مهما تطور الزمن، تظل مبادئ الحرب التي نَظّر لها الجنرال الصيني الشهير والاستراتيجي العسكري «صن تزو» في كتابه «فن الحرب» ماثله ليومنا هذا، ولعل مقولته الشهيرة «يأخذ الماء شكل جريانه وفقاً للتضاريس، وكذلك الجيوش تتحكم في انتصارها وفقاً للعدو الذي تواجهه» شكلت على الدوام دافعاً للجيوش لتصميم استراتيجياتها، بحيث تضمن عدم بقاء القوة العسكرية على تكوين استراتيجي ثابت، ويظل الشكل النهائي للقوة العسكرية هو انعدام الشكل، مثلما الماء ليس له شكل ثابت، باعتبار أنه لا يمكن تكرار استراتيجية منتصرة، لأنه لا يمكن توقع ردة فعل العدو في كل مرة، وبعبارة أخرى: القوة التي يمكن أن تتغير وتتحول وفقاً للعدو ستنتصر، هذا هو بالضبط وعد حرب الفسيفساء.
أدت التطورات التكنولوجية في العقود الماضية في المجال العسكري إلى تغيير كبير في العقائد القتالية وتنظيم الهياكل للجيوش، ولعل الابتكارات العظيمة في مجال الروبوتات والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو والأنظمة المسيرة وغيرها أدت تدريجياً إلى استبدال المقاتلين النظاميين في ساحة المعركة الحديثة، وقللت من عدد المتخصصين العسكريين في التكنولوجيا الفائقة. وأصبح خلق فرص فعالة من حيث التكلفة للتغلب على الخصم، إلى جانب الرغبة في الحماية متعددة الأبعاد، وتقليل الخسائر في الأرواح، الأهداف الأساسية للمخططين والباحثين العسكريين. أضف إلى ذلك أن الأحداث المعقدة وغير المتوقعة التي وقعت في جميع أنحاء العالم في الماضي غيرت طرق التفكير وإدارة الصراعات العسكرية، ونتيجة لذلك، اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن الوقت قد حان لتشكيل إطار مفهوم جديد للصراعات العسكرية المستقبلية، ونهج استراتيجي لتحقيق النصر الكامل في أي نوع من الحروب. ووفقاً لتقرير جديد صدر لوكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، طلب فيه من الجيش الأمريكي اعتماد تصميم قوة جديد وقابل للتكيف ومرن للقضاء على نقاط الفشل الفردية، مثل روابط البيانات المهمة التي يمكن أن تُعَرِّض القوات الأمريكية للخطر في قتال النظير للنظير.
نواة الفكرة
منذ عملية عاصفة الصحراء عام 1991، راقب المنافسون بشكل منهجي الطريقة الأمريكية في الحرب، وقاموا بدراسة مزايا وأساليب الجيش الأمريكي وتطوير استراتيجيات وأنظمة لمواجهة تلك المزايا واستغلال نقاط الضعف في تصميم القوات الأمريكية. ومع مواجهة أمريكا تحديات جديدة من الصين وروسيا، حيث عملت الأخيرتان على مراقبة الاستراتيجية الأمريكية في العراق وأفغانستان والتعلم منها، دقت استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية في عام 2018 ناقوس الخطر بشأن المخاطر التي تشكلها الطموحات التعديلية الصينية والروسية، ونفذت القوات الامريكية حزمة من المناورات الحربية التي تركزت على الصراعات الكبرى مع الصين وروسيا، ولمواجهة ذلك، يحاول المخططون العسكريون تحويل تصميم الجيش الأمريكي إلى قوة جديدة تمكنه من الصمود والانتصار في صراع حرب الأنظمة، وأصبح من الضروري تطوير مفهوم/استراتيجية جديدة تجمع «جميع عناصر الأحجية» للتكنولوجيات المتقدمة، وتنسقها معاً على أي خصم محتمل من أجل تحقيق نصر كامل وسريع، وكان من أهمها «العمليات متعددة المجالات» و «حرب الفسيفساء»، التي تهدف إلى دمج ابتكارات العلوم والفنون العسكرية والتكنولوجيا الفائقة مع المذاهب التشغيلية والتنظيم الهيكلي. وبدأ مفهوم حرب الفسيفساء في الظهور للوصول إلى طريقة حرب تستفيد من قوة شبكات المعلومات، والمعالجة المتقدمة، والوظائف المصنفة لاستعادة القدرة التنافسية العسكرية الأمريكية في صراع الند للند. تم تصميم حرب الفسيفساء لمعالجة كل من متطلبات البيئة الاستراتيجية المستقبلية وأوجه القصور في القوة الحالية. يعكس مصطلح «الفسيفساء» كيف يمكن إعادة ترتيب عناصر بنية القوة الأصغر في العديد من التكوينات المختلفة أو عروض القوة، تماماً مثل البلاط الملون الصغير غير المتشابهة الذي يستخدمه الفنانون لتكوين عدد من الصور، يستخدم تصميم قوة الفسيفساء العديد من المنصات المتنوعة والمصنفة بالتعاون مع القوى المتوفرة، لصياغة نظام تشغيلي باستخدام شبكات مرنة للغاية من العقد الزائدة على الحاجة للحصول على مسارات قتل متعددة، وجعل النظام ككل أكثر قابلية للبقاء، مما يقلل من القيمة المستهدفة الحرجة لأي عقدة واحدة على الشبكة. ويقول تيموثي غرايسون مدير مكتب التكنولوجيا الاستراتيجية في وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة: «يمكن للجيش أن يقضي وقته في تطوير أسلحة أسرع أو أكثر حماية أو أكثر فتكاً من منافسيه، ولكن في نهاية اليوم، سيأتي الخصوم المحتملون بشيء لمواجهتها»، وأضاف:« بالتأكيد، يمكننا محاولة إنفاق المزيد من الأموال وتطبيق التكنولوجيا المتقدمة على أنظمة أسلحتنا، ومحاولة البقاء في المقدمة، لكن هذا في النهاية اقتراح خاسر، وكل خطوة في هذه المسابقة أكثر تعقيداً وأكثر تحدياً وأكثر تكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً من الخطوة السابقة». وقال غرايسون: «إن جزءاً من المفهوم هو الجمع بين الأسلحة التي لدينا بالفعل اليوم بطرق جديدة ومدهشة». وسيكون المفتاح هو العمل الجماعي، وتصنيف القدرات، والسماح للقادة باستدعاء التأثيرات التي توفر القدرة بسلاسة من البحر أو البر أو الجو اعتماداً على الموقف.
مفهوم حرب الفسيفساء
أول من تبنى هذا المفهوم وأطلق عليها اسم «حرب الفسيفساء» هو توم برينز المدير السابق لمكتب التكنولوجيا العسكرية في وكالة الأبحاث الدفاعية المتقدمة الأمريكية، وتعريفها أنها نظرية قتالية تقترح أن يتم القتال بحجم كبير وغير متماثل وبشكل غير متوقع، وبمجموعة متنوعة من الأسلحة والمنصات من فئات وأحجام وأنواع مختلفة – كل قتال بطريقة متميزة مثل البلاط في الفسيفساء – يمكن أن يكون ميزة قاهرة مقارنة بمواجهة الأسلحة والمنصات المماثلة لذلك العدو. عندما تهاجم بالتوازي عبر جبهة واسعة وتقوم بتوزيع أنظمة الاستشعار والرماية الخاصة بك عبر عدد كبير من المنصات، يمكنك حشد قوتك النارية دون الحاجة إلى حشد قواتك، أي حشد قوة النيران ولكن ليس القوات. ظهرت الفكرة في وكالة مشروع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA) أول مرة، وهي تصف كيفية إجراء مناورة متعددة المجالات ضد الأعداء الذين يمتلكون قدرات للضربات الدقيقة. تضع حروب الفسيفساء أهمية كبيرة في رؤية المعركة كنظام ناشئ ومعقد، واستخدام تشكيلات حشود مسيرة منخفضة التكلفة جنباً إلى جنب مع التأثيرات الإلكترونية للتغلب على الأعداء. الفكرة المركزية هي أن تكون رخيصة وسريعة وقاتلة ومرنة وقابلة للتطوير. فبدلاً من بناء ذخيرة باهظة الثمن ومعقدة ومُحسَّنة لهدف معين، يتم توصيل الأنظمة الصغيرة المسيرة بالقدرات الحالية في مجموعات إبداعية ومتطورة، والتي سوف تستفيد باستمرار من ظروف ساحة المعركة المتغيرة ونقاط الضعف الناشئة. ببساطة، إنها عملية رخيصة الثمن، يتم فيها تكوين فريق من الإنسان والآلة يجمع بين أنظمة مسيرة ومرنة مع الحدس الاستراتيجي، بوتيرة لا يمكن للخصم أن يضاهيها. عندما تهاجم القوات في وقت واحد من اتجاهات متعددة فإنها تنتج سلسلة من المعضلات التي تتسبب في انهيار نظام العدو. وعلى مدار العامين الماضيين، أدى التعاون الفريد بين مكتب التكنولوجيا الاستراتيجية في وكالة مشروع الأبحاث الدفاعية المتقدمة، وجامعة البحرية العسكرية الأمريكية، إلى سلسلة من تجارب المحاكاة الحربية لاختبار هذا المفهوم. واستناداً إلى النتائج الأولية لهذا التعاون، يعد مفهوم الفسيفساء طريقة قابلة للتطبيق للمضي قدماً لتطوير تشكيلات وقدرات متعددة المجالات في القرن الحادي والعشرين. وللتوضيح أكثر، فإن الأنظمة التقليدية كانت لا بد وأن تكون متجانسة، من مقاتلات الجيل الخامس إلى حاملات الطائرات، وغالباً ما تكون هذه المنصات باهظة الثمن وثابتة ويصعب تكييفها. إنها أنظمة تشبه أحجية الصور المقطوعة، حيث لا يمكن ربط كل قطعة إلا بقطعة مطابقة. لذلك تم تصميم نظام «الفسيفساء» بحيث يتم ربطه بالشبكات بشكل مرن وتكوينه بسرعة لتوفير إمكانات مرنة للمشغل. فيمكن دمج أي نظام أو وحدة لها خصائص وظيفية معينة مع الآخرين، لتوفير القدرة القتالية المرغوبة في الوقت والمكان الذي يختاره القائد. باختصار عمليات حرب الفسيفساء هي وجهة نظر «خارج الصندوق» حول الحرب المتمركزة على القرار والتي تهدف إلى تحسين عملية صنع القرار الداخلي وفي نفس الوقت إضعاف عملية صنع القرار لدى العدو.
تحرك كالفراشة.. والسع كالنحلة
يقول الملاكم محمد علي كلاي: تحرك كالفراشة والسع كالنحلة، تماماً إنها فلسفة حرب الفسيفساء. في الحرب التقليدية، يتم تعريف سلسلة القتل من خلال حلقة (OODA) والتي تعني المراقبة، التوجيه، اتخاذ القرار، والتنفيذ «أي الخطوات اللازمة لمراقبة الهدف وتوجيهه واتخاذ القرار والتنفيذ». ولكن في البناء التشغيلي الفسيفسائي، يتم استبدال السلسلة من نقطة إلى نقطة بشبكة من عُقَد الاستشعار التي تجمع البيانات وتحدد أولوياتها وتعالجها وتشاركها، ثم تدمجها في صورة تشغيل مشتركة يتم تحديثها باستمرار بدلاً من دمج كل هذه الوظائف بإحكام في منصة واحدة باهظة الثمن، كما هو الحال في مقاتلة (F-35). في حرب الفسيفساء يتم تصنيف هذه الوظائف ونشرها بين العديد من الطائرات المسيرة وغير المسيرة التي تشترك في البيانات ووظائف المعالجة عبر شبكة متغيرة باستمرار، حيث يهدف مفهوم حرب الفسيفساء هذا إلى تجاوز تصميمات الأنظمة الفردية ومعايير التشغيل البيني الفريدة لتطوير العمليات والأدوات التي تعتمد على الاتصالات الموثوقة بين الكيانات المعروفة التي توفر إمكانيات غير محدودة لخلق تأثيرات على مستويات صنع القرار التكتيكي والتشغيلي والاستراتيجي.
حرب الفسيفساء هي نهج جديد للحرب له العديد من المزايا:
1. فعالة من حيث التكلفة لأنها تحتاج إلى موارد أقل مقارنة مع الاستراتيجيات الأخرى.
2. بسبب وجود الكثير من الاحتمالات يصعب على العدو التنبؤ بما سيحدث في المستقبل.
3. المرونة والقدرة على التكيف على غرار خصائص جهاز المناعة البشري.
4. القدرة على إضافة عناصر غير متوقعة فعالة للغاية إلى مسرح عمليات اشتباك المعركة.
5. استخدام تشكيلات أسراب مسيرة منخفضة التكلفة إلى جانب التأثيرات الإلكترونية والسيبرانية الأخرى للتغلب على الأعداء.
هناك بعض العيوب لحرب الفسيفساء أيضاً منها:
قد يكون من الصعب نسبياً التحكم في نظام الفسيفساء. لا توجد سلطة مركزية، وهناك عدد كبير من المنصات لتوجيهها. وقد يكون من الصعب تنسيق جميع الهجمات المختلفة، مما قد يؤدي إلى الارتباك والأخطاء، ويلزم الاتصال القوي بسبب الطبيعة المصنفة لهذه النظم. ومن الضروري أيضاً الاستجابة السريعة والمصممة خصيصاً لمجموعة واسعة من التهديدات المحتملة. وإذا لم يتم تنفيذها بشكل صحيح، يمكن لهذه الاستراتيجية أن تأتي بنتائج عكسية. وتوفر للعدو بالفعل فرصة للهجوم المضاد.
مستقبل حرب الفسيفساء
لدى وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة (DARPA) رؤية طموحة لحرب الفسيفساء، التي تصورتها قيادة مكتب التكنولوجيا الاستراتيجية كمفهوم قتالي ووسيلة لتسريع تطوير القدرات في الميدان بشكل كبير. تستلزم حرب الفسيفساء قوة أكثر تجزئة وأكثر تبايناً وديناميكية على الجداول الزمنية التكتيكية في حزم قوة فريدة لمفاجأة الخصم والتغلب عليه. نتيجة لذلك، تستلزم حرب الفسيفساء الابتعاد عن التركيز على المنصات المتجانسة البطيئة في التطور والعمل الميداني، والتركيز على عناصر القوة الأبسط التي يمكن تطويرها ونشرها بسرعة ودمجها في تنفيذ المهمة. وحسب مكتب التكنولوجيا الاستراتيجية، يتصور مفهوم الفسيفساء قوة أمريكية تتميز بثلاث خصائص:
1 التجزئة Fractionation:
تشير التجزئة إلى المدى الذي تكون فيه قدرات القوة العسكرية تتركز على منصات أسلحة معينة. بحيث تعطي قوة متجانسة أو غير مجزأة عدداً كبيراً من القدرات والوظائف على منصة واحدة. ربما تكون (F-35) هي المثال لمنصة متجانسة. لديها قدرات الاستشعار، إطلاق النار، عقدة القيادة والتحكم، الحرب الإلكترونية (EW)، وغيرها، كلها مدمجة على منصة واحدة.
2 التنوع Heterogeneity:
يشير التنوع أو عدم التجانس إلى مدى امتلاك المنصات في القوة العسكرية لمجموعات قدرات متنوعة ومتميزة. في القوة غير المتجانسة، سيكون لقدرات النظام الأساسي أقل قواسم مشتركة، والمزيد من التنوع على سبيل المثال قد يتم توصيل تأثير نفس الحرب الإلكترونية بواسطة طائرة مسيرة عن بعد، منطاد، أو صاروخ كروز منخفض التكلفة. حرب الفسيفساء تتصور قوة أمريكية غير متجانسة وأكثر تبايناً
3 قابلية التركيب Composability:
تشير قابلية التركيب إلى المدى الذي يمكن أن تتحد فيه عناصر القوة ديناميكياً بطرق مختلفة لتقديم تأثير عملياتي، ستكون القوة غير القابلة التركيب إلى حد كبير مقيدة بسلاسل قتل ثابتة ومحددة مسبقاً بنظام تشفير مثل نظام دفاع الصواريخ البالستية، بينما القوة عالية التركيب تلغي مفهوم بناء سلاسل القتل الثابتة وتسمح بتشكيل سلاسل قتل ديناميكية من عناصر القوة المتاحة وقت تنفيذ المهمة.. تتصور حرب الفسيفساء قوة أكثر قابلية للتركيب يساعد فيها الذكاء الاصطناعي على اتخاذ القرار عند تنفيذ المهمة. من حيث العمليات، يتوقع مؤيدو حرب الفسيفساء أن التنوع والتجزئة وقابلية التركيب ستزيد من القدرة على التكيف وقابلية التوسع للقوات الأمريكية وعدم القدرة على التنبؤ بها.
» العقيد المتقاعد المهندس خالد العنانزة
مستشار ومدرب في البيئة والسلامة المهنية