جعلت التغيرات المناخية من الوصول إلى القطب الشمالي والاستفادة من ثرواته أمراً ممكناً، لذا اكتسبت تلك المنطقة من العالم أهمية جيواستراتيجية كبيرة في السنوات الأخيرة.. ما هي الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة القطب الشمالي؟ هل هناك تحديث في الاستراتيجيات العسكرية للدول تجاه المنطقة في ظل التطورات المناخية؟ كيف تتفاعل تلك القوى في تلك المنطقة، في ظل التطورات الجيوسياسية الحالية؟ كيف سيؤثر التنافس العالمي في تلك المنطقة على تغير الخارطة الاستراتيجية والعسكرية الدولية؟
تستهدف هذه الدراسة تقديم إجابات عن تلك الأسئلة. ولتحقيق ذلك تنقسم الدراسة لجزأين: الأول يوضح الأهمية الجيواستراتيجية للقطب الشمالي، والثاني يحلل مظاهر زيادة وتيرة عسكرة القطب الشمالي والتطورات الجيوسياسية التي أدت لذلك، وفي الخاتمة نستشرف مآلاتها.
أولاً: الأهمية الجيواستراتيجية للقطب الشمالي
في عام 2008، أفادت دراسة لمعهد الدراسات الجيولوجية في الولايات المتحدة الأمريكية بأن المنطقة القطبية الشمالية قد تحتوي على ما يناهز 13 ٪ من الموارد العالمية غير المكتشفة بعد من النفط، وعلى 30 ٪ من الموارد العالمية غير المكتشفة بعد من الغاز. كما يحرر الاحترار العالمي كلّ سنة مياه المنطقة القطبية الشمالية من سطوة الجليد، الأمر الذي يتيح فتح مسارات جديدة للملاحة البحرية تدريجياً، ما قد يسهم في اختصار المسافة الفاصلة بين روتردام ويوكوهاما بنسبة 40 ٪، مقارنة بالطريق التي تعبر عبر قناة السويس. ومن ناحية أخرى، فإن الطريق الشمالي الغربي، قبالة سواحل كندا، من شأنه أيضاً أن يقلل بشكل كبير المسافة بين المحيطين الأطلسي والهادئ. ومن أجل التعاون بين دول المنطقة تم إنشاء مجلس المنطقة القطبية الشمالية بموجب إعلان أوتاوا الذي وقعته في عام 1996 كل من كندا، والدانمارك، والولايات المتحدة الأمريكية، وفنلندا، وآيسلندا، والنرويج، وروسيا، والسويد.
ويمثل المجلس المحفل السياسي المرجعي للتعاون الإقليمي بشأن قضايا المنطقة القطبية الشمالية. وهو ليس منتدى لحوكمة المنطقة وإنما منتدى للتعاون بين الدول القطبية الشمالية. كما أنه لا يتناول القضايا العسكرية والسيادية الخارجة عن نطاق صلاحياته، فهو يركز على مناقشة مواضيع من شأنها أن تلقى إجماعاً بسهولة، مثل: التعاون العلمي، حماية البيئة، رفاهية الشعوب الأصلية وتنميتها الاقتصادية، سلامة الملاحة، وما إلى ذلك. أنظر للخارطة.
وبالإضافة لتلك الدول الثماني، تتمتع ست منظمات تمثل الشعوب الأصلية في القطب الشمالي بصفة مشارك دائم. كما أن هناك دولاً غير قطبية شمالية تم منحها صفة مراقب مثل ألمانيا، المملكة المتحدة، هولندا، بولندا فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، اليابان، الصين، الهند، كوريا الجنوبية، سنغافورة، سويسرا وذلك بالإضافة للعديد من المنظمات الدولية الأخرى مثل الأمم المتحدة من خلال بعض برامجها الخاصة بالبيئة والتنمية.
واستشرفت دراسة حديثة بأن القطب الشمالي قد يصبح خالياً من الجليد البحري في وقت مبكر من ثلاثينيات القرن الحالي، حتى في ظل سيناريو انبعاثات منخفضة، وذلك قبل نحو عقد من الزمن أسرع مما كان متوقعاً سابقاً.
أنظر الجدول الذي يبين أهمية القطب المتجمد الشمالي.
ووفقاً لأحدث التوقعات، ستمتلك روسيا ما يقرب من 41% من حجم احتياطيات النفط والغاز الطبيعي غير المكتشفة، في حين تمتلك الولايات المتحدة «عبر ألاسكا» 28%.
الشكل التوضيحي التالي يفصل توزيع احتياطيات الموارد الكربونية الأحفورية (النفط والغاز) بين الدول الساحلية المستغلة.
ثانياً: زيادة وتيرة عسكرة القطب الشمالي في ظل التطورات الجيوسياسية الحالية
عام 2022 في مؤتمر صحفي له من كندا، أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ أهمية منطقة القطب الشمالي لأمن الحلف، وأكد أن روسيا تستخدم تلك المنطقة في تجارب صواريخها فرط الصوتية وفي اختبار قدراتها العسكرية، كما أنها تحلق بطائراتها فوقها بشكل متواتر وممنهج. كما أشار إلى أن ذوبان الجليد في تلك المنطقة يجعلها أهم من أي وقت آخر، مشدداً على ضرورة الاستفادة من المنطقة عسكرياً واقتصادياً. كما أكد ستولتنبرغ أهمية تعزيز الوجود العسكري الكندي في هذه المنطقة وتأثيره الإيجابي على أمن أوروبا وحلفائها.
وفيما يتعلق بتأثير الحرب الروسية الأوكرانية على التوازنات العسكرية في القطب الشمالي، أكد الدكتور لوسون بريغهام، الباحث في جامعة ألاسكا فيربانكس، أن القطب الشمالي، الذي انضمت بلدان من دوله إلى حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بات مسرحاً للعسكرة أكثر من أي وقت مضى، وذلك للأسباب التالية:
انضمام فنلندا والسويد للناتو يجعل من 7 من دول القطب الثماني جزءاً من الناتو، مما يعني أن روسيا «الدولة الثامنة» سيكون عليها في المستقبل الجلوس إلى طاولة التعاون مع 7 أعضاء من الحلف. وهذا من شأنه أن يجعل التعاون الأمني والعسكري بين موسكو وباقي دول القطب صعباً، إن لم يكن مستحيلاً من جانب آخر انضمام فنلندا والسويد للناتو سيغير بالطبع من خطط الحلف والسعي أكثر لامتلاك أدوات الردع وتطوير القدرات العسكرية في تلك المنطقة.
مستقبل مجلس القطب الشمالي بات غامضاً أكثر من أي وقت مضي، فالمجلس الذي أسس عام 1996، اتخذ أعضاؤه، باستثناء روسيا، قراراً بتعليق عمله بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وفي هذا السياق، قالت الولايات المتحدة وكندا والدنمارك وفنلندا وآيسلندا والنرويج والسويد في بيان مشترك، إن «الدول السبع لا تزال مقتنعة بالقيمة الدائمة لمجلس القطب الشمالي للتعاون المحيطي»، مؤكدة دعمها لهذا المنتدى وعمله المهم، و بناء على ذلك أعلن عن اعتزام تلك الدول استئناف العمل ضمن إطار المجلس، على أن يكون ذلك مقتصراً على المشاريع التي لا تنطوي على مشاركة الاتحاد الروسي.
ما زالت إحدى دول القطب الشمالي وهي الولايات المتحدة خارج معاهدة «اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار»، وما زال تنفيذ العديد من المواد ذات الصلة بالمحيط القطبي الشمالي محل جدل بين الدول الأعضاء. مما يثير القلق بشأن استقرار المنطقة.
عدم حسم بعض الخلافات الحدودية بين دول القطب الشمالي، من أهمها الحدود بين الولايات المتحدة وروسيا وبين الولايات المتحدة وكندا وبين النرويج وروسيا.
ما سبق أدى إلى زيادة التركيز على تسارع وتيرة العسكرة والطلب على الأمن وإلى تعزيز قدرات الدول العسكرية في تلك المنطقة.
فعلى الجانب الروسي، تتمركز القوات الروسية في القطب الشمالي بكتيبة المشاة الآلية 200 وكذلك اللواء 80 وكتيبة المشاة البحرية 61. ومن المرجح تجميع الكتيبة 200 واللواء 80 في فرقة واحدة، وإنشاء تشكيلات عسكرية قوية منفصلة عن بعضها مثل فيلق للصواريخ وفيلق للدفاع الجوي وغيرها. كما اتخذت وزارة الدفاع الروسية قرار تشكيل جيش من أسلحة مشتركة جديد ليكون جزءاً من الأسطول الشمالي يغطي الحدود الروسية الشمالية، ومن ذلك الحدود مع فنلندا والنرويج. من بين أهداف هذا الجيش حماية شبه جزيرة كولا الشديدة الأهمية لروسيا نظراً لتمركز غواصات الصواريخ الاستراتيجية هناك.
كما تجري القوات المسلحة الروسية تدريبات بانتظام في خطوط العرض القطبية، وعلى وجه الخصوص مناورات أومكا السنوية التي تتضمن تدريب الأفراد وإجراء البحوث القطبية. فعلى سبيل المثال، قامت مفرزة من سفن الأسطول الشمالي، عام 2021 بالتدريب على هبوط برمائي في مناطق مختلفة من القطب الشمالي، اقتحمت خلاله وحدات من المشاة البحرية شواطئ قطبية.
ولا تتوقف روسيا عن تدعيم قوة أسطولها الشمالي، فقد زودته في السنوات الأخيرة بأحدث سفن الصناعة الروسية، وأصبح يضم أحدث حاملة صواريخ غواصة استراتيجية لمشروع «بوريه أ» وغواصة نووية متعددة الأغراض تستخدم صواريخ كروز من مشروع 885 «ياسين إم»، و885 إم «ياسين إم»، وتحمل هذه الغواصة صواريخ كاليبر كروز، ومن المخطط له أن يتم تسليحها قريباً بصاروخ «تسيركون» الذي تفوق سرعته سرعة الصوت. كما أن المزيد من أنظمة الصواريخ الساحلية «بال» و«باستيون» تتمركز اليوم على جزر القطب الشمالي، كما أعيد بناء المزيد من المطارات القطبية، ومن المنتظر نقل المزيد من القوات الروسية إلى القطب الشمالي من مناطق عسكرية أخرى برية وبحرية وبشكل مستمر. كما أن المنطقة القطبية الشمالية تحتضن أكثر من ثلث الرؤوس الحربية النووية الروسية. ومن المتوقع أن يفرض انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو على روسيا إنشاء جيش جديد لمواجهة الوضع الجديد وزيادة وتيرة التدريب على العمليات القتالية في ظروف القطب الشمالي.
من جانب الولايات المتحدة، قدّمت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في العام الماضي نسخة محدثة من الاستراتيجية الوطنية لمنطقة القطب الشمالي حتى عام 2032 تستهدف:
تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في القطب الشمالي
تكثيف التدريبات مع الدول الشريكة
تحديث الدفاع الجوي لردع العدوان في القطب الشمالي من طرف روسيا بشكل أساسي.
كما أبرمت الولايات المتحدة أيضاً اتفاقية دفاع ثنائية جديدة مع النرويج، كما تتفاوض مع فنلندا، والدنمارك، والسويد بشأن اتفاقيات مماثلة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوجود العسكري الأمريكي في آيسلندا آخذ في التطور. كما أن التدريبات العسكرية المشتركة بين القوات الأمريكية والنرويجية، والفنلندية، والسويدية في تزايد مستمر. كما ستعلن وزارة الدفاع الأمريكية عن استراتيجية جديدة للقطب الشمالي في أوائل عام 2024 فيما يبدو أنه سيكون رداً أكثر صرامة على تزايد النشاط العسكري الروسي والصيني في المنطقة وتزايد مؤشرات وجود تحالف متزايد بينهما خاصة قبالة سواحل ألاسكا.
من جانب آخر، شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً متزايداً من حلف شمال الأطلسي «الناتو» بمنطقة القطب الشمالي، وفي هذا الصدد، يؤكد الأدميرال روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي أن الحلف يجب أن يستعد للصراعات العسكرية الناشئة في القطب الشمالي وأن المنافسة والعسكرة المتزايدة في منطقة القطب الشمالي، وخاصة من جانب روسيا والصين، أمر مثير للقلق وأن ما يزيد الأمر سوءاً أنه ليس لدى الحلف وروسيا خط عسكري ساخن فعال رفيع المستوى لخفض أي تصعيد سريع ومفاجئ.
وفي عام 2022 كانت هناك ثلاث مناورات مركزية لحلف الناتو في القطب الشمالي وهي:
المناورات والتدريبات البحرية «نانوك الكبرى» في شمال كندا في أغسطس وسبتمبر، وبقيادة كندا بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا والدنمارك.
مناورة القوة الخاصة Adamant Serpent في سبتمبر، بقيادة العمليات الخاصة الأمريكية في أوروبا، بمشاركة كندا وفنلندا والنرويج والسويد والمملكة المتحدة. وكجزء من التدريب، تدربت القوات الخاصة النرويجية والأمريكية معاً في المناطق الداخلية من ترومسو، شمال النرويج.
المناورة البرية «جوينت فايكنغ» في شهر مارس بقيادة النرويج، وامتدادها البحري من خلال مناورة «جوينت واريور» بقيادة بريطانيا، في شمال النرويج. كما شاركت في تلك المناورات دول أخرى حليفة للناتو وصل مجموعها إلى 11 دولة.
من جانبها، تقوم النرويج بتدريبات واسعة النطاق مرة كل عامين شارك فيها عام 2022 أكثر من 30 ألف عسكري وأكثر من 200 طائرة و50 سفينة. وفي العام 2009، نقلت النرويج مقر القيادة الوطنية العسكرية المشتركة من جنوب البلاد إلى مدينة بودو Bodo في الشمال، واستثمرت في فرقاطات جديدة ومقاتلات جوينت سترايك. أما الدنمارك فقد أنشأت قيادة قطبية شمالية مشتركة في نوك في غرينلاند في قلب القطب الشمالي.
كما قامت السويد مؤخراً باستضافة مناورات «تحدي القطب الشمالي 21»، وهي إحدى أكبر مناورات وتدريبات القوات الجوية في أوروبا، وقد شارك فيها الولايات المتحدة والسويد وفنلندا والدنمارك وألمانيا وهولندا وبريطانيا بهدف إجراء مجموعة كاملة من تمرينات الدفاع الجوي، والدعم الجوي القريب، وكسر الدفاع الجوي، وتمارين قصف جو-أرض، في سماء القطب الشمالي. وفي مارس2015 وقعت النرويج والسويد اتفاقية لزيادة تعاونهما الدفاعي في القطب الشمالي.
من جانبها، أعلنت كندا من خلال وزيرة الدفاع الكندية أنيتا أناند عام 2022، تحديث نظامها الدفاعي الجوي والصاروخي في القطب الشمالي بالتعاون مع الولايات المتحدة. ومن أجل ذلك تم تخصيص ميزانية قدرها 4.9 مليار دولار كندي «3.6 مليار يورو» على مدى 6 سنوات. وعزت الوزيرة هذه الإجراءات الجديدة إلى «التهديدات العسكرية» المتزايدة من روسيا وظهور تقنيات جديدة للعدو، مثل الصواريخ الأسرع من الصوت. كما لفت النظر إلى أن تلك الميزانية الجديدة تمثل أهم تحديث خلال ما يقرب من 4 عقود. وسيجري إنفاق تلك الأموال على إنشاء رادارات أرضية، وأقمار اصطناعية قادرة على رصد القاذفات أو الصواريخ، إضافة إلى شبكات استشعار ذات «قدرات سرية» لمراقبة الأجسام المقتربة من الجو والبحر من القطب الشمالي إلى البر. وستحل الأنظمة الجديدة محل نظام الإنذار الشمالي القديم، الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة، والذي لم تعد محطاته الـ50 قادرة على رصد الصواريخ الحديثة. وفي مارس من نفس العام، أعلنت الحكومة الكندية نيتها شراء 88 مقاتلة أمريكية من طراز «إف-35»، لتحل محل أسطولها القديم، للقيام بدوريات في القطب الشمالي.
لا يمثل القطب الشمالي مسرحاً للتعاون ولا للصراع فقط للدول المطلة عليه، ولكنه أيضاً أصبح ساحة مستهدفة من قبل دول بعيدة عنه مثل فرنسا والصين، التي ترى نفسها دولة «شبه قطبية شمالية».
فمن جانبها، وفي العقود القليلة الماضية، أكدت الصين نفسها كقوة كبرى في القطب الشمالي وعززت من قدراتها على تغيير التوازنات الجيوسياسية والجيواقتصادية في تلك المنطقة. فالصين تُعرِّف نفسها بأنها «دولة مجاورة للقطب الشمالي» تعاني من ذوبان ذلك المحيط المتجمد. وفي يناير عام 2018 نشرت بكين كتابها الأبيض لطريق الحرير القطبي والاستراتيجية الصينية بخصوص القطب الشمالي، والذي دافعت فيه عن حقها في الملاحة في تلك المنطقة. ولكنها أوضحت الصين في ذات الوقت أنها ليس لديها مطالب في منطقة القطب الشمالي، ولا تنوى فرض قوتها عليه، وعقب مرور خمس سنوات من المفاوضات ومحاولتين فاشلتين، تمكنت بكين في عام 2013 من أن تأخذ صفة مراقب دائم في مجلس القطب الشمالي.
وبالرغم من ذلك، لم يخف وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في اجتماعه مع دول مجلس القطب الشمالي عام 2019 قلقه من الوجود الصيني في القطب الشمالي، حين أعلن بنبرة حادة «لا توجد دولة شبه قطبية، إما أن تكون قطبية وإما لا تكون»، وذلك في إشارة إلى عدم ارتياح الولايات المتحدة لوجود الصين في المجلس بصفة عضو مراقب.
ومن اللافت للنظر أن الصين استثمرت حوالي 12 مليار دولار في حقل يامل الروسي للغاز في القطب الشمالي، الموجود في بحر كارا، وهو أحد أضخم مشروعات الغاز الطبيعي المسال في العالم، والذي من المتوقع أن يضاعف إنتاج روسيا عندما يكون جاهزاً للعمل بكامل طاقته. فالصين بذلك تمتلك نسبة 30% من حقل يامل، مقسمة كالتالي: 20 % لشركة البترول الوطنية الصينية و10 % لصندوق طريق الحرير. كما تستثمر الصين في أماكن أخرى متعددة في القطب الشمالي وهو ما يسبق عادة تواجداً عسكرياً مباشراً أو غير مباشر لحماية تلك المصالح، خصوصاً في مكان مثل القطب الشمالي.
من جانبها، يبدو أن المصالح الدفاعية والأمنية الرئيسية لـفرنسا في القطب الشمالي لفرنسا هي في الأساس ذات طبيعة اقتصادية وأمنية وبيئية. فأي اعتداء على استقرار وأمن الفضاء القطبي الشمالي، الذي يشكل جبهة رائدة في استغلال الموارد المعدنية والطاقة ومنطقة عبور مستقبلية بين آسيا وأوروبا، من شأنه أن يؤثر على مصالح فرنسا الحالية والمستقبلية. وينطوي ذلك على وجه الخصوص على ضمان أمن إمداداتها من الطاقة وبشكل أكثر تحديداً المعادن الاستراتيجية الضرورية لقطاع التكنولوجيا الدفاعية العالية «النيوبيوم، التنتالوم، وما إلى ذلك».
كما تتضامن فرنسا مع دول منطقة القطب الشمالي بسبب عضويتها في الاتحاد الأوروبي «الدنمارك وفنلندا والسويد» والحلف الأطلسي «كندا والولايات المتحدة، الدنمارك، آيسلندا، النرويج»، وبالتالي فهي مهتمة بالاستقرار والأمان في هذه المنطقة الواقعة على بعد ما بين 2500 و5000 كيلومتر من الساحل الفرنسي.
وتري فرنسا أن الافتتاح التدريجي للطرق البحرية في القطب الشمالي، وزيادة الحركة التجارية التي ستشارك فيها قطع بحرية ترفع العلم الفرنسي، سيشكل تحديات جديدة لفرنسا، التي تعتبر نفسها قوة بحرية رائدة، مما سيتطلب منها: حماية السفن وإنقاذها، ومكافحة التلوث، والمسائل القانونية الأساسية المتعلقة بحرية الملاحة، وما إلى ذلك. وأخيراً، فإن الفضاء القطبي الشمالي هو مساحة مناورة للقوات البحرية الفرنسية. وعلى المستوى العملياتي، ترى القوات المسلحة الفرنسية أنه يتعين عليها أن تظل قادرة على استخدام منطقة القطب الشمالي من قبل قواتها الجوية والبحرية.
أخيراً، تقوم غواصة نووية وسفن الدعم التابعة للبحرية الفرنسية، والتي كانت قد رست مؤخراً في ترومسو، شمال النرويج، بمهام طويلة الأمد في القطب الشمالي. كما شاركت فرنسا في العديد من التدريبات البحرية في منطقة القطب الشمالي أهمها: Formidable Shield، وDynamic Mongoose، وJoint Warrior.
الخاتمة
يبدو أن وتيرة عسكرة القطب الشمالي مرشحة للتسارع في قابل الأيام، وليس أدل على ذلك من الاحداث الأخيرة: ففي شهر أغسطس 2023، نفذت روسيا والصين دورية بحرية مشتركة بالقرب من ألاسكا، لكن لم يحدد عدد السفن أو موقعها. في المقابل نقلت صحف أمريكية عن مسؤول بوزارة الدفاع أن 4 مدمرات أمريكية، وهي يو إس إس جون ماكين ويو إس إس بنفولد ويو إس إس جون فين ويو إس إس تشانج هون وطائرة بي-8 بوسيدون تعقبت تحركات هذه السفن.
وفي 17 سبتمبر 2023 صرح سفير المهام الخاصة في وزارة الخارجية الروسية نيقولاي كورشونوف بأن روسيا سترد على تعزيز «الناتو» وجوده العسكري في القطب الشمالي بمجموعة من التدابير. وفي اليوم التالي، نشرت وزارة الدفاع الروسية لقطات مصورة لتدريبات أجراها الجيش الروسي شمال شرق بحر بيرنغ وتشوكشي بالقطب الشمالي في منطقة تبعد حوالي 50 كيلومتراً من ولاية ألاسكا الأمريكية. وقالت الوزارة إن حوالي عشرة آلاف جندي وأكثر من 50 وحدة عسكرية شاركوا في التدريبات. وتخلل التدريبات إطلاق غواصات تعمل بالطاقة النووية لصواريخ كروز. وقالت موسكو إن هدف تلك التدريبات هو اختبار مدى استعدادها لصراع محتمل في مياهها الشمالية الجليدية وحماية طريق بحر الشمال.
وقد أعلن روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي، ما سمّاه «التهديد القطبي الشمالي» من الصين وروسيا، خلال منتدى الدائرة القطبية الشمالية، مُعتبراً أن «روسيا والصين تسببتا في منافسة عسكرية مُتسارعة في القطب الشمالي».
ما يزيد من وتيرة عسكرة القطب الشمالي أيضاً أنه يبدو أن الفاعلين من القوى الدولية في القطب الشمالي باتت مقتنعة أكثر من أن:
«من يسيطر على القطب الشمالي يسيطر على العالم». كما قال الأدميرال فاليري ألكسين، عام 1995.
السنوات القادمة ستحدد الشكل الذي سيكون عليه القطب الشمالي لفترة طويلة في المستقبل.
إن الذوبان المتسارع للجليد لا يجعل من السهل الوصول إلى الثروات الطبيعية للقطب الشمالي، لكنه أيضاً، وقبل كل شيء، يضع أوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية وجهاً لوجه، في مساحة جديدة من المواجهة، بعد ذوبان ما كان يفصل بينهم.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات)