بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، هجرت الأساطيل البحرية العسكرية للدول الكبرى البحار والمحيطات تدريجياً، بدءاً بالبحرية الروسية التي لم تشاهد لمدة قد تربو على العقدين إلا نادراً في أعالي البحار، وبالقرب فقط من قواعدها، لدرجة أن الولايات المتحدة قامت بتخفيض حجم أسطولها تدريجياً. ولم يعد الوعي بأهمية العودة الاستراتيجية للعمل البحري العسكري في الغرب إلا إلى أوائل عام 2010، بسبب تنامي الرغبة الصينية في السيطرة على بحر الصين الجنوبي وعلى مسارات طريق الحرير البحري. كما تشهد العديد من المناطق في المحيط الهادئ، وفي البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي، والقطب الشمالي إعادة تسليح بحري عسكري مطرد.
أهداف الدراسة:
أولاً: أهم محددات اتجاهات التسلح البحري في السنوات الست القادمة:
تشكل بيئة جيوسياسية مزمنة محفزة على احتدام التسلح البحري: في ضوء المستجدات الجيوسياسية، بلغ التنافس البحري بين القوى الإقليمية والدولية مستوى غير مسبوق، ففي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، على سبيل المثال، انتقل التنافس من مرحلة الاستحواذ على نصيب أكبر من النفوذ على الأمن البحري، إلى مرحلة جديدة على مستوى التسليح والجاهزية. كما هو الحال بالنسبة للبحرية الصينية PLA Nav التي وصلت إلى مستوى من القدرة التشغيلية والعملياتية لقِطَعِها البحرية، دفع الولايات المُتحدة وحلفاءها إلى مضاعفة استثماراتهم في رفع قدراتهم البحرية وتعديل استراتيجياتهم الأمنية ذات الصلة، خصوصاً بعد تعالي أصوات تقول إن عصر الهيمنة البحرية الأمريكية قد انتهى، وإن الولايات المتحدة قد تنازلت عن المحيطات لأعدائها. ولم يعد بوسعنا أن نعتبر حرية البحار أمراً مفروغاً منه.
وستسعى الصين للمزيد من السيطرة البحرية في الفترة ما بين 2024 و2030، وليس أدل على ذلك من دخول حاملة الطائرات «فوجيان» الخدمة العملياتية قبل نهاية عام 2025. حاملة الطائرات الصينية الجديدة تمتلك تكنولوجيا تشبه كثيراً التكنولوجيا الأمريكية، مثل نظام «المنجنيق الكهرومغناطيسي» الذي يسمح بإطلاق طائرات كبيرة الحجم وحديثة مثل المقاتلة الصينية J-15T وحاملات الوقود الضخمة الأخرى، بسهولة وفي وقت قصير، ويقلل الفاصل الزمني بين إطلاق الطائرات، مما سيمثل إضافة قوية للصين.
مقارنة بين القوات البحرية الأمريكية والصينية الرسم البياني المرفق يأخذ في الاعتبار فقط البحرية العسكرية الصينية بالمعنى الضيق «بحرية جيش التحرير الشعبي – PLAN» وليس أسطول خفر السواحل.
كما ستستمر الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة للحرب الروسية الأوكرانية على الأمن في توجيه التسلح البحري في السنوات القادمة. كما سيستمر فتح جبهات مواجهات وصراعات بحرية جديدة في العالم، وليس أدل على ذلك من اعتزام البحرية الهندية نهاية العام الماضي نشر 3 سفن مدمرة مزودة بصواريخ موجهة في بحر العرب، بعد تعرض سفن تجارية لهجوم قبالة الساحل الهندي، في مسعى منها لـ«الحفاظ على وجود رادع».
استمرار اتساع وتنوع ساحات السيطرة والحروب البحرية: ضم المجال البحري العسكري، بمرور الزمن، العديد من الساحات الجديدة، من أهمها العمليات الجوية- البحرية، والعمليات البرمائية، وفي الفترة ما بين 2024-2030 ستتجه القوات البحرية لتطوير نفسها أكثر من أي وقت مضى مع ساحات جديدة للصراع، من أهمها الصراع في المجال السيبراني والمعرفي، وكذلك تعزيز وجودها في الساحات المعقدة، مثل قاع البحار والمحيطات العميقة، وكذلك في الفضاء الخارجي، والمجال الكهرومغناطيسي.
مما لا شك فيه أن الرغبة في السيطرة على قاع البحار تزيد من وتيرة الصراع تحت الماء، وخاصة في ضوء أهميتها الاستراتيجية المتنامية بالنسبة للاقتصاد العالمي وفي مجال الاتصالات، حيث إن كابلات الألياف الضوئية البحرية هي التي توفر أكثر من 90% من حركة البيانات الرقمية حول العالم. وتكشف خريطة العالم للكابلات البحرية المهمة الكبيرة التي يتوجب على البحرية القيام بها أكثر فأكثر في السنوات القادمة لحماية الأعماق التي تقبع فيها تلك الكابلات التي يؤدي قطعها بلا شك إلى اضطرابات استراتيجية كبيرة.
إلى جانب كابلات الاتصالات، تم استخدام قاع البحار أيضاً في مجال الكابلات الكهربائية «مثل تلك التي تربط بين فرنسا وإيرلندا» وأنابيب الغاز والنفط «مثل نورد ستريم تحت بحر البلطيق أو التيار التركي تحت البحر الأسود»، وفي مجال مراكز البيانات المغمورة، مما سيتطلب اهتماماً متزايداً بهذه البيئة من قبل القوات البحرية في قابل الأيام. وبالتالي ستسعى القوات البحرية لتطوير قدراتها التشغيلية بشكل طولي من سطح البحر لأعماقه.
كما تسعى على سبيل المثال وزارة القوات المسلحة الفرنسية للسيطرة على قاع البحر لعمق يصل لـ 6000 م، وذلك على درب القوات البحرية الأمريكية والصينية من خلال مفاهيم مثل «حرب قاع البحر» أو «الجدار الصيني العظيم تحت الماء». ومن ثم فإن هذه الرؤية لمسألة «قاع البحر الاستراتيجية» ستتطلب، من ناحية التسليح العسكري، زيادة أو تطوير القدرات البحرية، ومن أهمها:
1- أنظمة استشعار دائمة أو شبه دائمة، وخاصة من خلال طائرات بدون طيار تحت الماء، لحماية المناطق الاستراتيجية.
2- أنظمة جمع ومعالجة البيانات التي تتيح معالجة المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستشعار.
3- قدرات التدخل ضد أي تهديد.
وبالتالي، فإن اتجاهات التسلح البحري في الفترة 2024-2030، مع رغبة بعض الدول الفاعلة مثل الصين، في إنشاء نظام غواصات استراتيجية لتقييد الوصول إلى مناطق معينة (A2/AD) لعدم السماح للقوات الأجنبية بالوصول إلى أراضيها (anti-access- A2)، مع تقييد فعاليتها في حالة تمكنها من اختراق الخطوط الدفاعية (AD-area denial)، يعتمد على تطوير قدرات جديدة، وكذلك على الأولوية المعطاة في هذا المجال. العديد من القوات البحرية ستكون في حاجة أكثر من أي وقت مضى للتكنولوجيات المتعلقة بحرب الألغام.
وعلى الطرف الآخر من الطيف الجغرافي، ستتزايد في الفترة 2024-2030، أكثر من أي وقت مضى، أهمية الجو والفضاء الخارجي للقوات البحرية، وذلك نظراً لزيادة سهولة الوصول إليهما «الجو والفضاء» من خلال دول لم يكن لديها إمكانيات ذلك في الماضي، وهكذا فإن ظهور شركات خاصة وتقنيات جديدة، قد يؤدي لزيادة محتملة في الصراع في الجو والفضاء. كما قد تندلع المزيد من الصراعات بسبب الحرمان من الوصول إلى وسائل الأقمار الصناعية، ومن الاستخدام المتزايد لوسائل التشويش والحروب السيبرانية. ونظراً لأهمية قدرات الأقمار الصناعية في المجال البحري، تجد القوات البحرية نفسها أسيرة لمفارقة زيادة الاعتماد على الفضاء لزيادة قدرات العمل، وفي الوقت نفسه، زيادة القدرة على الحد من اعتمادها على الفضاء، من خلال الملاحة المختلفة.
ومع تطور التكنولوجيات الرقمية العسكرية وقدرات الأقمار الصناعية العسكرية مثل نظام سيراكيوز الفرنسي، أصبحت إمكانية الاتصالات حقيقة واقعة. وبهذا المعنى، فإن رقمنة ساحة المعركة تأخذ، بالنسبة للقوات البحرية، مظهر الثورة العقائدية، المتمثلة في العبور من السفينة التي تم تصورها على أنها «عزلة اتصال» إلى السفينة باعتبارها «منصة اتصال»:
1- أفقي: القدرة على العمل المنسق بين منصات مختلفة، مأهولة وغير مأهولة على حد سواء.
2- رأسي: تكامل أنظمة الاتصالات أو معالجة البيانات من الجو والفضاء إلى قاع البحر.
تعد تلك الثورة في الجانب الاتصالي للقوات البحرية أيضاً شرطاً أساسياً إذاً لتكامل عدد معين من الأنظمة المرتبطة بقوة بالمجال الرقمي وأهمها الطائرات بدون طيار «الجوية أو السطحية أو تحت الماء»، والتي يجب أن تتمتع بقدرة اتصال دائمة أو ثابتة نسبياً على الأقل. وبالتالي فإن تزايد رقمنة ساحة المعركة للأساطيل البحرية الرئيسية في العالم سيتزايد في السنوات القادمة، وذلك ومن خلال التمحور حول ثلاث قضايا متداخلة ومركزية وهي:
أ ـ الحماية السيبرانية والكهرومغناطيسية لأنظمة معالجة البيانات والاتصالات بين المنصات «مسألة المقاومة».
ب ـ ضمان التشغيل البيني بين الأنظمة وروابط البيانات الخاصة بالحلفاء والشركاء، خارج نطاق حلف شمال الأطلسي الذي أخذ بالفعل هذا الجانب في الاعتبار بشكل كبير من خلال العمل على روابط البيانات التكتيكية «مسألة قابلية التشغيل البيني».
ج ـ ضمان الملاءمة بين تطور الأنظمة الرقمية البحرية على متن السفن وقدرة المنصات على الاستمرار في العمل بمستوى مُرْضٍ في حالة فقدان أو انقطاع الوصول إلى كل هذه الأنظمة أو جزء منها «مسألة المرونة».
ثانياً: أهم اتجاهات التسلح البحري في السنوات الست القادمة:
زيادة وتيرة «صورخة» القوات البحرية أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية الأهمية المتزايدة للصواريخ في العمليات البحرية الحديثة، سواء ضد أهداف برية موجهة من البحر أو ضد أهداف بحرية أو جوية، وذلك لدرجة أنه يمكننا القول إن الصواريخ هي عنصر حاسم في الحرب في البحر، وذلك رغم حداثة الاستخدام الذي بدأ خلال الحرب العالمية الثانية. إلا أن هذا الاستخدام لم يكن حاسماً إلا بداية من عام 1967، حيث ولأول مرة، دمر صاروخ، من نوع ستيكس سوفييتي الصنع أطلقه زورق دورية مصري، طراداً إسرائيلياً في البحر.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الصواريخ السلاح الأكثر استخداماً في الحروب البحرية، سواء كانت تحمل شحنات تقليدية أو نووية، وتعددت الوسائل القادرة على استخدامها: السفن السطحية والطائرات والغواصات، وكذلك الدفاعات الساحلية والآن الطائرات بدون طيار. ومن بين أهم مزايا استخدامها:
1- نطاقها الذي يسمح باستهداف العدو من بعيد دون المخاطرة المفرطة بالقاذفة.
2- الأنواع العديدة من الصواريخ الموجودة، سواء كانت كروز أو باليستية أو تفوق سرعتها سرعة الصوت، تسمح باستخدامها في جميع البيئات السطحية أو البحرية أو الجوية.
3- يمكن تحسين أدائها باستمرار، سواء من حيث قدراتها العسكرية أو في مداها، من بضع عشرات من الكيلومترات إلى عدة آلاف، وفي بعض الإصدارات العابرة للقارات، ما يتيح لها الوصول إلى جميع أنواع الأهداف.
ومن المتوقع تنامي تصنيع وتجارة الصواريخ في الفترة ما بين عامي 2024-2030 بسبب زيادة وتيرة التوترات في العالم والتصنيع المتزايد للسفن الحربية الجديدة. وبالرغم من تنوعها الكبير، فضلاً عن تصنيعها السري من قبل بعض البلدان، والذي يجعل من غير الممكن تقدير عددها بدقة، لكن الدراسات تبين أن سوق الصواريخ البحرية وأنظمة الإطلاق (لا يمكن الفصل بين الاثنين) سيزداد بنسبة قد تبلغ 6% سنوياً وذلك في الفترة ما بين 2024-2030.
وفي هذا السياق، من المتوقع أن يدعم نمو وتحديث البحرية الأمريكية في السنوات القادمة سوق الصواريخ. فعلى سبيل المثال، في أكتوبر 2023 حصلت شركة «هنتنغتون إنغالز إنداستريز (HII) الأمريكية لبناء السفن والغواصات، على عقد بقيمة 154.8 مليون دولار من البحرية الأمريكية لتحديث المدمرة الشبحية من طراز «USS Zumwalt DDG-1000». يتضمن التحديث تجهيز السفينة الحربية بمعدات وأنظمة كهربائية جديدة بالإضافة إلى منظومة صواريخ CPS التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
ومن المتوقع كذلك أن يؤدي البناء المخطط له لعشرات القواعد البحرية في العالم إلى توليد طلب كبير على أنظمة الصواريخ الجديدة. كما تقوم العديد من الدول أيضاً بتوسيع ترساناتها بسرعة لتجهيز أساطيلها المتوسعة. على سبيل المثال، ستقوم البحرية الكندية باستبدال السفن الحربية إيروكوا وهاليفاكس بـ 15 سفينة جديدة بحلول نهاية العقد، ويجب أن تكون مجهزة بصواريخ توماهوك وصواريخ سي سبارو البحرية ونظام الدفاع سي كابتور. وأعلنت الهند أيضاً أنها تريد الحصول على صواريخ كروز بعيدة المدى الأسرع من الصوت من نوع BrahMos لتجهيز سفنها الحربية الجديدة. يضاف إلى ذلك أن الشركات الكبرى المصنعة للأسلحة تتجه أكثر فأكثر لتصنيع الصواريخ ودخول لاعبين إقليمين محليين سوق تصنيع الصواريخ، كما هو الحال بشكل خاص بالنسبة لتركيا.
التطوير الرئيسي القادم هو الوصول بالصواريخ للسرعة والمناورة الفائقتين، أي الصواريخ التي ستتطور بسرعة أكبر من 5 ماخ مع القدرة على المناورة في نهاية المسار مما يجعل اعتراضها صعباً للغاية. ويقوم عدد قليل من البلدان بتطوير مثل هذه الصواريخ لتخطي المعوقات التكنولوجية المعقدة التي لا تزال تحد من إمكانية توظيفها.
وحتى بدايات عام 2023، كانت روسيا تمتلك صواريخ فائقة السرعة من نوع Zircon وطائرة شراعية تفوق سرعتها سرعة الصوت. كما أعلنت الصين أن لديها صواريخ باليستية مناورة DF21 وDF 26 وطائرات شراعية فرط صوتية. كما أن لدى الولايات المتحدة مشاريع صواريخ فائقة السرعة قيد التطوير، بما في ذلك طائرة شراعية فرط صوتية تهدف إلى ضرب أهداف أرضية بأحدث الطرادات والغواصات الهجومية النووية من فئة فرجينيا والتي ستدخل الخدمة حوالي عام 2025. وتعمل دول أخرى، مثل فرنسا واليابان والهند على تطوير صواريخ فرط صوتية لقواتها البحرية. فالبحرية الهندية على سبيل المثال أجرت بنجاح، في مارس 2023، تجربة لإطلاق صاروخ أسرع من الصوت من طراز «براهموس» من سفينة في بحر العرب.
ونظراً للتعقيدات التقنية والتكاليف الكبيرة للصواريخ الفرط الصوتية في المجال البحري، فمن غير المرجح على المدى القصير أن تتمكن الدول، حتى الأكثر تقدماً، من إنتاج هذه الأسلحة بأعداد كبيرة. ولكن الذي لا شك فيه أن هذه الصواريخ سيكون لها دور رادع في الحروب البحرية في الفترة ما بين 2024 و2030 وأن الأبحاث جارية بالفعل لابتكار دفاعات ضد هذه الأسلحة.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أواخر العام الماضي 2023، أن الغواصات النووية المتعددة الأغراض من فئة «ياسن-إم» تمتلك أسلحة هائلة من أهمها صواريخ دقيقة بعيدة المدى يمكنها ضرب الأهداف فوق الماء والمنشآت الساحلية وأن الغواصتين الجديدتين النوويتين «الإمبراطور ألكسندر الثالث» و«كراسنويارسك» هي حاملات صواريخ رهيبة لا مثيل لها في فئتها، تبدأ الخدمة كجزء من القوت البحرية الروسية، وأن روسيا ستستمر بالعمل على زيادة قوتها البحرية وتعزيز انتشارها البحري في جميع المناطق الاستراتيجية في المياه الدولية.
كما ستتنامى الشراكات والتعاون الدوليين في تصنيع الصواريخ، فعلى سبيل المثال، أعلنت النرويج وألمانيا أنهما تعملان بشكل مشترك على تطوير الصاروخ الجديد المضاد للسفن الأسرع من الصوت 3SM Tyrfing، والذي يهدف إلى خلافة Kongsberg NSM اعتباراً من عام 2035.
كما سيجبر الواقع الجديد لقدرات الصواريخ المضادة للسفن صانعي السياسة الدفاعية والاستراتيجيين البحريين إلى التكيف تجنباً للهزيمة، وفي هذا الصدد يحذر ألبرت بالازو من جامعة نيو ساوث ويلز من أنه «من المحتمل أننا في بداية قفزة في قدرة الصواريخ الأرضية المضادة للسفن».
تحقق طفرة في إنتاج واستخدام الأسلحة المعتمدة على «مبادئ w جديدة»
إذا كانت أنظمة الأسلحة التقليدية تعتمد على المبدأ الحركي لجسم، أو رصاصة، أو مقذوف، أو صاروخ يتسارع ويصيب الهدف، فإن الأسلحة القائمة على «مبادئ فيزيائية جديدة» مختلفة تماماً. فهي تصيب أهدافها من خلال نبض كهرومغناطيسي، ليزر، شعاع من الجسيمات المشحونة أو المحايدة. فعلى سبيل المثال يمكن لـ«أسلحة البلازما» تدمير أهداف جوية بدلاً من اللجوء للصواريخ.
ومن أبرز الأسلحة المعتمدة على «مبادئ فيزيائية جديدة» الأسلحة الكهرومغناطيسية «التي تستخدم تياراً قوياً ونابضاً عادة من الإشعاع البصري الكهرومغناطيسي المتماسك الموجود في بعض أنواع الليزر، أو الإشعاع البصري غير المتماس لتدمير أهدافها» وأسلحة الطاقة الموجهة والتي تعرف على أنها تكنولوجيا عسكرية لا تحتوي قذيفة نارية تقليدية، بل تعتمد على استخدام طاقة شديدة التركيز مثل الطاقة الكهربائية أو الليزرية، أو الأشعة الكهرومغناطيسية، وتوجيهها بدقة نحو الأهداف لتدميرها أو تعطيلها.
ويمكن تصنيف أسلحة الطاقة الموجهة تبعاً لنوع الطاقة المستخدم: الصوت والأشعة، والضوء، والجزيئات، والبلازما وأسلحة الموجات فائقة القصر «ميكروويف» عالية الطاقة. وتتراوح التأثيرات المرغوبة على الهدف ما بين التدمير المادي وإعادة التوجيه والارباك وتعطيل الآلات وإعاقة الأشخاص. وتستخدم تلك الأسلحة إما بإسقاط الطاقة المباشر «الأسلحة الليزرية والكهرومغناطيسية»، وإما باستخدام الطاقة لإطلاق مقذوف خامل «مدفع كهربائي»، كانت موضوع التطوير والتجريب لعدة سنوات سابقة، ولكن من المتوقع أن تشهد في السنوات القادمة زيادة في وتيرة التطوير والاستخدام، وذلك للميزات التالية:
1- توفر نطاق واسع ومبتكر من الاستخدام: بدءاً من مكافحة الطائرات بدون طيار وحتى إبطال مفعول الأقمار الصناعية.
2- الدقة.
3- السرعة.
4- توفر طيف واسع من الآثار المتدرجة للاختيار من بينها بحسب الساق (التعطيل، الشل، التدمير.. إلخ(.
5- انخفاض التكلفة: لا ذخيرة تقليدية.
6- الحد من الأضرار الجانبية.
7- توفر سرية عملياتية أعلى من الأسلحة التقليدية.
وكانت البحرية الأمريكية سبّاقة في استخدام أسلحة الطاقة الموجهة، ففي عام 2014 نجح سلاحها الليزري التجريبي «إيه إن/إس إي كيو - 3» (AN/SEQ-3) بقوة 33 كيلووات على متن سفينة نقل برمائية، في تدمير مدافع هيكلية مثبتة فوق قارب صغير من دون إلحاق ضرر بالقارب نفسه، كما تمكن من إسقاط طائرة بدون طيار أُطلقت من سفينة. وفي أغسطس 2022، نشرت البحرية الأمريكية أول سلاح ليزر يدخل الخدمة العملياتية، والمعروف باسم «الليزر عالي الطاقة مع جهاز مراقبة وإبهار بصري متكامل» (HELIOS) بقوة 60 كيلوواط، من إنتاج شركة «لوكهيد مارتن» والتي تؤكد أنه ليس من مجرد سلاح ليزري عالي الطاقة، فهو نظام أسلحة متكامل، حيث يشمل القدرات المتعددة المهام لنظام (HELIOS) الاستخبارات بعيدة المدى والمراقبة والاستطلاع (C-ISR)و (ISR) المضاد للطائرات بدون طيار مما يسمح للبحرية بتغيير قواعد اللعبة من خلال دمج تقنية الليزر عالي الطاقة وتكنولوجيا الإبهار البصري في السفينة ونظام القتال بسب التكلفة المنخفضة لكل عملية استهداف، وسرعتها ودقتها ما يمكن (HELIOS) من تلبية احتياجات الأسطول البحري الحديث الآن. كما أنه يتمتع بقابليته الفائقة للتطوير ودعم مستويات طاقة الليزر لمواجهة تهديدات المستقبل. كما تستهدف البحرية الأمريكية في عام 2024 لاختبار «برنامج الليزر عالي الطاقة المضاد لصواريخ كروز المضادة للسفن» (HELCAP) بقوة 300 كيلووات.
من جانبها، وعلى لسان رئيسها فلاديمير بوتين، في كلمة ألقاها في المنتدى الاقتصادي الشرقي الثامن، في مدينة فلاديفوستوك الروسية، أعلنت روسيا أنها تعمل على تصنيع أسلحة تعتمد على مبادئ فيزيائية جديدة ستضمن أمن أي بلد في المستقبل القريب، وذلك بابتكار وتطوير الأسلحة المصنعة بخواص فيزيائية فريدة على استخدام التكنولوجيات ومبادئ التشغيل الحديثة نوعياً أو غير المستخدمة سابقاً، وتشمل هذه الأنواع أسلحة الليزر والأشعة فوق الصوتية والترددات الراديوية وغيرها.
تطوير المزيد من المركبات البحرية غير المأهولة والغواصات المسيرة أبرزت الحرب الروسية الأوكرانية ازدياد المسيرات البحرية في الحروب الحديثة، كما يبدو أن الجيوش تسعى أكثر من أي وقت مضى لتقليل خسائرها البشرية، ومن هنا تتوقع الأدبيات، بأن المسيرات البحرية ستكون من أهم أدوات الحروب المستقبلية، لما لها من ميزات.
فيما شهدت السنوات الأخيرة طفرة في تطوير واستخدام الطائرات بدون طيار، فإنه من المرجح في السنوات القادمة أن يشهد قطاع التسلح البحري موجة مماثلة فيما يخص المركبات والقطع البحرية غير المأهولة والذاتية القيادة، إذ ستزداد الحاجة اليها واستخدامها في مهام المراقبة، فضلاً عن القيام ببعض المهام الهجومية. وتعمل العديد من الدول بالفعل على تطوير المزيد من الغواصات المسيرة، حيث يعد ذلك من أبرز الاتجاهات الصاعدة في عمليات تطوير القطع البحرية، وذلك لأكثر من سبب، من أبرزها أنها تحد من المخاطر والتهديدات التي يتعرَّض لها أفراد الطواقم والقطع البحرية الأغلى ثمناً. ستزيد في السنوات القادمة وتيرة تطوير القدرات التكنولوجية داخل القوات البحرية الرئيسية، مما سينعكس بزيادة في الأنظمة والمنصات غير المأهولة: الطائرات بدون طيار، سواء الجوية (Unmaned Aerial Vehicle / UAV)، أو السطحية (Unmaned Surface Vehicle / USV) أو القطع البحرية غير المؤهلة تحت الماء (Unmaned Underwater Vehicle / UUV)، والتي ستتمتع بقدرات تقنية إضافية محسنة من أهمها أجهزة استشعار فائقة.
الخاتمة
كما هو الحال دائماً، فإن المرونة والقدرة على التكيف، خصوصاً مع تأثير التغيرات المناخية، سوف تشكل المفتاح الرئيسي للتسلح في السنوات القادمة، لأي قوات بحرية تسعى لضمان قدرتها على مواجهة تحديات العقود القليلة المقبلة، وعلى رأسها بيئة جيوسياسية وعسكرية يسودها عدم اليقين. فالتمسك بوجهة نظر واحدة للبيئة الجيوسياسية كان أمراً مقبولاً عند الاستعداد لمواجهة خصم يمكن التنبؤ به، لكن مثل هذا النهج لا يصلح في سياق البيئة الديناميكية غير المؤكدة التي سيواجهها مجال القوات البحرية أكثر من أي وقت مضى. كما أن دمج التقنيات الجديدة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والاستفادة منها سيكون جزءاً لا يتجزأ لمجابهة التحديات التي ستواجهها القوات البحرية أكثر فأكثر في السنوات القادمة، ومن أهمها: التحديات الديموغرافية «الهجرة على سبيل المثال»، التحديات التكنولوجية، التحديات المتصلة بأمن البيانات/المعلومات والاتصالات، التحديات المتصلة بأمن الطاقة، التحديات البيئية والمناخية، وتحديات تحولات القوى الجيوسياسية والعسكرية.
وبناء على ما سبق، يمكننا القول إن المجالات الثلاثة التي تعمل بها القوات البحرية وهي «مجال سطح الماء» و«المجال الجوي» و«مجال تحت الماء» ستشهد ابتكارات وتطورات محددة لمستقبل التسليح البحري في العقود القادمة.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات)