شهد التاريخ عدة غزوات وحروب، كانت نتائجها حاسمة في تغيير مجراه، وسنتناول على صفحات “الجندي” بعضاً من هذه المعارك الفاصلة.
تعود العلاقات العربية الهندية إلى قرون قبل البعثة النبوية، فقد عرف العرب الهند في الجاهلية من خلال الرحلات التجارية البحرية التي كانت سفنهم تنقل خلالها البضائع المتبادلة بين الجانبين، وهو ما أدى إلى اختلاط العرب بسكان المدن وأسواقها على سواحل الهند والسند.
جرت أولى محاولات فتح السند خلال عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عثمان بن أبي العاص الثقفي أول من حاول فتح السند من قادة المسلمين، ثم لم تزل السند تُغزى إلى زمان الحجَّاج بن يوسف الثقفي الذي تمكَّن من افتتاح باقي السند.
كانت غزوات المُسلمين الأولى أقرب إلى اختبار البلاد وأهلها بِالسرايا، ولم يتحقق فيها فتحٌ مُستدام، وكانت كُل الفُتُوحات تُجرى براً، ولم يركب المُسلمون البحر نحو ثُغُور السند حينذاك نظراً لمنع الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القادة وجنودهم من رُكُوب البحر لِما في ذلك من مُجازفة، لا سيَّما وأنَّه لم يكن للمسلمين دراية بالغزوات البحريَّة بعد.
وقد تمَّت فُتُوحات كُلٍ من إقليم ما وراء النهر وإقليم السند في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، كما كانت القيادة العامة للحملات العسكريَّة المُوجَّهة إلى كلا الإقليمين مُوحَّدة، فالحجَّاج بن يُوسُف الثقفي هو الذي وجَّه تلك الحملات، وكلَّف قُتيبة بن مُسلم بِفتح بلاد ما وراء النهر، كما كلَّف صهره وابن عمِّه مُحمَّد بن القاسم بِفتح إقليم السند. ولم يكن مُحمَّد بن القاسم قد تجاوز العشرين من العُمر لمَّا عُهد إليه بِفتح السند، وعُيِّن أميراً على تلك البلاد. فانتقل إلى مُكران وتمركز فيها، وجعلها نُقطة الانطلاق وقاعدة الفتح، وخرج منها إلى الديبُل، على ساحل بحر العرب، وفتح وهو في طريقه إليها عدَّة قلاع. ولمَّا وصل إليها حاصرها واقتحمها بعد ثلاثة أيَّام، وأعاد تخطيطها وأسكنها بِأربعة آلاف من المُسلمين، وجعلها قاعدةً بحريَّة. وكان لِفتح هذه المدينة تأثيرٌ كبيرٌ على الوضع الداخلي لِلمُدن والقُرى المُجاورة، حيثُ هرع السُكَّان يعرضون الصُلح على المُسلمين.
سيطر المُسلمون، بعد هذا النشاط الجهادي، على كامل إقليم السند، والذي أصبح بعد هذا الانتشار الإسلامي، في قبضة المُسلمين. فانصرف مُحمَّد بن القاسم إلى تنظيم أُمُور البلاد المفتوحة، والاستعداد لِلزحف نحو مناطق أخرى.
الوضع العسكري
كانت الأنظمة العسكريَّة في الممالك الهنديَّة، التي كانت قائمة زمن الفتح الإسلامي للسند، هي ذات الأنظمة التي ورثتها تلك الممالك عن سابقاتها التي قامت في البلاد مُنذُ ما قبل الميلاد. فكانت الخيَّالة الثقيلة تُشكِّلُ لُبَّ الجيش، تدعمها العناصر العسكريَّة الهنديَّة التقليديَّة، أي الأفيال الحربيَّة والمُشاة الخِفاف.
وكان الهُنُود يسقون فيلتهم الحربيَّة خمراً قبل انطلاق أي معركة، ولعلَّهم هدفوا من ذلك إلى جعل الفيلة أشد خطراً. وكانت الأفيال تتخذ مكانها خلف الفُرسان، وكانت أصواتها ورائحتها ومناظرها المُخيفة تُلقي الذُعر في خيل العدوّ، وكان الفيَّالة يركبون وفي أيديهم اليُمنى سكاكين طويلة المقابض، فإذا ما ذُعر فيل فانقلب يتخبَّط في صُفُوف جيشه، فإنَّ الفيَّال يُبادرُ إلى قتله بِأن يُغمد السكِّين في عظام رقبته.
الغزوات الأولى في العصر الأموي
بدأت خِلافة مُعاوية بن أبي سُفيان في الأشهر الأولى من سنة 44هـ المُوافقة لِسنة 664م، ولمَّا تولَّى أرسل إلى عبدالله بن عامر بن كُريز أن يُتابع الحملات العسكريَّة على الهند، فأرسل الأخير المُهلَّب بن أبي صُفرة الأزديّ على رأس جيشٍ لِغزو ثغر السند، فلقيه العدوّ، فكبَّدهُ المُهلَّب خسائر فادحة.
مهَّدت حملة المُهلَّب لِأوَّل مرَّة لِفتح الهند، ويُمكن اعتبار هذه الحملة أوَّل حملة كبيرة نسبياً سلكت الطريق البرِّي، في مُحاولةٍ جديَّةٍ لِفتح الهند، ولكنَّها لم تنجح النجاح المطلوب في ضمِّ جُزءٍ من الهند إلى بلاد المُسلمين وترسيخ أقدامهم فيها، إلا أنَّها نجحت في مُهمَّتها الاستطلاعيَّة.
بعث معاوية رسالةً إلى زياد بن أبيه واليه على العراق، يسأله فيها أن يختار رجُلاً بارزاً لِثغر الهند، فولَّى سنان بن سلمة الهُذلي الثغر المذكور، فرحل بدايةً إلى مكران التي يظهر أنَّها كانت قد انتفضت، فأعاد فتحها عنوةً وأقام بها وضبط البلاد.
دوافع فتح السند
الرغبة في نشر الإسلام، حيث كانت فُتُوحات المُسلمين قد وصلت إلى حدود الصين شرقاً، كما كانت تسيرُ سيراً حثيثاً مُرضياً إلى جنوب غرب أوروبا. فكان فتح السند نتيجة طبيعيَّة وحتميَّة، خاصَّة بعد أن فُتحت بلاد فارس وأقاليمها. إذ إنَّهُ بعد أن دخل إقليما كرمان ومكران، من أراضي فارس، تحت المظلَّة الإسلاميَّة، كان لا بُدَّ أن تدخل الأقاليم المُجاورة لهما هي الأُخرى، تحت المظلَّة نفسها أيضاً، سواء عاجلاً أم آجلاً. كما أنَّ الإيمان القويّ المتين للمُسلمين الأوائل ورغبتهم بِنشر الإسلام، كونه أُنزل لِلناس أجمعين، دفعهم قُدُماً.
الاستعدادات العسكريَّة الإسلاميَّة
أرسل الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان رسالة إلى الحجَّاج بن يوسف الثقفي، يأمره بالاستعداد لفتح السند، وما إن وصلت رسالة الخليفة حتَّى عاد الحجاج وكتب إلى الخليفة رسالةً أُخرى يطلب فيها ستَّة آلاف مُقاتل من أشراف الشَّام وأبنائهم مع عدَّتهم الكاملة من السلاح والعتاد، كما طلب ذِكر أسمائهم فرداً فرداً حتى يعرفهم شخصياً، ويصمدوا في الحرب رجالاً أشدَّاء. ولمَّا وصل الجُنُود إلى الحجَّاج أضاف إليهم مجموعة من المُتطوعين من العراق عامَّةً والبصرة خاصَّةً.
اختار الحجَّاج ابن عمِّه مُحمَّد بن القاسم، وكان في بلاد فارس، وعقد لهُ على ثغر السند، وضمَّ إليه جُنُود بلاد الشام الستة آلاف ومُتطوِّعي العراق، وجهَّزهُ بِكُلِّ ما احتاج إليه من العتاد، وبارك له غزوه وسفره وترحاله.
سار مُحمَّد بن القاسم إلى شيراز وعسكر بها ريثما يصله المدد. ثُمَّ أمر الحجَّاج أن يُجمع كل ما هو موجود من المجانيق والسِّهام والرِّماح ووضعها في السُفُن الحربيَّة، وعيَّن خُريم بن عمرو المرِّي على رأس القُوَّة البحريَّة، وأوصاه إذا حصل خللٌ في السُفُن أن يُجاهد ويجتهد في إصلاحها. وعمد الحجَّاج إلى القُطُن المحلوج، فنُقع بِالخلِّ الحاذق، ثُمَّ جُفِّف في الظل، فقال: «إِذَا صِرتُم إِلى السِّندِ فَإِنَّ الخَلَّ بِهَا ضَيِّقٌ، فَانقَعُوا هَذَا القُطنَ فِي المَاءِ، ثُمَّ اطبُخُوا بِهِ واصطَبِغُوا». أُرسلت المُؤن والعتاد إلى شيراز بِواسطة قافلةٍ كبيرةٍ من الجمال ذات السنامين، وكتب الحجَّاج إلى والي ثغر السند مُحمَّد بن هارون النمري أن يلتحق بِالحملة مع جميع من كان معهُ من الرجال، والقائد العام لها مُحمَّد بن القاسم. بناءً على ذلك، تجمَّعت تحت إدارة مُحمَّد بن القاسم قُوَّاتٌ تُقدَّرُ بِحوالي خمسة عشر إلى عشرين ألف رجُلٍ تقريباً. وفي أواخر سنة 92هـ المُوافقة لِسنة 711م، سارت الحملة من شيراز، مُتجهةً من الشرق، وسالِكةً الطريق نفسها التي سلكها الإسكندر الأكبر أثناء رحلة العودة من حملته الشرقيَّة المشهورة، حيثُ سارت، كما يبدو، مُحاذيةً لِمياه بحر العرب، حتَّى لا تكون بعيدة عن السُفُن الإسلاميَّة التي سلكت هي الأُخرى البحر، بِالقُرب من اليابسة، على مرأى من القُوَّات البريَّة.
فتح الديبُل
توجَّه مُحمَّد بن القاسم بِجيشه الجرَّار إلى مدينة الديبُل، وهي هدفه الأكبر. وكان آنذاك «جيسيه بن داهر» أميراً على النيرون، فكتب رسالةً إلى أبيه يُخبره بِقُدُوم المُسلمين، ويسأله السماح له بِقتالهم. استدعى داهر أعيان العلافيين العرب واستشارهم في الأمر، فقالوا له إنَّ مُحمَّد بن القاسم هو ابن عم الحجَّاج، وقد جاء بِجيشٍ قوامه الشُجعان من أبناء الشَّام، وقد جُهِّزوا بِكُلِّ أنواع السلاح، وإنَّهم قادمون لِقتاله، وأنَّهم (أي العلافيين) يُفضِّلون ألَّا يتقابلون معهم. فلمَّا سمع داهر أقوال العلافيين، منع ابنه جيسيه من مُقاتلة مُحمَّد بن القاسم وأتباعه. بعد خُرُوج مُحمَّد بن القاسم من أرمائيل، جعل مُحمَّد بن مُصعب بن عبد الرحمن على مُقدِّمة الجيش، وجهم بن زحر الجعفي على مُؤخرة الجيش، وعطيَّة بن سعد العوفي في الميمنة، وموسى بن سنان الهذلي على الميسرة، ثُمَّ جلب باقي المُقاتلين من الرُماة والخواض والسيَّافين معهُ إلى قلب الجيش حتَّى جاء يوم الجُمُعة من سنة 93هـ المُوافق لِسنة 712م، وابتدأت المعركة الفاصلة التي مهدت لفتح السند.
إعداد: نادر نايف محمد