قائد معركة بلاط الشهداء، تابعي جليل، يُدعى بأبي سعيد، واسمُه عبد الرحمن بن عبدالله الغافقي، من قبيلة عكّة، وُلِدَ وترعرع في اليمن، ونشأ على عبادة الله، فتعلّم القرآن الكريم والحديث الشريف عن مجموعةٍ من الصحابة الكرام، على رأسهم عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما، وعُرف بوَرعه وتُقاه، ثمّ تدرّب على الفروسيّة وفنون القتال، وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، كما أجاد القيادة والتخطيط، حتى بزغ نجمُه بين أقرانه.
تولى الأندلس مرتين، الأولى عندما قدمه أهل الأندلس والياً عليهم بعد مقتل الوالي السمح بن مالك الخولاني، إلى أن حضر الوالي المعين من قبل الدولة الأموية عنبسة بن سحيم الكلبي في عام 103 هـ، والثانية بتكليف من والي إفريقيا عبيدالله بن الحبحاب عام 113 هـ.
ارتبط اسمه بقيادة المسلمين في معركة بلاط الشهداء الشهيرة (تُعرف أيضاً باسم معركة تور أو معركة بواتييه)، والتي انتهت بانتصار قوات الفرنجة وانسحاب جيش المسلمين بعد استشهاد عبد الرحمن الغافقي.
مُجريات المعركة
جمع عبد الرحمن جيشاً يعد من أكبر الجيوش التي جُمعت في تلك الفترة، وعبر به البرنيه، وزحف على مدينة آرل على نهر الرون لامتناعها عن أداء الجزية، ثم هزم جيش الدوق أودو دوق أقطانيا في معركة على ضفاف النهر، ثم عبر نهر الغارون واجتاح أقطانيا، واستولى على عاصمتها بردال بعد حصار قصير. ومنها اتجه إلى برجونية، واستولى على ليون وبيزانسون، ثم عبر اللوار قاصداً عاصمة الفرنج، بعد أن جنى جيش المسلمين من حملته تلك مغانم عظيمة.
بعد أن انهزم أودو أمام جيش المسلمين، لجأ إلى شارل مارتل يطلب العون والمدد، فأجابه شارل إلى ذلك، وجمع جيشاً من الغاليين والجرمان وزحف به لمقابلة جيش المسلمين. التقى الجيشان في وادٍ يقع بين مدينتي تور وبواتييه في معركة دامت لأكثر من سبعة أيام. وفي يومها الأخير، سقط الغافقي صريعاً بسهم أودى بحياته، وكانت وفاة عبد الرحمن في 27 شعبان 114 هـ/21 أكتوبر 732م، وقد عرفت تلك المعركة باسم معركة بلاط الشهداء.
شخصيته
يعد عبد الرحمن الغافقي من التابعين، وقد وصفه الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس» قائلاً: «كان رجلاً صالحاً، جميل السيرة في ولايته، عدل القسمة في الغنائم»، وقد كان عبد الرحمن قائداً بارعاً، ظهرت قدراته العسكرية في نجاحه في الانسحاب بجيش المسلمين في طولوشة، كما أجمعت النصوص اللاتينية عن قدراته الحربية، وكانت له أيضاً مهاراته الإدارية، فنجح في إعادة الوئام بين العرب المضرية واليمانية وجمع كلمتهم، حتى عده المؤرخون أعظم ولاة الأندلس.
إنجازات الغافقي
رحل عبد الرحمن الغافقي إلى إفريقيا، ثمّ وَفِد إلى سليمان بن عبدالملك وكان الخليفة الأموي آنذاك، ثمّ رحل إلى المغرب، ثمّ أقام بديار موسى بن نصير، وانضم عبدالرحمن الغافقي إلى جيش القائد السّمح والي الأندلس، وفي ذلك الوقت رأى القائد السّمِح ضرورة اختراق فرنسا من جهة الأندلس وإخضاعها للحكم، فقام بتجهيز الجيوش، وانطلق إلى طولوشة وتُدعى اليوم تولوز، وهي على حدود فرنسا، وكان ذلك عام ١٠٢هـ/٧٢١م، وقاتل فيها قتالاً عظيماً حتى أُصيب بطعنةٍ أردَتْه شهيداً، حينها اضطرب حال جيش المسلمين اضطراباً شديداً، وهُزم المسلون في تلك المعركة، مما كان سبباً في حرمان أوروبا، والتي كانت تعيش حينها في عصر الظلام، من نور الحضارة الإسلامية، والذي تجلى بأبهى صوره في الأندلس، والتي بنى فيها المسلمون حضارة سادت العالم حينها، وأفاضت عليه من العلوم والمعارف، ما جعلها قِبلة للعلماء والأدباء والمفكرين من كافة أنحاء المعمورة.
ولّى هشام بن عبد الملك عبد الرحمن الغافقي على إمارة الأندلس، فبدأ يطوف الأراضي والبلدان مجهّزاً الناس لفتح غاليا، المعروفة حالياً بفرنسا. وبدأ عبد الرحمن الغافقي بإصلاح نظام الضرائب، وردِّ المظالم إلى أهلها، وإعادة تنظيم صفوف الجيش، وتأسيس فرق النخبة من فرسان البربر، وأخمد دعوات الفتن والقلاقل حتى أصبحت البلاد جاهزةً لاستكمال مسيرات الفتح الإسلاميّ، كما أنّه قام بدعوة المجاهدين من كلّ أقطار العالم الإسلامي، فتوافد إليه المجاهدون من مختلف الأقطار والأمصار، ويُذكر أنّه قد كان مُلهم جُندِه، فكان عادلاً مَرِناً مُحبّاً لهم، وكان عاشقاً للشهادة وللجهاد في سبيل الله، ممّا أعطى للجيش روحاً معنويّة مميّزة قلّ نظيرها.
مقدمات معركة بلاط الشهداء
إن الرؤية الإسلامية للفتوحات في أوروبا أنها الطريق لفتح القسطنطينية التي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها: (لَتُفتَحَنَّ القُسْطَنْطينيَّةُ، فنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ونِعْمُ الجيشُ ذلكَ الجيشُ)، وقد بدأت التخطيطات لفتح إسبانيا وفرنسا تمهيداً لفتح القسطنطينية منذُ فجر التاريخ الاسلاميّ، ومنذُ خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث انتدب قادة الفتح الإسلاميّ لهذه البلاد وأوصاهم، فقال: (إنّ القسطنطينية تُفتح من قِبَل الأندلس، وإنّكم إذا فتحتم ما أنتم بسبيله كنتم شركاء في الأجر مع من يفتح القسطنطينية)، وقد اتّخذ ولاة شمال إفريقيا مشروع فتح فرنسا نبراساً لخططهم وسياساتهم، وبدأوا بالتجهيزات لفرض حصار بريّ على القسطنطينية من خلال فتح فرنسا، وذلك لقطع المدد عنها عندما يحين موعد الفتح. كانت أوروبا في السنوات التي سبقت فتح الأندلس قارّة مليئة بالمُناكفات السياسيّة بين الأُسر الحاكمة، وقد جعلها هذا في حالة ضعف أمام أيّة فتوحات قادمة، لكنّ غارات عنبسة بن سحيم، رحمه الله، على فرنسا، وسيطرته على أجزاء منها جعل القادة الأوروبيين أكثر انتباهاً وتخوّفاً وتوحّداً ضدّ أي هجوم قد تتعرّض له فرنسا والعالم الأوروبي من جديد. تولّد في فرنسا حراك سياسي كبير، قاده القائد الصليبي شارل مارتل، وكان هذا الحراك يهدف إلى تجميع وحشد طاقات الجيوش الصليبيّة، والتغاضي عن الخلافات الدائرة بينها لصدّ المدّ الإسلامي القادم من الجنوب، وقد نجح شارل مارتل في ذلك، واستطاع إقناع أبناء الدّوق للتغاضي عن عدائهم لشارل وأبيه، وبذلك بدأت الجيوش الصليبية بالتجهّز لمواجهة الحملات الإسلاميّة على فرنسا. في هذه الأثناء كان الجيش الإسلامي بقيادة عبد الرحمن الغافقي، رحمه الله، قد توجّه إلى مدينة أكيتانيه الفرنسيّة، التي هي أرض الدّوق، وألحق بالجيوش الصليبيّة هزيمةً عسكريّةً كبيرةً، ذلك أنّ تلك الأرض كانت فقيرةً بمواردها البشريّة، وقد تركت هذه المعركة عدداً لا يُحصى من القتلى، ثمّ أكمل الجيش الإسلامي مسيره نحو الشمال الشرقي، باتجاه موقع معركة بلاط الشهداء.
أحداث معركة بلاط الشهداء ونتيجتها
خرج الجيش الإسلامي بقيادة الغافقي في رمضان 114هـ/732م وعدده يقارب السبعين ألف مقاتل، وبعد خوضه للمعركة مع جيش الدّوق وهزيمته، بدأت مُدن مقاطعة أكتانيا بالتساقط واحدةً تلو الأخرى، وتحطّم جيش الدّوق أمام جيش الملسمين، ممّا دعا ما تبقى من جيش الدّوق إلى الانسحاب والاحتماء بجيش شارل في الشمال، فواصل الجيش الإسلامي تقدّمه حتى وصل إلى أرضٍ بين مدينتي تور وبواتيه، وانتشرت القوات الإسلاميّة في ذلك السهل إلى يسار نهر اللوار هناك، وبدأت معركة بلاط الشهداء والتي استمرت قرابة العشرة أيام، دار فيها قتال عنيف، وبذل فيها الفريقان أقصى ما بوسعهما من طاقة، لكن جموع الصليبين كانوا أكثر عدداً وعُدّة، وقد أصيب القائد عبد الرحمن الغافقي بسهمٍ أرداه شهيداً، فانتشر خبر استشهاده، واستغلّ الصليبيون هذا الوضع فدخلوا إلى موضع القلب للجيش الإسلامي وأثخنوا فيهم قتلاً، فاضطر الجيش الإسلامي للانسحاب باتجاه أرجونه، مخلّفين وراءهم عدّةً كبيرةً، استولى عليها الصليبيون آنذاك.
نتيجة المعركة
أسفرت هذه المعركة عن انتصار قوات الفرنجة على الجيش الإسلامي بقيادة عبد الرحمن الغافقي، وقد قيل في نتيجة هذه المعركة أنه لو انتصرت القوات الإسلامية لفُتحت أوروبا أمام المسلمين، وانتشر الإسلام في كافة أرجاء القارة الأوروبية، ونُدرجُ هنا الآراء الأوروبيّة في معركة بلاط الشهداء، حيث إن الرأي الأوروبي يتوجّه باتجاهين مختلفين هما: الرأي الأول: يرى أنّ انتصار الصليبيين في هذه المعركة أنقذ أوروبا من قبضة المسلمين، الرأي الثاني: يرى بأنّ هزيمة المسلمين في هذه المعركة أخّرت تقدّم الحضارة الأوروبيّة قروناً طويلة.