترة زمنية لم تتجاوز الأسبوع الواحد، إذ شرعت القوات الروسية في الانسحاب من كازاخستان بحلول 13 يناير، وذلك بعدما تمكنت من القضاء على الاضطرابات، واعتقال بعض العناصر الرئيسية المحرضة على العمليات التخريبية، سواء تمثلت في جماعات إرهابية، أو بعض قيادات جماعات الجريمة المنظمة. ومن جهة أخرى، فإن روسيا تتمتع بشعبية طاغية في كازاخستان، إذ أن 81 % من الشعب الكازاخي كان ينظر إلى روسيا باعتبارها دولة صديقة يمكن الاعتماد عليها، في حين أن الولايات المتحدة والصين لا تتمتع بهذه الشعبية. ولكن الدلالات الاستراتيجية الأعمق للتدخل الروسي في كازاخستان تحت مظلة منظمة معاهدة الأمن الجماعي تتمثل في أن موسكو، وليس واشنطن، باتت هي الضامن الأمني الرئيسي لأمن دول آسيا الوسطى، خاصة الدول الأعضاء في المنظمة.
3 - اجتماع المنظمة أثناء الحرب الأوكرانية : قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 16 يونيو 2022، أي بعد مرور أكثر من شهرين على اندلاع الحرب الأوكرانية، إن منظمة معاهدة الأمن الجماعي تلعب دوراً مهماً للغاية في تحقيق الاستقرار في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي، معرباً عن أمله في أن تزداد قدراتها ونفوذها.
وجاءت هذه التصريحات على هامش استضافة موسكو، في نفس اليوم، قمة لزعماء دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، حيث من المقرر أن يبحثوا تحسين إمكانات المنظمة في حفظ السلام التابعة للمنظمة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون العسكري بين أعضائها. وتكشف تصريحات بوتين، وكذلك الأهداف المعلنة للاجتماع عن رغبة موسكو في رفع مستوى التعاون العسكري بين الدول الأعضاء لكي يصبح حلفاً عسكرياً قادراً على مواجهة التهديدات النابعة من حلف شمال الأطلسي. وربما جاء موقف الكرملين بشكل أكثر وضوحاً على لسان الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، فقد خاطب القمة الأخيرة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي قائلاً إنه «بدون حشد سريع لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في جبهة موحدة سوف تتضرر كل بلدانها». وزاد: «لو أننا منذ البداية تصرفنا على الفور كجبهة موحدة ما كانت لتفرض هذه العقوبات الجهنمية ضدنا، ولا ينبغي لروسيا أن تواجه محاولة توسيع الناتو وحدها»، لافتاً إلى أن الغرب يشن عدواناً هجيناً واسع النطاق ضد بيلاروسيا وروسيا. كما انتقد لوكاشينكو المنظمة لافتقارها إلى التضامن مع روسيا وبيلاروسيا، إذ إن أعضاءها استسلموا للضغوط الغربية وفشلوا في دعم الدولتين في وقت الحاجة، وهو ما يؤشر على رغبة الكرملين على الوقوف صفاً واحداً في مواجهة الغرب، وإن لم يكن عسكرياً، فسياسياً واقتصادياً، وذلك لرفع التكاليف الاقتصادية للعقوبات الغربية ضد موسكو.
أهداف موسكو
من الواضح أن الجهود الروسية لإحياء تحالف عسكري في هذا التوقيت يرتبط بالصراع الأكبر بين موسكو وواشنطن، والذي تجري أحد فصوله على الأراضي الأوكرانية. وبمراجعة التصريحات الرسمية الصادرة من الدول الأعضاء الأخرى في المنظمة، يتضح أن موسكو لم تنجح في التأثير على مواقفها، وبصورة تدفعها لتبني نفس المواقف الروسية من الحرب الأوكرانية، أو حتى الإعلان عن تطوير المنظمة بصورة ترضي الكرملين. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يتوقع أن تواصل موسكو جهودها لتطوير المنظمة، خاصة بعد انتهاء الحرب الأوكرانية. ويمكن القول إن الأهداف الروسية من إعادة تفعيل معاهدة منظمة الأمن الجماعي تتمثل في التالي:
1 - الرد على تمدد الناتو : انضمت جميع دول أوروبا الشرقية الأعضاء السابقين في حلف وارسو إلى حلف الناتو، حيث انضمت بولندا وجمهورية التشيك والمجر في عام 1999، وفي عام 2004 سلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا، وألبانيا في عام 2009. ولم يقتصر هذا الأمر عند هذا الحد، بل اتجهت فنلندا والسويد، في منتصف 2022، لطلب الانضمام إلى حلف الناتو، وذلك في محاولة من جانب واشنطن لرفع تكاليف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، على الأقل من المنظور الجيوسياسي، أي الزعم بأن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والتي هدفت إلى منع انضمامها إلى حلف الناتو، قد ترتب عليها تداعيات سلبية تمثلت في انضمام دولتين أخريين إلى الحلف.
2 - التهرب من العقوبات : تخشى الدول الغربية من أن تستغل موسكو علاقاتها الوطيدة بالدول الأعضاء في المعاهدة للتهرب من العقوبات الغربية. وهناك عدد من المؤشرات على ذلك، منها تقدير بعض التقارير الأوروبية أن هناك زيادة بمقدار عشرة أضعاف في عدد الشركات الروسية المسجلة في كازاخستان، فقد تم تسجيل نحو1348 شركة روسية جديدة في الفترة من مارس وحتى مايو، فضلاً عن تسهيل الحكومة الروسية الاستيراد من الخارج بإذن الاستيراد بالتوازي، أي بدون إذن من مالك الملكية الفكرية، وهو ما يقنن فعلياً تهريب البضائع الأجنبية.
كما يمكن للدول الأعضاء في منظمة المعاهدة تقديم المساعدة العسكرية الفنية للاتحاد الروسي سراً، من خلال قنوات التعاون العسكري التقني القائمة. وتعد كازاخستان من أكثر الدول المرشحة للعب هذا الدور، وفقاً للتقديرات الغربية، وذلك بالنظر إلى أنها غير خاضعة للعقوبات الغربية، كما تسيطر الدولة الروسية على العديد من المجمعات العسكرية والصناعية الواقعة على أراضي كازاخستان، والتي لا تزال تعمل بكامل طاقتها ولا تتأثر بالعقوبات الغربية.
وتتمثل أحد الأمثلة البارزة في قاعدة بايكونور الفضائية، والتي تؤجرها كازاخستان لروسيا، إذ تعمل بايكونور كمنصة تطوير رئيسية لشركة الفضاء الروسية روسكوزموس، والتي تدعم الصناعات الفضائية والعسكرية الروسية بشكل مباشر، والتي لا تخضع لعقوبات غربية، حتى الآن.
كما تقوم شركة كازاخستان الهندسية، وهي شركة عسكرية مملوكة للدولة، بمساعدة صناعة الدفاع الروسية. وبالإضافة إلى ذلك، قد يكون لدى كازاخستان وروسيا فرصة لتعزيز التعاون في صناعة السيارات، لا سيما في تطوير المكونات وقطع الغيار. تشهد كازاخستان زيادة في إنتاج السيارات وتصنع العديد من العلامات التجارية الروسية لسيارات الركاب (لادا) والمركبات التجارية، ونظراً للاحتياجات العسكرية الروسية لحربها المستمرة في أوكرانيا، يسعى الكرملين إلى الاستفادة من هذه المشاريع للوصول إلى المعدات وقطع الغيار وأدوات تكنولوجية معينة لا تستطيع روسيا توفيرها بشكل مباشر بسبب تأثير العقوبات.
3 - توسيع عضوية المنظمة : أكد الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ستانيسلاف زاس، أن منظمته، ومنظمة شنجهاي للتعاون، المهيمن عليها من الصين، تتشارك في العديد من التقييمات والرؤى حول الأمن، وخاصة رفض توسع حلف الناتو، ولذلك، فإنه قد يكون هناك توجه لتعزيز التعاون بين الصين والمنظمة.
وهناك عدد من العوامل التي قد تدفع في هذا الاتجاه، أبرزها تصاعد التعاون العسكري الروسي – الصيني، والذي اتخذ عدة أبعاد، خاصة القيام بمناورات وتدريبات عسكرية مشتركة، ومن ذلك قيام مقاتلات استراتيجية صينية وروسية بطلعات جوية مشتركة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، في 24 مايو، تزامناً مع قمة لقادة دول التحالف الرباعي للحوار الأمني «كواد» في طوكيو، وهي القمة التي حضرها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وهدف من خلالها إلى التنسيق بين الدول الآسيوية لتأسيس تحالف لتطويق الصين.
ومن جهة أخرى، فإن مشاركة كوريا الجنوبية واليابان في اجتماعات الناتو في مدريد في يونيو 2022، فضلاً عن حديث كوريا الجنوبية عن الدخول في برنامج تعاون جديد بين كوريا الجنوبية وحلف الناتو في النصف الأخير من هذا العام، يؤشر إلى زيادة انخراط الناتو في قضايا الأمن لجنوب شرق آسيا، وهو ما يعني معه إمكانية توظيف حلف الناتو لكبح التمدد الصيني، وهو الهدف الأمريكي المعلن من وراء تأسيس تحالفي أوكوس والكواد، ولا شك أن مثل هذا التطور قد يدفع الصين إلى تعزيز التعاون العسكري مع روسيا، خاصة مع دعم واشنطن لمساعي تايوان للانفصال عن الصين.
وفي الختام، يمكن القول إن روسيا لم تتمكن من تحقيق كامل أهدافها بتفعيل وتطوير منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وذلك للرد على توسع حلف الناتو، قرب حدودها، غير أن الجهود الروسية لم تتوقف، كما أن هناك اتهامات للغرب بأن بعض دول المنظمة متورطة في مساعدة روسيا في التهرب من العقوبات الغربية. ولاشك أن الدول الغربية سوف تكون حذرة من فرض أي عقوبات مباشرة على هذه الدول، نظراً لأن مثل هذه العقوبات سوف يدفع هذه الدول للتعاون بشكل أكبر مع موسكو، وهو ما لا تريده الدول الغربية، ومن جهة ثانية، فإن استمرار التصعيد الأمريكي ضد روسيا والصين سوف يدفعهما للتعاون بشكل أكبر معاً، وتطوير آليات مؤسسية للتعاون في مواجهة التهديدات الغربية لأمنهما ومصالحهما القومية.
» د. شادي عبدالوهاب
(باحث عسكري واستراتيجي(