يتضمن «الدفاع المرن» توظيف أسلوب انسحاب القوات من خندق إلى موقع دفاعي ثانوي بمجرد تعرض الخندق لإطلاق نار، ثم قيام القوات المنسحبة بشن هجوم مضاد عندما تقترب القوات المهاجمة من الخندق المهجور أو عندما تصل إليه مباشرة، وتكون منكشفة عسكرياً.
يعود تاريخياً استخدام هذا الأسلوب إلى الألمان، والذين قاموا بتطبيقه أثناء الحرب العالمية الأولى، وذلك حتى ظهور الدبابات، والتي أمدت المهاجم بقوة نيرانية متواصلة، مكنته في النهاية من اختراق الدفاعات العميقة. ولمواجهة ذلك، تم تعديل تكتيك «الدفاع المرن» في ثلاثينات القرن العشرين، وذلك من خلال عزل قوات المشاة المهاجمة عن الدبابات الداعمة لها. ويتم ذلك من خلال قيام الطرف المدافع بتوجيه نيران الأسلحة الخفيفة إلى قوات المشاة المهاجمة مع تجنب الدبابات، ثم استهداف الأخيرة من خلال المدافع المضادة للدبابات. ويتم كذلك عبر توظيف العقبات الطبيعية والمعدة مسبقاً من أجل إجبار الدبابات على السير في دروب معينة إلى مناطق يتم فيها استهداف هذه الدبابات أو إلى حقول الألغام المضادة للدبابات.
ومن جهة أخرى، استخدم الاتحاد السوفييتي نفس التكتيك أثناء هزيمته لألمانيا عام 1943، وتحديداً في معركة كورسك، وهي واحدة من أكبر المعارك على الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية. وفي المعارك العسكرية الحديثة، يعود نجاح القوات الروسية في إحباط الهجوم الأوكراني المضاد منتصف العام 2023، إلى اتباع الروس لهذا التكتيك العسكري. وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم تعريف للدفاع المرن، ثم توضيح كيفية تنظيم ميدان المعركة لكي يتناسب مع هذه النوعية من الدفاع، بالإضافة إلى توضيح كيفية إدارة الدفاع المرن، وأخيراً، بيان كيفية تطبيق روسيا هذا الأسلوب في حربها ضد أوكرانيا.
الدفاع المرن في العمق
يمكن تعريف «الدفاع المرن»، أو «الدفاع في العمق» أو الدفاع المرن في العمق» بأنه «الانسحاب التكتيكي من الأرض، التي يصعب الدفاع عنها، إذا لزم الأمر لصالح الحفاظ على القدرة على تحريك القوات، والعمل من عمق المنطقة، وذلك من خلال توظيف الاحتياطيات من القوات العسكرية». وبالتالي، لم يعد الغرض الرئيسي من الدفاع هو التمسك بكل شبر من الأرض، خاصة تلك التي تكون غير مجدية تكتيكياً، وتتسبب في خسائر فادحة للقوات المدافعة عنها. فقد أصبح الهدف هو تقليل خسائر القوات المدافعة مع زيادة خسائر العدو، وذلك من أجل كسب الوقت لتمكين القوات المدافعة من شن هجمات حاسمة في مرحلة تالية. وتتمثل المتطلبات الأساسية للدفاع المرن في توزيع القوات بالعمق في منطقة دفاع يصل عمقها إلى عشرة كيلومترات على طول الجبهة، فضلاً عن التنسيق الوثيق بين جميع أفرع القوات المسلحة، بما في ذلك القوات الجوية في المعركة. وكان هذا المفهوم ثورياً، في البداية، أي التخلي عن خطوط الدفاع الثابتة، والتي كانت ترتكز على الخنادق واستبداله بمفهوم الدفاع في العمق، والذي كان حجر الزاوية فيه يكمن في شن الهجوم المضاد، والذي يهدف إلى استعادة الخط الأصلي.
مناطق الدفاع في العمق
وفقاً للتكتيكات التي اتبعها الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى، كان يوجد في الدفاع المرن ثلاثة قطاعات هي: منطقة الموقع القتالي المتقدم ومنطقة المعركة والمنطقة الخلفية. تتناول الدراسة تشريح كل منطقة، بما في ذلك الوحدات المعينة ومهامها بالإضافة إلى تحديد مواقع الأسلحة الثقيلة والوحدات للهجوم المضاد. ويمكن تفصيل كل ذلك على النحو التالي:
منطقة الموقع القتالي المتقدم: يتم في هذه المنطقة محاولة حرمان العدو من القدرة على تحديد مناطق انتشار الدفاع وأعشاش المقاومة الفردية، وذلك من خلال نشر الدفاعات على منطقة واسعة، بالإضافة إلى القيام بعمليات واسعة ونشطة لإعاقة قدرات العدو على الاستطلاع، وهو ما يعيق من قدرته على جمع المعلومات الاستخبارية التكتيكية بشأن انتشار المواقع الدفاعية، كما أنه نظراً لأن خطوط الخنادق يتم تمويهها، فإنه سيكون من الصعب على عمليات الاستطلاع الجوي جمع معلومات استخباراتية مفصلة عن هذه المواقع الدفاعية كذلك. ويساعد على ذلك أن الحطام وبقايا المعدات العسكرية المدمرة الموجود في المنطقة المحيطة بالخنادق تحجب أي علامات واضحة لهذه الخنادق. ويتراوح عمق منطقة الموقع القتالي المتقدم ما بين 500 إلى 3000 متر.
منطقة المعركة: تجري في هذه المنطقة المعركة الحاسمة، وتقع على بعد 1000 إلى 2000 متر خلف الخطوط الأمامية الأصلية. ويتم تقسيمها إلى منطقة أمامية وخلفية. ويتراوح عمق المنطقة الأمامية ما بين 1500 إلى 2500 متر وتتمركز فيها كتيبة تكون جاهزة للانتشار. ويتم تنظيم 80% من القوة في شكل سرايا هجومية لشن هجمات مضادة فورية، بينما تسيطر نسبة الـ 20% من القوات المتبقية على نقاط قوية حصينة تقع على طول الحدود الخلفية للمنطقة الأمامية مع مدافع الرشاشات الثقيلة. ويتمثل الغرض الرئيسي من المدفعية هو دعم الهجمات المضادة للسرايا الهجومية.
أما المنطقة الخلفية من منطقة المعركة، فإنها تحتوي على كتيبة الاحتياط التي تتقدم عند الحاجة للسيطرة على خط إطلاق نيران المدفعية. وستكون الكتيبة الاحتياطية غير مجهدة لأنها تقع عادة في منطقة استراحة بعيدة عن نطاق مدفعية العدو. وللحفاظ على جاهزية الكتيبة، قام الألمان بتناوب كتائبهم كل أسبوعين بين منطقة الموقع القتالي المتقدم ومنطقة المعركة.
المنطقة الخلفية: تقوم فرقة كاملة من احتياطي الجيش الميداني بالتمركز في هذه المنطقة، وفي وضع يسمح لها بشن هجوم مضاد في غضون يومين من هجوم العدو. ويتم استخدام قوات الاحتياط للتخطيط والتنسيق مع القوات الموجودة في الخطوط الأمامية في شن الهجوم المضاد. وتتمركز هذه القوات في الخط الثالث من الخنادق على بعد 2 كيلومتر خلف خط المدفعية. وتقوم قوات الاحتياط هذه بمهاجمة العدو قبل أن يتمكن من تعزيز مكاسبه، وتهدف هذه القوات إلى سحق كل مقاومة في طريقها، وتعيد تأسيس تماسك خط الدفاع، حتى وإن لم يتم الوصول إلى خط المواجهة الأصلي.
سمات الدفاع المرن
يعود تاريخ تبني الدفاع المرن إلى العام 1916، عندما طبقه الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى. وكان للدفاع المرن ثلاث سمات رئيسية يمكن تفصيلها على النحو التالي:
العمق: يتم ذلك عبر بناء سلسلة من الخطوط الدفاعية التي تمتد إلى بضع كيلومترات. ويقدم العمق ميزتين. أولهما، منع المهاجم من استغلال الزخم العسكري، إذ أنه حتى عندما تتمكن قوات المشاة المهاجمة من الاستيلاء على الخندق الأول في أحد المواقع، فإنه سيكون عليهم التوقف مؤقتاً لإعادة تجميع صفوفهم وشن هجوم آخر على الموقع التالي. وبالتالي يستنزف كل هجوم متتالٍ الوقت والذخيرة والطاقة، بالإضافة إلى التسبب في سقوط المزيد من الضحايا. كما يتيح العمق الوقت للمدافعين لنقل قوات الاحتياط إلى المواقع التي تعرضت للهجوم. أما الميزة الثانية، فتتمثل في أنه كلما كانت الخطوط الدفاعية ذات عمق كبير، من الصعب على مدفعية القوات المهاجمة من الوصول إلى كل الخنادق، وهو ما يساعد في الحفاظ على القوة البشرية للقوات التي تتبنى وضعاً دفاعياً.
المرونة: تعني المرونة الحفاظ على قوات صغيرة نسبياً في معظم الخنادق الأمامية ومنح قادة الخطوط الأمامية سلطة التراجع إلى خط دفاعي رئيسي في حالة مواجهة قوة أكبر عدداً. ويلاحظ أنه في الدفاع المرن، تقاتل وحدات الخطوط الأمامية لفترة كافية لإبطاء الموجات الأولية للهجوم قبل التراجع إلى المواقع المعدة مسبقاً.
وكانت فكرة الانسحاب تلاقي مقاومة، إذ أنه حتى عام 1918، كان بعض الضباط يرفضون سحب معظم رجالهم من الخنادق الأمامية، وذلك لخوفهم من إخفاقهم في طرد القوات المهاجمة إذا سمحوا لهم بالحصول على موطئ قدم، فضلاً عن خشيتهم من انسحاب قادة الخطوط الأمامية عند ظهور أول تهديد. وتسبب هذا الأمر في تكبيد القوات المدافعة خسائر فادحة. ومن الأمثلة التاريخية على ذلك إيلاء الألمان، أثناء الحرب العالمية الأولى، أهمية بالغة لتلال «فيمي ريدج»، شمال فرنسا، باعتبارها مواقع قتالية مهمة لقوات المشاة للاحتماء بها، غير أن هذه «التلال المسيطرة» كانت مفيدة لأنها توفر نقاط مراقبة جيدة، لكنها، على الجانب الآخر، تفتقر إلى العمق المطلوب اللازم للدفاع عنها، إذ أنها تنحدر بشكل حاد نحو السهول. ونظراً للحسابات الخاطئة، فقد أولى الألمان أهمية كبيرة للاحتفاظ بها، مما كبدهم خسائر فادحة. وأثبت سير المعارك خطأ هذا الاستنتاج.
الهجوم المضاد: تقوم القوات، التي تتخذ وضعاً دفاعياً، بعد انسحابها بشن هجوم مضاد في أسرع وقت ممكن لاستعادة الأراضي المفقودة. وبالتالي فإن الدفاع المرن يتبنى تكتيكات هجومية كذلك. ولتسهيل الهجوم المضاد، يقوم المدافعون ببناء دشم خرسانية ونقاط قوية بين خطوط الخنادق، وتمويهها أو وضعها خارج نطاق المدفعية، وذلك لاستخدام هذه المواقع كنقاط تجمع وقاعدة إطلاق نار لتوفير الغطاء لوحدات الهجوم المضاد.
الحرب الروسية – الأوكرانية
من دراسة واقع المعارك الدائرة بين روسيا وأوكرانيا منذ فبراير 2022، يمكن القول إنها مرت بعدة مراحل، تباينت فيها التكتيكات العسكرية من فترة لأخرى. ففي الفترة الأولى من الحرب، وتحديداً منذ فبراير 2022، وحتى سبتمبر من نفس العام، تمكنت روسيا من السيطرة على مناطق واسعة من أوكرانيا تقدر بحوالي 23% من المساحة الإجمالية للبلاد، وذلك قبل أن تتراجع سيطرتها إلى حوالي 20% من أوكرانيا بعد هجوم الجيش الأوكراني المضاد في سبتمبر من نفس العام. وحينها قررت القيادة الروسية تغيير تكتيكاتها في الحرب ضد أوكرانيا المدعومة من حلف الناتو. فعوضاً عن سعي روسيا لتحقيق انتصار سريع ضد الجيش الأوكراني، بدأت تتبنى استراتيجية أخرى، وهي إنهاك واستنزاف هذا الجيش، ومن ورائه الدعم الغربي، وذلك عبر اتباع تكتيك «الدفاع المرن». وقد تمكن الجيش الروسي من خلال اتباع هذا التكتيك ليس فقط في تدمير أغلب القوات الأوكرانية المشاركة في الهجوم المضاد الذي بدأ في يونيو 2023، بل وتمهيد الطريق أمام شن الجيش الروسي لهجمات بهدف السيطرة على مناطق جديدة، وإن في مرحلة تالية.
وتتمثل أبرز التكتيكات التي اتبعها الجيش الروسي في بناء تحصينات واسعة، والتي تشمل حقول الألغام، وشبكة من الخنادق، والتي توفر المدفعية والمروحيات والطائرات المسيرة الدعم والحماية لها، بالإضافة إلى بناء حقول الألغام، والتي تراوح عمقها ما بين 120 متراً إلى 500 متر في بعض المناطق. وبالإضافة إلى ما سبق، قام الجيش الروسي بإعادة زرع الألغام في بعض المناطق التي هاجمها الجيش الأوكراني وانسحب منها، وذلك من خلال استخدام راجمة الألغام «زيمليديلي» الروسية، والتي تقوم بزراعة الألغام عن طريق إطلاق قذائف عيار 122 ملم.
وقد عجزت القوات الأوكرانية عن عبور هذه الحقول، وتكبدت خسائر فادحة، قدرت، وفقاً لوزير الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، بحوالي 90 ألف جندي، ما بين قتيل وجريح، بالإضافة إلى حوالي 600 دبابة، و1,900 مدرعة من كافة الأنواع، وذلك حتى أكتوبر 2023، بل واعترفت التقديرات الغربية بعجز الجيش الأوكراني عن تحقيق أي اختراق في الخطوط الدفاعية الروسية.
ومن جهة أخرى، عمدت روسيا إلى استهداف المدرعات الأوكرانية من دبابات وكاسحات الألغام باستخدام الطائرات المسيرة من طراز لانتسيت. ويحتاج الدفاع المرن كذلك إلى قيادة جيدة وقوات مدربة جيداً، فضلاً عن القدرة على توجيه ضربات مضادة حاسمة. وقامت عناصر من ألوية القوات الخاصة «سبيتسناز» الروسية بشن الهجوم المضاد ضد القوات الأوكرانية في منطقة رابوتين خلال محاولة الجيش الأوكراني انتزاع السيطرة عليها من الجيش الروسي. ويدخل ضمن هذه المعادلة كذلك توظيف الذخائر، فعلى الرغم من تحقيق أوكرانيا تفوقاً في نيران المدفعية في صيف 2023، وذلك عبر إطلاق الجيش الأوكراني حوالي 200 ألف طلقة مدفعية شهرياً، غير أن أوكرانيا سرعان ما خسرت هذه الميزة، خاصة بعد استنفاد مخزونات الناتو من الذخيرة، فضلاً عن تراجع معدلات إنتاجها مقارنة بالطلب الأوكراني عليها.
ومن جهة أخرى، تمكنت روسيا من رفع معدلات إنتاج الذخيرة محلياً. فوفقاً لتقديرات استخبارات حلف الناتو حول الإنتاج الدفاعي الروسي، تنتج روسيا حوالي 250 ألف قطعة ذخيرة مدفعية شهرياً، أو حوالي 3 ملايين سنوياً، في حين أكد مسؤول كبير في المخابرات الأوروبية أن الولايات المتحدة وأوروبا لديهما القدرة على إنتاج حوالي 1.2 مليون ذخيرة سنوياً فقط لإرسالها إلى كييف، بينما حدد الجيش الأمريكي هدفاً لإنتاج 100 ألف طلقة مدفعية شهرياً بحلول نهاية عام 2025، أي أقل من نصف الإنتاج الشهري لموسكو.
ويضاف إلى ما سبق توجيه روسيا ضربات مكثفة ضد البنية التحتية الصناعية العسكرية الأوكرانية، وهو ما يجعل كييف تعتمد تدريجياً على الدعم الغربي المتواصل لها بالأسلحة. ويجعل من الصعب على أوكرانيا وحلف الناتو أن يجاريا الإنتاج الصناعي العسكري الروسي.
وأخيراً، لا يمكن إغفال دور التفوق الجوي الروسي في إحباط الهجوم الأوكراني، إذ تمكنت القوات الجوية الروسية من قصف القوات الأوكرانية من ارتفاع متوسط، مما زاد من دقة ضرباتها، وهو ما تم بعد نجاح روسيا في تجريد أوكرانيا من دفاعاتها الجوية. واتبعت موسكو في ذلك استراتيجية استندت إلى إنهاك الدفاعات الجوية الأوكرانية عبر إطلاق، على سبيل المثال، نحو 500 صاروخ باليستي وطائرة مسيرة على مدار خمسة أيام ضد أوكرانيا. وأدى اتباع روسيا لهذا التكتيك مراراً إلى استنزف نظم الدفاع الجوي الأوكرانية.
وفي الختام، يمكن القول إنه بمراجعة مفهوم الدفاع المرن، فإنه يلاحظ أنه على مدار التاريخ العسكري، تطور المفهوم من حقبة إلى أخرى. وعلى الرغم من أنه في بعض الحالات، لم ينجح هذا المفهوم، فإنه أثبت فاعليته في العديد من المعارك، وإن كان يجب الأخذ في الاعتبار أن هذا التكتيك العسكري لا يمكنه الصمود بمفرده، بل يحتاج إلى عوامل كثيرة لكي ينجح، مثل انضباط القوات وكفاءتها القتالية والإنتاج الصناعي الضخم، وغيرها من العوامل.
» د. شادي عبدالوهاب
(أستاذ مشارك بكلية الدفاع الوطني أبوظبي)