ثمة اتجاه دولي راهن يدعو إلى ضرورة التوسع في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والتخلي عن الوقود الأحفوري، ويبدو أن الاهتمام الدولي بالطاقة الخضراء غير مدفوع بمساعي تجنب الآثار الكارثية للتغيرات المناخية فحسب، بل إن البعد الاقتصادي والحاجة إلى تحقيق استقلالية الطاقة يشكلان محدداً رئيسياً في هذا الأمر أيضاً. غير أن هذا التحول نحو الطاقة المتجددة لا يبدو مهمةً سهلةً، فهناك حاجة لمعدات موثوقة وأكثر تعقيداً، لعل أبرزها ما يتعلق بكابلات الطاقة المتجددة المنوطة بجمع ونقل هذا النوع من الطاقة.
شهدت الآونة الأخيرة تحركات دولية متزايد لإنشاء شبكات للطاقة تحت سطح البحر تربط قارات العالم المختلفة، من خلال كابلات بحرية للطاقة الخضراء تمتد لآلاف الأميال، وقد بدأت شبكات كابلات الطاقة الخضراء فعلياً في الانتشار عبر قاع البحار والمحيطات، حيث باتت هذه الآلية أحد الحلول المطروحة للتعامل مع أزمة التغيرات المناخية، ويمكن أن تشكل هذه الكابلات الخضراء أداة حاسمة لتسريع وتيرة استيعاب الطاقة النظيفة. بالتالي، تسعى كثير من الدول، التي تستهدف تحقيق التحول الأخضر، إلى الاستثمار في هذه الشبكات وصياغة علاقات جديدة تمهد الطريق نحو إعادة هيكلة الخريطة الجيوسياسية، الأمر الذي دفع بعض التقارير للإشارة إلى أن حروب الطاقة المستقبلية ستتركز غالباً في أعماق البحار والمحيطات.
ماهية كابلات الطاقة الخضراء تحت سطح البحر
شهدت السنوات القليلة الماضية تسارعاً ملحوظاً في وتيرة الابتعاد عن الطاقة غير المتجددة الناتجة عن الوقود الأحفوري، نحو الطاقة الخضراء، وهو ما تجسد بوضوح في الأهداف الطموحة الي وضعتها الدول المختلفة في هذا الاتجاه، وجاءت الحرب الروسية ـــــ الأوكرانية لتؤكد ضرورة تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. ويتسق هذا الطرح مع تقديرات وكالة الطاقة الدولية التي توقعت نمواً في سعة الطاقة المتجددة بحوالي 2400 جيجاوت في عام 2027.
وفي إطار التحول الدولي المتنامي باتجاه الطاقة الخضراء، كان لا بد أن يكون هناك اهتمام واسع أيضاً بالكابلات البحرية المنوطة بنقل هذه الطاقة. وتعد كابلات الطاقة البحرية الخضراء أحد أنواع الكابلات البحرية طويلة المدى، المصممة لنقل الطاقة الكهربائية تحت سطح البحر. حيث تستخدم هذه الكابلات موصلات نحاسية محاطة بطبقات من سبائك الرصاص وأغلفة من البولي إيثيلين، مع تغطيتها بدروع من الأسلاك الفولاذية المجلفنة، من أجل حماية العناصر الداخلية المسؤولة عن توصيل الطاقة، مما يسمح لهذه الكابلات بتحمل ظروف التركيب والتشغيل تحت سطح البحر.
وتستهدف شبكة كابلات الطاقة البحرية موازنة أنظمة الطاقة بين الدول وتحقيق الاستفادة المشتركة من الاختلافات الموجودة في هذه الأنظمة، ففي ظل النمو المتزايد والمطرد لمصادر الطاقة المتجددة، لا سيما الرياح والطاقة الشمسية، والتي يختلف معدل انتاجها وفقاً لقوة النسيم وأشعة الشمس، باتت عملية التبادل وتقاسم مصادر الطاقة المختلفة ضرورة ملحة بشكل متزايد. فعلى سبيل المثال، تسعى بريطانيا للاستفادة من الطاقة الكهرومائية الضخمة الموجودة في النرويج، في المقابل ستتمكن الأخيرة من الاستفادة من موجات الكهرباء من مزارع الرياح الموجودة في بريطانيا.
وتسمح الكابلات البحرية لنقل الطاقة الخضراء بربط شبكة الطاقة الموجودة في دولة ما بأخرى، وهو ما بات معروفاً باسم «الموصلات»، فهي تتيح لشبكات الطاقة في الدول المختلفة الفرصة للعمل كنظام طاقة أكبر وأكثر شمولاً وتنوعاً، من خلال استخدام فوائض الطاقة الخضراء في دولة ما أو منطقة معينة لتعويض النقص في مناطق ودول أخرى. ويشهد الطلب على الكابلات البحرية لنقل الطاقة الخضرات طلباً متزايداً، فقد ارتفع هذا الطلب من حوالي 3 مليارات دولار في الفترة 2015 – 2020 إلى قرابة الـ 11 مليار دولار في عام 2022، ومن المتوقع أن يصل هذا الطلب إلى حوالي 32 مليار دولار بحلول عام 2032. في المقابل، هناك نقص نسبي في العرض المتوافر لكابلات الطاقة البحرية، في ظل قلة الشركات المتخصصة في هذا النوع من الكابلات، مع وجود العديد من المعوقات أمام الشركات الجديدة الراغبة في الدخول لهذا السوق، حيث تحتاج هذه الشركات لخبرات فنية معينة ومعدات متقدمة تمكنها من الانخراط في صنع هذه الكابلات ونشرها في أعماق البحار. وهو ما يجعل بعض الشركات، على غرار شركة «بريسميان» الإيطالية وشركة «إن كي تي» الدنماركية وشركة «نيكسانز» الفرنسية، تستحوذ على نحو 75% من سوق كابلات الطاقة الخضراء.
تزايد انتشار الكابلات البحرية للطاقة الخضراء
شهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في وتيرة انتشار كابلات الطاقة الخضراء في أعماق البحار والمحيطات، وتشكل حالة المملكة المتحدة أحد أبرز النماذج الرائدة في بناء هذا النوع من الشبكات، حيث تمتلك بريطانيا حالياً العديد من شبكات الكابلات البحرية الخاصة بنقل الطاقة الخضراء، فبالإضافة للكابلات الي تربط البلاد بالنرويج، هناك أيضاً مجموعة أخرى من الكابلات البحرية التي تربط بريطانيا بفرنسا وهولندا وبلجيكا، ويجري حالياً بناء شبكة جديدة من كابلات الطاقة الخضراء مع الدنمارك، بتكلفة تبلغ حوالي 2.7 مليار دولار. كما وقعت لندن على اتفاقية للطاقة الخضراء مع المغرب، للاستفادة من ساعات الشمس الطويلة والرياح القوية الموجودة في الرباط، ونقل 3.6 غيغاوات من الكهرباء الناتجة عن الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، عبر أربعة كابلات بحرية تمتد لنحو 3800 كيلومتر، ويتوقع أن يتمكن هذا المشروع من توفير نحو 8 % من احتاجات بريطانيا للطاقة.
بالإضافة لذلك، يتوقع أن تنتهي النرويج والمملكة المتحدة خلال عدة أشهر فقط من استكمال بناء أحد أطول الكابلات البحرية للطاقة الخضراء، وهو خط بحر الشمال، ويعد هذا الخط هو سابع شبكة للطاقة الخضراء بالنسبة للنرويج، وهو ما سيسمح لها بتصدير الطاقة الكهرومائية المتوفرة لديها. كما تخطط بريطانيا وألمانيا إلى تنفيذ مشروع (NeuConnect)، بتكلفة تقدر بحوالي 2.4 مليار جنيه إسترليني، وهو عبارة عن كابلات لنقل الطاقة الخضراء في قاع البحر بين جزيرة (Grain) بجنوب شرق إنجلترا، ومنطقة (Feddrewarden) بشمال غرب ألمانيا.
وعلى المنوال ذاته، يعد مشروع «صن كبل» أحد المشروعات التي وقعتها أستراليا مع سنغافورة بغية نقل الطاقة الشمسية من كانبرا إلى سنغافورة، حيث تقدر تكلفة المشروع بحوالي 19 مليار دولار أمريكي، وكانت قد طورته شركة «صن كابل» الأسترالية، ويفترض أن تتولى الشركة نقل الكهرباء إلى سنغافورة من خلال شبكة من الكابلات البحرية ممتدة لأكثر من 4000 كيلومتر.
من ناحية أخرى، في إطار خطة الممر الاقتصادي الأوسع الذي يستهدف ربط آسيا بالقارة الأوروبية عبر منطقة الشرق الأوسط، هناك خطط لبناء عدد من شبكات الطاقة الخضراء، أبرزها المشروع الذي يستهدف ربط الهند بالمملكة العربية السعودية من خلال كابلات بحرية تمر عبر بحر العرب.
أيضاً، بدأ مشروع Champlain Hudson Power Express (CHPE)، والذي سيربط بين كندا والولايات المتحدة، مؤخراً بتعويم كابلات الطاقة المتجددة عبر الحدود بين البلدين في بحيرة شامبلين، حيث يعد هذا المشروع، الذي بدأ عام 2022، أحد أكبر مشروعات نقل الطاقة الخضراء في الولايات المتحدة حتى الآن، ومن المفترض أن يقوم بنقل 1250 ميجاوات من الطاقة المتجددة، عبر كابلات بحرية ممتدة لمسافة تقدر بحوالي 545 كيلومتراً، من مقاطعة كيبيك الكندية إلى منطقة كوينز بولاية نيويورك الأمريكية، ويتوقع أن يوفر هذا المشروع حوالي 20 % من احتياجات نيويورك من الطاقة.
وعلى المنوال ذاته، كشفت بعض التقارير الغربية عن شبكة من الكابلات البحرية لنقل الطاقة المتجددة تسعى مجموعة من رواد الأعمال لبنائها حالياً في أعمال المحيط الأطلسي لربط القارة الأوروبية بأمريكا الشمالية، من خلال ثلاثة أزواج من الكابلات عالية الجهد، والتي يفترض أن تمتد لأكثر من 3218 كيلومتراً في قاع المحيط الأطلسي، لربط غرب كندا بغرب المملكة المتحدة، وغرب فرنسا بنيويورك، وتشير التقديرات إلى أن هذه الكابلات ستكون قادرة على نقل حوالي 6 غيغاوت من الطاقة في كلا الجانبين وبسرعة تفوق سرعة الضوء، وهو ما يعادل الطاقة الناتجة عن 6 محطات نووية.
وقد وقعت شركة Transelectrica الرومانية وشركة Azerenerji الأذريبيجانية وشركة (GSE) الجورجية وشركة (MVM) المجرية اتفاقية لتأسيس شركة جديدة مشتركة، هي شركة Green Energy Corridor، بهدف بناء شبكة من الكابلات البحرية تحت البحر الأسود، بطول 1196 كيلومتراً، بسعة 1 غيغاوات، لنقل الطاقة الخضراء إلى القارة الأوروبية، بتكلفة تقدر بحوالي 3.5 مليار يورو. بالإضافة لذلك، تعمل اليونان حالياً على الترويج لمشروع «GREGY» الذي سيكون مسؤول عن نقل 3 غيغاوات من الطاقة من مزارع الرياح والطاقة الشمسية في مصر وعدد من الدول الإفريقية إلى اليونان وعدة دول أوروبية، وتقدر تكلفة هذا المشروع بحوالي 3.7 مليار دولار، من خلال شبكة من الكابلات البحرية الممتدة لمسافة 1373 كيلومتراً.
دور الكابلات البحرية في تسريع التوجه للطاقة المتجددة
تشكل عملية نقل الطاقة المتجددة عبر الكابلات البحرية أداة مهمة لمساعدة الدول المختلفة على التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري، وهو ما يتسق مع تصريحات رئيس شركة (National Grid Ventures) البريطانية، كوردي أوهارا، الذي أكد أن التوسع في كابلات الطاقة الخضراء سيساعد الدول المختلفة على تحقيق أهدافها الخاصة بإزالة الكربون، ومن خلال هذه الكابلات ستتمكن الدول في أوقات عدم شروق الشمس أو ضعف قوة الرياح إلى الوصول إلى الطاقة الخضراء من دول أخرى.
وتعد عملية تقاسم الطاقة المتجددة بين الدول المختلفة أداة مهمة للانتقال من الوقود الأحفوري إلى التوسع في الاعتماد على الطاقة الخضراء، لذا تعمل القارة الأوروبية حالياً على تكثيف استثماراتها لمد الكابلات البحرية للحصول على الطاقة الخضراء، من خلال الاستفادة من نقاط القوة الموجودة في بعض الدول التي تتوافر فيها مصادر الطاقة المتجددة، سواء في النرويج الغنية بمصادر الطاقة الكهرومائية، أو دول شمال إفريقيا الغنية بالطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
وفي إطار التقدم الهائل والمطرد في الإنتاج والتكنولوجيا، باتت تكلفة الطاقة المتجددة في الوقت الراهن قادرة على المنافسة نسبياً مع مصادر الطاقة غير المتجددة، فعلى سبيل المثال، انخفضت تكلفة تركيب الطاقة الشمسية الكهروضوئية من 5.52 دولار/وات في عام 2010 إلى حوالي 1.13 دولار/وات في عام 2018، وذلك على نطاق المرافق، مع توقع مزيد من الانخفاض في هذه الأسعار خلال السنوات المقبلة.
لكن، تظل أحد أبرز الإشكاليات في انتشار الطاقة المتجددة ما يتعلق بالانقطاعات المحتملة لهذه الطاقة، ناهيك عن تقلبات جانب الطلب، بالإضافة لعدم التوافق في الشبكة الإقليمية للطاقة، الأمر الذي يتجاوز القدرة على التعامل مع تدابير التخزين والتخفيف وإدارة الطاقة الطاقة التقليدية، كما أن شبكات الطاقة الحالية غير قادرة على التكيف مع التغيرات الجذرية في مدخلات الطاقة، بالتالي فعملية دمج مصادر الطاقة المتجددة في الشبكة يحتاج لوضع لوائح ومعايير وأكواد جديدة، وذلك بهدف دمج متطلبات الجهد والتردد والجودة المختلفة بين البنية التحتية والمرافق الجديدة.
وفي هذا الإطار، تعد طريقة نقل الطاقة أحد أبرز الطرق التي طرحتها الأدبيات الغربية لاستيعاب عدم التوافق في شبكات الطاقة، حيث يتم نقلها عبر مسافات طويلة في شكل طاقة كهربائية، سواء عن طريق استخدام كابلات التيار المتردد عالي الجهد (HVAC) أو كابلات التيار المستمر عالي الجهد (HVDC)، وتتميز الأخيرة بتكلفة وخسائر تبديد أقل مقارنة بالأولى، لذا تعتمد أغلب شبكات الكابلات البحرية للطاقة الخضراء في القارة الأوروبية على كابلات (HVDC). وفي هذا الإطار، أشار تقرير صادر عن مجموعة الأبحاث الدولية (Climate Action Tracker) إلى أن الكابلات البحرية تمثل أداة حاسمة لتسريع عملية استيعاب الطاقة المتجددة في شبكات الطاقة الراهنة.
وعلى جانب آخر، طرحت بعض التقارير الغربية إمكانية الاستفادة من شبكات الغاز الطبيعي الحالية في عملية نقل الطاقة المتجددة، وذلك في شكل غاز الهيدروجين، حيث يتم الاعتماد على تقنيات تحويل الطاقة إلى غاز (PtG)، بيد أن هذه المشروعات لا تزال في المرحلة التجريبية.
هل تحول هذه الكابلات حروب الطاقة المستقبلية إلى أعماق المحيطات؟
يواجه المشهد العالمي للطاقة في الوقت الراهن تحولات هائلة، في ظل التطورات المتلاحقة لمصادر الطاقة المتجددة، لا ترتبط هذه التحولات فقط بإعادة تعريف طريقة إنتاج واستهلاك الطاقة، لكنها ستؤثر أيضاً في الصناعات المرتبطة بالطاقة، بما في ذلك صناعات الكابلات البحرية. وتنطوي التحركات الدولية الراهنة في مجال كابلات الطاقة المتجددة على بعض ملامح التنافس الدولي المحتمل في هذا المجال.
وقد ظلت القوة الجيوسياسية في النظام الدولي مرتبطة بالوقود الأحفوري بشكل وثيق خلال القرن الماضي، وكثيراً ما أدى القلق من نقص امدادات الغاز أو حظر النفط إلى إعادة هيكلة التحالفات أو حتى اندلاع الحروب. لكن يبدو أن شبكة الفائزين والخاسرين في ظل عالم الطاقة الخضراء ستشهد تغيرات جذرية. وفي إطار التحول الراهن إلى الطاقة النظيفة، والذي يبدو أنه يحدث بشكل أسرع من المتوقع، فإن النموذج الجيوساسي القديم لمراكز القوة المهيمنة على العلاقات الدولية في طريقه للاندثار، مع بروز فواعل جديدة تأخذ بزمام وقيادة نظام الطاقة الجديد.
وتماشياً مع نظام الطاقة الجديد، فإن عملية نقل الطاقة الخضراء عبر دول العالم يشكل إحدى أبرز سمات هذا النظام الناشئ، ففي ظل الاعتماد في نقل هذه الطاقة على الكابلات البحرية، تتجه المنافسة الدولية المقبلة في مجال الطاقة لأن تتركز في أعماق البحار والمحيطات.
وقد كشفت بعض التقارير الغربية عن عدة طرق رئيسية للدول لممارسة النفوذ في ظل نظام الطاقة الجديد، لعل أبرزها تصدير الطاقة الخضراء، والتحكم في المواد المستخدمة في إنتاج ونقل هذه الطاقة، كالليثيوم والكوبالت، بالإضافة لاكتساب ميزة تكنولوجية تنافسية تتعلق بهذا المجال، كبطاريات السيارات الكهربائية. ومن هذا المنطلق، ذهبت التقارير الغربية إلى أن الصين تتقدم بفارق كبير عن بقية الدول فيما يتعلق بأدوات ممارسة النفوذ في نظام الطاقة الجديد. فمن ناحية تمتلك بكين العديد من المعادن المهمة الضرورية للطاقة الخضراء ونقلها، كالنحاس والكوبالت والسيليكون والمعادن الأرضية النادرة، في ظل سيطرة الشركات الصينية على كثير من المناجم الخاصة بهذه المعادن، كمنجم «تينكي فونجوروم» للنحاس والكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والذي اشترته شركة (China Molybdenum) الصينية في عام 2016 من شركة «Freeport – McMoran» الأمريكية بحوالي 2.65 مليار دولار. بالإضافة لذلك تعد بكين أكبر منتج للبطاريات في العالم، كما أنها تنتج أكثر من 70 % من الألواح الشمسية الكهروضوئية في العالم، وحوالي نصف المركبات الكهربائية، فضلاً عن ثلث طاقة الرياح.
وعلى جانب آخر، تعد الصين نشطة للغاية في تطوير شبكات الكابلات البحرية للطاقة الخضراء، والتي تشكل العمود الفقري لنظام الطاقة النظيفة، لذا تمتلك الصين شبكة من الكابلات البحرية عالية الجهد، والتي تمتد عبر القارات المختلفة لتحقيق الربط العالمي للطاقة الخضراء.
في المقابل، تسعى الولايات المتحدة إلى اللحاق بهذه المنافسة الحادة مع الصين، فقد وضعت وزارة الخارجية الأمريكية خطة لتحسين الوصول إلى المعادن الأرضية النادرة ذات الأهمية الاستراتيجية في مجال الطاقة النظيفة. كذلك تعمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على فرض تعريفات جمركية على الألواح الكهروضوئية الصينية في إطار الحرب التجارية الراهنة، حيث تشكل التحركات الصينية في مجال الطاقة النظيفة وأدوات نقلها، لا سيما الكابلات البحرية، حالة من القلق المتزايد لدى الولايات المتحدة.
وقد ذهبت بعض التقديرات الغربية إلى اعتبار أن مشروع الكابلات البحرية عبر المحيط الأطلسي بين القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية، الذي يسمى بـ The North Atlantic Transmission One – Link (الناتو -L)، يستهدف تشكيل تحالفات استراتيجية من القوى الغربية لمواجهة روسيا والصين في إطار حروب الطاقة العالمية الراهنة، والدفع نحو تحويل هذه الحرب إلى أعماق البحار من خلال هذه الكابلات. حيث تعمد روسيا في المقابل إلى تصعيد هجمات في المنطقة الرمادية في المحيط الأطلسي وبحر الشمال رداً على الضغوطات الغربية المتزايدة عليها، وهو ما يمثل تهديداً للكابلات البحرية، وتفاقم حروب الطاقة تحت سطح البحر.
وبينما ترتكز المنافسة الصينية مع الولايات المتحدة والغرب فيما يتعلق بالكابلات البحرية على مساعي كل طرف تحقيق الهيمنة على هذا المجال الناشئ والحيوي في حروب الطاقة المستقبلية، إلا أن المنافسة الروسية في هذا الإطار تبدو مختلفة كثيراً عن الأهداف الصينية، فلطالما حصدت موسكو مزايا استراتيجية هائلة بسبب مواردها الهائلة من الغاز والنفط والفحم، بالتالي فالتوجهات الدولية الراهنة للتوسع في الاعتماد على الطاقة الخضراء، واتجاه مختلف الدول، بما في ذلك النفطية منها، للاستثمار في الطاقة المتجددة، يشكل تهديداً لهذه المزايا الاستراتيجية، لذا تنظر روسيا لهذه الكابلات البحرية بدرجة من الريبة.
وبناء عليه، يبدو أن حروب الطاقة المستقبلية تتجه نحو أعماق المحيطات والبحار، فبدلاً من الحروب التقليدية السابقة للطاقة والتي تركزت على حقول النفط والغاز ووسائل نقلها، تتجه حروب الطاقة المقبلة للتركيز على الكابلات البحرية التي توفر آليات مبتكرة لنقل الطاقة الخضراء بين الدول، بل وقارات العالم المختلفة، وهو ما قد يعزز من وتيرة التعاون الدولي في مجال الطاقة وتسريع وتيرة التخلي عن الوقود الأحفوري والتحول نحو الطاقة الخضراء. لكن، في المقابل يمكن أن تشكل هذه الكابلات ساحة جديدة للتنافس الدولي الحاد، الذي قد يصل لحد الصراعات العنيفة.
وفي الختام، باتت الكابلات البحرية لنقل الطاقة الخضراء أداة رئيسية في عملية التنمية الراهنة والاتجاه الدولي للتحول بعيداً عن الوقود الأحفوري، كما أنها تساعد على تسهيل الأسواق، بحيث يسمح للدولة التي لديها كهرباء ذات تكلفة عالية بشراء طاقة أرخص من دولة أخرى، على غرار خطوط الطاقة المتبادلة بين النرويج وبريطانيا. وتجدر الإشارة إلى أن الكابلات البحرية لنقل الطاقة المتجددة تشكل آلية مهمة لحل إشكالية عدم توافر هذه الطاقة بشكل مستدام بسبب اعتمادها بالأساس على أشعة الشمس والرياح، كما أن تقنيات تخزين الطاقة لم تصل بعد إلى الكمال، ما يعني الحاجة لنقل هذه الطاقة الزائدة إلى مناطق طلب أخرى، مع الاستعداد لعملية نقل عكسية للطاقة حال تراجع انتاجها في الطرف الأول وتوافرها في الثاني. ●
» عدنان موسى (مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة)