الموضوع الديني 597

معركة ملاذكرد

شهد التاريخ عدة غزوات وحروب، كانت نتائجها حاسمة في تغيير مجراه، وسنتناول على صفحات “الجندي” بعضاً من هذه المعارك الفاصلة.

معركة ملاذكرد

هي معركة دارت بين الإمبراطورية البيزنطية والسلاجقة المسلمين في 26 أغسطس 1071 بالقرب من ملاذكرد في تركيا، لعبت الخسارة الحاسمة للجيش البيزنطي وأَسْر الإمبراطور رومانوس دوراً مهماً في ضعضعة الحكم البيزنطي في الأناضول وأرمينيا، وتمكن السلاجقة من مد نفوذهم تجاه الأناضول.

قبل المعركة

في عام 1068 تولى رومانوس الرابع السلطة، ووضع بعض الإصلاحات العسكرية السريعة وأرسل حملة ضد السلاجقة، استولت على أجزاء من سوريا، ثم أحبط هجوماً تركياً على قونية بهجوم مضاد، ولكن بعد ذلك هُزِم وأَسَرَهُ السلاجقة تحت حكم السلطان ألب أرسلان. وعلى الرغم من انتصار ألب أرسلان في المعركة، فإنه سعى إلى معاهدة سلام مع البيزنطيين، وتم التوقيع عليها عام 1069.

في فبراير 1071، أرسل رومانوس مبعوثين إلى ألب أرسلان لتجديد معاهدة 1069، فوافق ألب أرسلان على التجديد. لكن معاهدة السلام أخلّها رومانوس واعتبرها إلهاءً متعمداً ليقود جيشاً كبيراً إلى أرمينيا لاستعادة القلاع المفقودة قبل أن يتمكن السلاجقة من الرد عليه.

جهّز الإمبراطور البيزنطي رومانوس جيشاً ضخماً يتكون من مائتي ألف مقاتل، وتحرك بهم من القسطنطينية عاصمة دولته واتجه إلى ملاذكرد، حيث يعسكر الجيش السلجوقي.

أدرك ألب أرسلان حرج موقفه، فهو أمام جيش بالغ الضخامة كثير العتاد، في حين أن قواته لا تتجاوز عشرين ألفاً، فبادر بالهجوم على مقدمة جيش الروم، ونجح في تحقيق نصر خاطف يحقق له التفاوض العادل مع إمبراطور الروم، لأنه كان يدرك صعوبة أن يدخل معركة ضد هذا الجيش الجرار الذي يفوقه عدة وعتاداً، فقواته الصغيرة لا قِبَلَ لها بمواجهة غير مضمونة العواقب، فأرسل إلى الإمبراطور مبعوثاً من قبله ليعرض عليه الصلح والهدنة، فأساء الإمبراطور استقبال المبعوث ورفض عرض السلطان، وطالبه أن يبلغه بأن الصلح لن يتم إلا في مدينة الري عاصمة السلاجقة.

الاستعداد للقاء

أيقن السلطان أنه لا مفر من القتال بعد أن فشل الصلح والمهادنة في دفع شبح الحرب، فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم روح الجهاد وحب الاستشهاد، وأوقد في قلوبهم جذوة الصبر والثبات، ووقف فقيه السلطان وإمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري يقول للسلطان مقوِّياً من عزمه: إنك تقاتل عن دينٍ وَعَدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

وحين دنت ساعة اللقاء في (أغسطس 1071م) صلّى بهم الإمام أبو نصر البخاري، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.

أحداث المعركة

أحسن السلطان ألب أرسلان خطة المعركة، وأوقد الحماسة والحمية في نفوس جنوده، حتى إذا بدأت المعركة أقدموا كالأسود الضواري تفتك بمن يقابلها، وهاجموا أعداءهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحاً، وما هي إلا ساعة من نهار حتى تحقق النصر، وانقشع غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال.

ولما تقارب الجيشان، طلب السلطان من امبراطور الروم الهدنة فرفض، فخطب السلطان في جنوده قائلاً: من أراد الانصراف فلينصرف. ما ها هنا سلطان يأمر وينهى.

وبدأت المعركة، وحمي وطيسها، وأبلى جنود الإسلام فيها بلاءً حسناً، وأمعنوا في جنود الروم قتلاً وأسراً، حتى وقع قائد الجيش البيزنطي نفسه أسيراً في أيدي السلاجقة، وسيق إلى معسكر السلطان ألب أرسلان الذي قال له: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. فقال له السلطان: فما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تُشَهِّرَ بي في بلاد الشام، والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الجزية. فقال السلطان: ما عزمت على غير هذا.

إطلاق سراح الإمبراطور البيزنطي

أطلق السلطان ألب أرسلان سراح الإمبراطور البيزنطي بعد أن تعهد بدفع فدية كبيرة قدرها مليون ونصف مليون دينار، وأن يطلق كل أسير مسلم في أرض الروم، وأن تعقد معاهدة صلح، يلتزم الروم خلالها بدفع الجزية السنوية، وأن يعترف الروم بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلادهم، وأن يتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكات السلاجقة.

ولم تكد تصل أخبار الهزيمة إلى القسطنطينية حتى أزال رعايا الإمبراطور البيزنطي رومانوس اسمه من سجلات الملك، وقالوا: إنه سقط من عداد الملوك، وعُيِّن ميخائيل السابع إمبراطوراً، فألقى القبض على رومانوس الرابع الإمبراطور السابق، وسمل عينيه.

آثار المعركة

بعد انتصار المسلمين في هذه المعركة تغيّرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة، فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد انحسار النفوذ البيزنطي تدريجياً عنها، ودخول سكانها في الإسلام، والتزامهم به في حياتهم وسلوكهم.

ظل حكامها يتناوبون الحكم أكثر من قرنين من الزمان بعد انتصار السلاجقة في ملاذكرد، وأصبحت هذه المنطقة جزءاً من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا.

هزيمة الروم في موقعة ملاذكرد جعلتهم ينصرفون عن هذا الجزء من آسيا الصغرى، ثم عجزوا عن الاحتفاظ ببقية الأجزاء الأخرى أمام غزوات المسلمين الأتراك من السلاجقة والعثمانيين، وقد توالت هذه الغزوات في القرون الثلاثة التالية لموقعة ملاذكرد، وانتهت بالإطاحة بدولة الروم، والاستيلاء على القسطنطينية عاصمتها، واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية، وتسميتها بإسلامبول أو إستانبول.

عُدَّت هذه المعركة أكبر كارثة حلَّت بِالإمبراطوريَّة البيزنطيَّة في أواخر القرن الحادي عشر الميلاديّ، وجاءت دليلاً على نهاية دور الروم في حراسة الباب الشرقي لأوروبا من غزو الآسيويين، وبذلك صار على الغرب الأوروبي أن يقوم بِدوره في هذا المضمار بدلاً من اعتماده حتى ذلك الوقت على الإمبراطورية البيزنطية، وهذا ما دفع بعض المُؤرخين إلى اعتبار أن نتيجة هذه المعركة اتخذها الأوروبيون حُجَّةً من بين عدة حُجج لإعلان حملاتهم الصليبية ضد الإسلام.

فتح الأناضول والتغيرات الديمغرافية فيه

كانت معركة ملاذكرد نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ غربي آسيا بخاصة، وفي التاريخ الإسلامي بعامة، لأنها يسَّرت القضاء على سيطرة البيزنطيين على أكثر أجزاء بلاد الأناضول، مما ساعد في القضاء على الإمبراطورية البيزنطية نفسها، فيما بعد، على أيدي العثمانيين. كما عُدَّت هذه المعركة أكبر كارثة حلَّت بِالإمبراطورية البيزنطية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وأتاحت نتيجة المعركة للسلاجقة التمدد إلى قلب آسيا الصغرى، وشجعتهم النزاعات والحروب الداخلية التي نشبت بين البيزنطيين على الاستقرار في ربوعها، وتأسيس سلطنة عُرفت في التاريخ باسم «سلطنة السلاجقة».

ومع ذلك فإن السلاجقة تركوا المدن تحكم نفسها بنفسها ولم يتدخلوا في شؤونها الداخلية، إلا أن صورة الحياة فيها أخذت بالتغير، فاصطبغت بالصبغة الإسلامية. إذ إن انحسار النفوذ البيزنطي عن المنطقة شجع الأهالي على الدخول في دين الفاتحين الجُدد.

وحدث في سنة  1078م، أن أعلن نقفور حاكم عمورية الثورة على الإمبراطور مدفوعاً بطموحه الشخصي ونقمته على ضعف حُكم ميخائيل السابع، ولم يتردد في إعلان نفسه إمبراطوراً باسم «نقفور الثالث». وحاول ميخائيل السابع القضاء على تمرُّده، إلا أن هذا الأخير لم يلبث أن تخلَّى عن الإمبراطور ودخل في خدمة بوتانياتيس الذي أغراه بمزيد من الامتيازات. واستخدم هذا الأخير، مرتزقة لحراسة ما سيطر عليه من المدن أثناء زحفه نحو العاصمة القسطنطينية، وهكذا دخل المسلمون لأول مرة المدن الكبرى غرب الأناضول، واستغل السلاجقة هذه الفرصة للتوسع. وإذا كانت تلك المدن ظلت من الناحية الشكلية تابعة للإمبراطورية البيزنطية، إلا أن الحاميات العسكرية الجديدة فيها كانت من نوعٍ جديد، إذ تألفت من عنصر يدين بالإسلام وبنيته متابعة الزحف على القرى والمدن المجاورة لفتحها والاستقرار بها، فضلاً عن أن أفرادها قطعوا الاتصالات بين العاصمة البيزنطية وداخل الأناضول، ولم يعد من السهل على أي إمبراطور مهما كان قوياً أن يطردهم من مواقعهم.

إعداد: نادر نايف محمد

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض