التنافس بين السلاح والسلاح المضاد كان وما زال يشكل السمة الأساسية الغالبة في تاريخ الصراعات والحروب، فبينما تتطور تقنيات الكشف والتحديد، تتطور بالجهة المقابلة تقنيات الإخفاء والتمويه، وما لا تستطيع أن تراه لا تستطيع إصابته، وعلى مر التطور التقني العسكري حدث تطور كبير في تقنيات التخفي والتمويه.
وقد يعتقد بعض الناس أن التمويه العسكري سهل، ما عليك سوى وضع أشكال غريبة بدرجات اللون الأخضر أو البيج أو الأزرق أو الرمادي على الأجهزة أو الملابس، لكن التمويه اليوم أكثر تعقيداً من ذلك لأنه يجب إخفاء المعدات والأشخاص ليس فقط عن أعين العدو، ولكن أيضاً عن الكاميرات والرادارات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء والذكاء الاصطناعي. تعمل الجيوش والصناعات الدفاعية على تقنيتي تمويه منفصلتين تماماً، الأولى: ثابتة، مثل الطلاء أو المنسوجات التي لا تتغير بمجرد تطبيقها، والثانية: الديناميكية، والتي تتكيف في الوقت الفعلي مع بيئتها. أثبتت الدروس المستفادة من ساحات القتال الحديثة أنه يمكن تدمير الدبابات من مسافات قريبة بشكل كبير، مما يعني أن القدرة على إخفائها أمر حيوي للحصول على ميزة الفوز. لذلك يكمن الهدف من التمويه هو دمج الشيء مع خلفيته، للقيام بذلك، نحتاج إلى إخفاء الشكل واللمعان والظل وإنشاء مخطط تمويه للدبابة، يصعب على كل من البشر وأدوات الاستكشاف التي تعمل بالذكاء الاصطناعي اكتشافها، وبالتالي خداع العدو ومنح الدبابة المموهة ميزة.
التجربة البريطانية: تمويه رقمي لإخفاء دبابة تشالنجر 2
أحد مفاتيح النجاح في الحرب هو التعلم من التجربة والتكيف مع نتائجها. حدث هذا عندما زار فريق من وحدة التجارب المدرعة والتطوير في الجيش البريطاني (ATDU) وحدة الدبابات البريطانية في إستونيا لدراسة تجربتها في حرب الشوارع والتعلم من الدروس المستفادة التي كانت أهم نتائجها الحاجة الماسة للاختباء والخداع والبقاء على قيد الحياة، خاصة أن التحليل العملياتي أشار إلى أنه في ساحة القتال، يتم تدمير الدبابات من مدى قصير بشكل مفاجئ وأن الحفاظ على قدرات الفوز في المعركة أمر حيوي للنجاح.
وبينما كان يعُرض على وحدة التجارب المدرعة والتطوير نظام ذكاء اصطناعي يمكنه تحليل الصور من أجهزة الاستشعار، ثم التعرف تلقائياً على الأهداف المحتملة بدرجة مئوية من اليقين. بدأ هذا في لفت الانتباه في وحدة التجارب للتفكير في كيفية إخفاء الشكل والتوقيعات الحرارية والكهرومغناطيسية للآليات لمنع حدوث مثل هذا الكشف. شكل هذا مع الدروس المستفادة من قتال الدبابات في إستونيا مصدر إلهام لمولد تجربة التمويه لدبابة تشالنجر2.
قامت وحدة التجارب المدرعة بتطوير وتصميم تمويه رقمي متعدد الألوان منقط ضوئياً يسمى (MCDC-5)، وهو يستخدم العديد من المتغيرات لجعل تشالنجر 2 التي يبلغ وزنها 75 طناً يصعب اكتشافها في ساحة المعركة بالعين المجردة وأجهزة الاستشعار البصرية. الهدف من التصميم هو تزويد مشغلي الدبابات ببضع ثوانٍ إضافية للعمل عن طريق إبقاء الدبابة مخفية بصرياً عن العدو، حيث تشكل الثواني التي تؤخر أجهزة الاستهداف عند العدو قضية حيوية، مما يزيد من فرص نجاة الدبابة وطاقمها من هجوم. يشير الرقم 5 في (MCDC-5) إلى خمسة ألوان مختلفة مستخدمة في التمويه. كل طلاء بلون مختلف ويتميز بمستويات مختلفة من الامتصاص الحراري والراداري وخصائص الانعكاس التي تغير شكل الدبابة عند رؤيتها بالعين المجردة أو البصريات مثل المستشعرات الحرارية. يعمل الطلاء في المناطق الريفية والحضرية ويساهم في دمج الدبابة مع البيئة بشكل أفضل، ويضيف لمعاناً لبعض المناطق، ويحجب شكل المناطق الأخرى، مما يجعل من الصعب معرفة مكان الدبابة والاتجاه الذي تشير إليه. يعمل التصميم أيضاً بشكل جيد ضد الطائرات المقاتلة بدون طيار من خلال خداع الذكاء الاصطناعي (AI) الذي يُشغل الطائرة والذي يعتمد في الكشف على التوقيع البصري أو الحراري أو الإلكتروني للدبابة. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخلط بين دبابة ومركبة أخرى بسبب تصميم التمويه، مما يؤدي إلى عدم رغبة الطائرة في إهدار ذخائرها على هدف أقل قيمة.
يمكن لأي شخص تقريباً اكتشاف الدبابة في أي بيئة على مسافة أقل من 300 متر، لذلك تم بناء التصميم بشكل أفضل بين 300 متر و1300 متر، وهذا هو النطاق الذي تدور فيه معظم معارك الدبابات. تلقى المشروع دعماً من متحف الدبابات للسماح باستكشاف أرشيف أنماط التمويه التاريخية. بما في ذلك مخططات التمويه لسفن استخدمت في الحرب العالمية الأولى، ومشاريع الطلاء والخداع التي مورست في الصحراء الغربية في الحرب العالمية الثانية، وتجارب الطلاء الأكثر حداثة في الستينات والسبعينات، والبصريات الحديثة والتاريخية للجيوش الأخرى، وتلقى المشروع أيضاً دعماً من مختبر تكنولوجيا علوم الدفاع للاعتماد على البحث العلمي في كيفية التعرف إلى وحدات البكسل بواسطة بصريات الإنسان والآلة. مما سهل على الفريق البحثي رؤية شكل دباباته من خلال أسلحة العدو لإتمام عملية التصميم. ونظراً للحجم والشكل المميزين للدبابة ينطبق الأمر على الأبعاد التي تزيد على 1300 متر، حيث تبدو الدبابة مثل الصندوق الأسود للعين المجردة. وبغض النظر عن قدرة البكسل أو الشكل، يصبح نمط التمويه غير قابل للتمييز. ويقول الرائد تشارلي برونسكيل عضو الفريق البحثي عن التجربة: «هذه أول مرة أرى آلياتنا بعيون العدو، وهذا يساعد على البدء في فهم أفضل لكيفية تطبيق تقنيات التمويه والإخفاء الخاصة بنا، وكيف نتطلع إلى المضي قدماً في تصميم لما نحاول تحقيقه».
وفي اختبار رئيسي لقدرات التمويه، أخذت وحدة التجارب 100 فرد بمستويات مختلفة من الخبرات وقامت بتزويدهم بأدوات بصرية ومناظير ومواصفات الهدف المطلوب تحديده، وبمجرد أن اعتقد الأفراد أنهم اكتشفوا الدبابة التي كانوا ينظرون إليها واتجاهها، كان عليهم نقل وصف تفصيلي للهدف. في تلك التجارب، لم يتم اكتشاف تشالنجر 2 المميزة بـاللون MCDC-5 بنسبة 80 %. وبالمقارنة، لم يتم اكتشاف دبابات تشالنجر 2 المطلية باللون الأخضر التقليدي لحلف شمال الأطلسي بنسبة 30 %.
كان تطوير MCDC-5 جزءاً من سباق مشروع وحدة التجارب الأوسع والمسمى «إخفاء، خداع، البقاء» والذي يهدف إلى تطوير مجموعة من التقنيات التي يمكن استخدامها لتزويد الجيش بميزة في ساحة المعركة. وإحداها الأهداف الوهمية، حيث كانت وحدة التجارب تستكشف كيف يمكن استخدام تقنيات التمويه والحلول منخفضة التقنية مثل الحصائر الحرارية التي تعمل ببطاريات السيارات لجعل شيء بسيط مثل أشكال قابلة للنفخ تشبه الدبابة من خلال البصريات عالية التقنية. ونظراً لأن تمويه MCDC-5 يجعل من الصعب اكتشاف الدبابات الحقيقية وجذب نيران العدو نحو الأهداف الوهمية، تم تأطير هذا المشروع نوعاً ما من خلال تحديين رئيسيين فيما يتعلق بالسباق الشامل، الأول: هل يمكننا أن نجعل آلياتنا تبدو أقل شبهاً بالتوقيع الذي تبحث عنه العين البشرية والكمبيوتر؟ والثاني هل يمكننا أن نجعل أهدافنا الوهمية تبدو أقرب ما يكون إلى الواقعية قدر الإمكان، بحيث تعتقد أجهزة الاستشعار أو عيون العدو أنها حقيقية؟
يتم تحسين نمط MCDC-5 الحالي لاستكشاف ما إذا كان يمكن تكبير وحدات البكسل الموجودة في التصميم في أماكن معينة لتبسيط التصميم دون التضحية بتأثيرات الإخفاء. تستغرق عملية الإصلاح الشامل لدبابة تشالنجر 2 باللون الأخضر القياسي لحلف الناتو وإعادة طلائها بنفس اللون أربعة أيام، في حين أن طلاء تشالنجر 2 في MCDC-5 استغرق تسعة أيام. في حين أن هذا قد يبدو وكأنه زيادة كبيرة في الوقت، تعتقد وحدة التجارب أنه يمكن تقليل ذلك بشكل كبير من خلال تحسين التصميم. هناك أيضاً نقاش حول طرق التطبيق المختلفة التي يمكن أن تجعل مخططات التمويه المستقبلية المحتملة أكثر تنوعاً اعتماداً على السيناريو. يمكن أن يأخذ هذا تغليف بعض المكونات أو دمج الألواح المغناطيسية التي يمكن إزالتها عن الدبابة بسهولة إذا لزم الأمر. ستعمل هذه التقنيات أيضاً على تقليص الوقت الذي يستغرقه تمويه الدبابات المستقبلية.
أثار النجاح المبكر لـتمويه MCDC-5 الاهتمام المتجدد بالتمويه في القطاع العسكري خاصة تمويه وإخفاء العربات المدرعة. وتحقيقاً لهذه الغاية، تم تعيين فريق من وحدة التجارب لاستكشاف التمويه للمركبات المدرعة المستقبلية. الأمل هو أن نتائج وحدة التجارب في مشروع «الاختباء والخداع والبقاء على قيد الحياة» سيتم تطبيقها على نطاق أوسع.
التجربة الأمريكية
منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي بدأ الجيش الأمريكي باستخدام تمويه الناتو الموحد لتمويه جميع معدات القتال، والدعم القتالي، والمركبات ذات العجلات التكتيكية، والطائرات، ومعدات الدعم الأرضي التكتيكي. كما استخدمه الألمان والفرنسيون وأعضاء آخرون في الناتو. يشار إلى نمط التمويه هذا أيضاً باسم CARC (طلاء مقاوم للعوامل الكيميائية) ويتكون من خطوط بنية وخضراء وسوداء، وهو نسخة عسكرية منخفضة اللمعان من دهانات البولي يوريثين التي تم تطويرها للاستخدام في الصناعة التجارية. يتميز تمويه CARC بمسامية منخفضة تمنع عوامل الحرب الكيميائية من «الامتصاص» حتى النهاية، وتجعل عملية إزالة التلوث أمراً سهلاً. ويستخدم هذا التمويه في حلف الناتو حتى يومنا هذا. تم اعتماده أيضاً من قبل أعضاء جدد في الناتو مثل بولندا وجمهورية التشيك، ويمكن تحويله بسهولة إلى نمط شتوي من خلال رسم خطوط بيضاء عريضة فوقه باستخدام طلاء قابل للغسل. «إلى جانب المقاومة الكيميائية والمتانة، يمتلك CARC بعض الخصائص اللونية الفريدة الأخرى. على سبيل المثال، اللون الأخضر الأساسي «Green 383» يستخدم أصباغاً تحاكي الخصائص العاكسة للكلوروفيل الموجود في النباتات الحية، مما يجعل من الصعب اكتشاف الدبابة باستخدام أجهزة الكشف التي تستخدم الأشعة تحت الحمراء. وخلال حرب الخليج، تمت إعادة صياغة «Tan 686» لتقليل كمية امتصاص الحرارة الشمسية والحفاظ على برودة الدبابة في البيئة الصحراوية. أصبح اللون الجديد «Tan 686A» وتم توحيده في المراحل الأخيرة من الحرب، ومع نهاية الحرب على الإرهاب وإعادة التركيز الأمريكي نحو ساحات القتال الأكثر تقليدية (بما في ذلك المسرح الأوروبي للحرب)، ظهر اللونان الأخضر والبني مرة أخرى.
في عام 2018 بدأ تطوير تمويه TALON وهو جزء من برنامج نظام طلاء المركبات الأرضية لتطوير جيل جديد من الطلاءات العسكرية، وتم الإعلان عنه لأول مرة في مارس 2019 تقريباً مع إجراء الاختبار الأولي في فلوريدا. يشبه هذا التمويه الجديد بشكل أساسي نمط الناتو، ولكن، في تكوينه للغابات، له لون إضافي واحد (أخضر أفتح) وهذا التمويه يساعد في إخفاء توقيع الأشعة تحت الحمراء للدبابات تم تطبيقه على العديد من دبابات إبرامز وعلى عربة القتال برادلي.
وتستخدم القوات البحرية الأمريكية تمويه هوت كوتور متعدد الامتصاص الذي تبدو الآلية المجهزة به وكأنها عمل مصمم أزياء وهو مكون من طيات وطبقات عميقة بألوان عسكرية تحبس هذه الطبقات الهواء، مما يمنح التمويه فعاليته ضد اكتشاف الأشعة تحت الحمراء. ويقول مخترعها الفرنسي، رينيه بروجييرجارد: «كانت الفكرة هي عمل طيات لتحسين دوران الهواء، مما يساعد على إخفاء الحرارة بحيث يظهر الهواء الذي يمر خلف التمويه في نفس درجة حرارة الهواء المحيط».. وأوضح أن التمويه مصنوع من طبقتين من شبكة البوليستر، «لأن البوليستر يمتص ويعكس درجة حرارة الهواء المحيط».
التجربة الفرنسية
بدأ يظهر على مركبات مختلفة لبرنامج العقرب الفرنسي نمط يتكون من أشكال خضراء داكنة وخضراء فاتحة ذات حواف حادة على خلفية بنية فاتحة. مع هذا، فإن تاريخ النمط غير واضح، حيث يبدو أنه لا يزال تجريبياً إلى حد ما. في أكتوبر 2019، تم الكشف عن خطة لبدء استخدام هذا النوع من التمويه لإعادة طلاء أكثر من 10 آلاف مركبة قتالية فرنسية، بعد 33 عاماً من استخدام تمويه الناتو القياسي. وفقاً لبعض المسؤولين في الجيش الفرنسي، فإن هذا التمويه يخلق وهماً ثلاثي الأبعاد يجعل من الصعب جداً اكتشاف الدبابة على أبعاد 1000 متر أو أكثر، وزاد وقت التعرف على شكل الذكاء الاصطناعي (عنصر أكثر أهمية من أي وقت مضى في أنظمة التحكم في الرماية الحديثة) من حوالي 8 ثوانٍ لأكثر من دقيقة.. تجدر الإشارة إلى أنه نظراً للقيود التقنية لنظام التمويه Armored Warfare، لم يتم تكرار هذا النمط تماماً ويبدو مختلفاً بعض الشيء عن الإصدارات الأحدث. وسيكون هذا التمويه قابلاً للاستخدام في جميع المركبات وفي جميع البيئات.
مستقبل التمويه
تبحث الأبحاث الحديثة في تقنية التمويه العسكري الأمريكي في كيفية تجنب الكشف عن طريق التصوير الحراري المتطور والأشعة تحت الحمراء، وخطت تقنية التمويه العسكري خطوات كبيرة في السنوات الاخيرة، ودخلت مفاهيم جديدة وتقنيات متطورة يجري العمل عليها حالياً من قبل كبرى شركات التصنيع الدفاعي في العالم، وتشمل تقنية إخفاء الآليات المتبناة من BAE Systems، وتقنية المواد الكمومية للانحناء للضوء من Hyperstealth Biotechnology، وعباءة الاختفاء اليابانية، التي تستخدم تقنية النانو لإعادة توجيه موجات الضوء حول جسم ما.
وتعمل شركة التكنولوجيا الدفاعية البريطانية BAE Systems على تطوير نظام تمويه نشط «e-camouflage» مستوحى من فكرة الحرباء التي تغير شكلها حسب البيئة، ويستخدم هذا النظام شكلاً من أشكال الحبر الإلكتروني لعرض صور للمركبات المحيطة بالتضاريس، مما يجعل الدبابة غير مرئية إلى حد ما للعدو المحتمل. وباستخدام مجموعة من المجسات الإلكترونية المتصلة بالجزء الخارجي للدبابة، سيعالج النظام محيط الآلية، ويعيد إنشاء الألوان والخطوط والأشكال الشائعة في بيئتها على هيكل الدبابة، مما يجعل من الصعب للغاية رؤيتها. نظراً لأن الصور الموجودة على الجزء الخارجي للدبابة ستتغير مع تغير البيئة المحيطة، فمن الواضح أن مثل هذا التمويه النشط يمكن أن يخفي الدبابة حتى أثناء تحركها عبر البيئة. النظام موجود فقط على الورق حالياً، لكن العلماء والباحثون واثقون من أنهم قادرون على جعل التكنولوجيا تعمل، على أمل إيصالها إلى القوات البريطانية التي تعمل في كل البيئات. إذا تمكن علماء BAE من جعل نظام التمويه النشط يعمل، فمن المحتمل أن يكون مكلفاً. ولكن قد يكون الأمر يستحق التكلفة لأن دبابة تشالنجر 2 تكلف أكثر من 6 ملايين دولار.
» العقيد المتقاعد المهندس خالد العنانزة (مستشار ومدرب في البيئة والسلامة المهنية)