كان الردع النووي هو الشكل السائد بين الدول المتنافسة التي تمتلك أسلحة نووية، كما في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين باكستان والهند، وقد ساهم الردع النووي في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي. ومع ذلك، يثار التساؤل حول كيفية قيام دول غير نووية بتحقيق الردع في مواجهة دول تمتلك الأسلحة النووية.
مع امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي، وعدم امتلاك جارتها الجنوبية لمثل هذا السلاح، يثار التساؤل عن كيفية تحقيق الأخيرة للردع في مواجهة بيونج يانج، ومدى مصداقية مثل هذا الردع. ولذلك يكتسب هذا التساؤل أهمية، وهي كيف تحقق الدول غير النووية الردع في مواجهة الدول النووية. وسيتم استعراض عدد من الحالات والنماذج الدولية في هذا الإطار.
الردع النووي الممتد: ترتبط هذه السياسة بالولايات المتحدة تحديداً، ويقصد بها أن تمد واشنطن مظلتها النووية لدول أخرى، غير نووية، وذلك لتوفير الحماية لها في مواجهة الدول النووية، إذ يتمثل أحد الأهداف المعلنة لسياسة الأسلحة النووية الأمريكية في توسيع نطاق الردع ليشمل أكثر من 30 «حليفاً وشريكاً» للولايات المتحدة، إذ تسعى الأخيرة إلى طمأنة هذه الدول بأن الولايات المتحدة ستهب لنجدتها، بما في ذلك احتمال استخدام الأسلحة النووية الأمريكية، إذا ما تعرضت لهجوم.
وقد دعت مراجعات الوضع النووي في الأعوام 2010 و2018 و2022، وهي تقييمات دورية للسياسة النووية الأمريكية، إلى تعزيز الردع الممتد، وافترضت أن هذا الردع يدعم أهداف الولايات المتحدة في منع الانتشار النووي، أي أن حلفاء وشركاء الولايات المتحدة لن يتجهوا إلى امتلاك الأسلحة النووية، وذلك نظراً لثقتهم في أن واشنطن سوف تمد مظلتها النووية لحمايتهم من أي اعتداء. وعلى سبيل المثال، فإن اليابان تعلن في وثائقها للأمن القومي أن الدرع الممتد من خلال الأسلحة النووية الأمريكية هو عنصر أساسي لأمنها.
وبطبيعة الحال، فإن أحد الاختبارات الحقيقية لعقيدة الردع النووي الممتد هو ما إذا كان الحلفاء يؤمنون مصداقية في هذا المبدأ أم لا، بمعني مدى إيمانهم بأن واشنطن ستخوض حقاً حرباً نووية نيابة عنهم في مواجهة دولة معتدية، حتى لو ترتب على ذلك زيادة خطر الهجوم النووي على الأرض الأمريكية ذاتها. فقد دفع ذلك الهاجس فرنسا، على سبيل المثال، إلى امتلاك أسلحتها النووية الخاصة بها.
ومن وجهة نظر الخصوم، فهذه المشكلة حقيقة، إذ قد لا يعتقد المعتدون المحتملون أن بلداً ما سيقاتل دفاعاً عن حليف، خاصة إذا كان ذلك يخاطر بشن هجوم نووي على وطنه. وقد تكون الدولة المعرضة للتهديد قادرة على معالجة هذه المشكلة من خلال إقامة تحالفات رسمية مع الدول التي توفر لها الحماية النووية، أو من خلال نشر قوات نووية على أراضي الدولة الأولى، كما في قيام روسيا بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا لحمايتها من أي تهديدات أوكرانية – غربية.
ولكن على الجانب الآخر، فإنه من وجهة نظر بعض الدوائر في الولايات المتحدة، أن أحد مخاطر توسيع نطاق الحماية النووية، هو أن ذلك قد يجر واشنطن إلى حروب غير مرغوب فيها من قبل الدول المحمية التي قد تصبح أكثر تقبلاً للمخاطرة في مواجهة خصومها، الأمر الذي يعزز من فرص اندلاع مواجهات نووية بينهما.
ومع ذلك، يواجه مفهوم الردع النووي تحدياً، نظراً لتهديد المسؤولين الروس باستخدام الأسلحة النووية ضد أي دولة سوف تقوم بمساعدة أوكرانيا على استهداف العمق الروسي، حتى ولو تم ذلك باستخدام صواريخ تقليدية بعيدة المدى، فقد حذر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الغرب، في 26 سبتمبر 2024، بأن روسيا قد تستخدم الأسلحة النووية إذا تعرضت لضربات بصواريخ تقليدية، وأن موسكو ستعتبر أي هجوم عليها بدعم من قوة نووية هجوماً مشتركاً، أي أنه سوف يتوجب رداً من جانب روسيا باستخدام الأسلحة النووية على الدولتين.
ويرجع ذلك الموقف الروسي المتشدد في جانب منه إلى خشية موسكو من قيام الدول الغربية بتوظيف أوكرانيا لاستهداف المواقع النووية العسكرية المدنية الروسية. ولا يعد هذا الأمر مستبعداً، فقد سبق وأن قامت أوكرانيا باستهداف مفاعل زابوريجيا الأوكراني بعد سيطرة روسيا عليه، فضلاً عن سعيها لاستهداف مفاعل كورسك النووي، في 17 أغسطس 2024، وفقاً لتأكيدات موسكو، وهي بطبيعة الحال الاتهامات التي تنفيها الأخيرة.
استهداف المفاعلات المدنية: يمثل استهداف المفاعلات النووية أحد التهديدات التي اكتسبت بعداً جدياً بعد الحرب الروسية – الأوكرانية. ويلاحظ أن الصواريخ ذات الرؤوس الحربية يمكن أن تدمر الهياكل المحصنة، وخاصة إذا كانت هذه الصواريخ هي صواريخ فرط صوتية، إذ يمكن لهذه الصواريخ اختراق هيكل الاحتواء، ومن ثم قلب المفاعل. ويلاحظ أنه من أجل إحداث التأثير السابق، فإن الأمر يتطلب ضربات متعددة وأسلحة دقيقة التوجيه. ونظراً لأنه لا توجد وسيلة فعّالة لمنع الضربات من الصواريخ الباليستية، إذ إن الدفاعات الجوية والصاروخية لا يمكن أن تضمن سوى حماية جزئية، فإن مثل هذا التهديد يعد تهديداً جدياً.
وبالتالي، فإنه في بعض الحالات، يمكن تصور سيناريو تقوم فيه دولة باستهداف المفاعلات باستخدام ضربات صاروخية تقليدية لتحقيق ردع ضد دولة تمتلك أسلحة نووية، غير أن هذا الأمر يتطلب أولاً امتلاك الدولة صواريخ باليستية دقيقة التوجيه وبأعداد كافية، فضلاً عن وقوع هذه المفاعلات في موقع قريب من العاصمة، أو غيرها من المناطق الاستراتيجية في الدولة، أو أن تكون الدولة التي تمتلك المفاعل النووي صغيرة الحجم، بحيث يؤدي استهداف المفاعلات النووية بها، إلى تلوث نووي يصيب أراضي هذه الدولة بأكملها.
التحوط النووي: يمكن تعريف هذه الاستراتيجية بأنها «استراتيجية وطنية للاحتفاظ، أو على الأقل الظهور بمظهر الاحتفاظ، بخيار قابل للتطبيق لحيازة أسلحة نووية سريعة نسبياً، استناداً إلى قدرة تقنية محلية لإنتاجها، وذلك في إطار زمني قصير نسبياً يتراوح بين عدة أسابيع وبضع سنوات». وتندرج اليابان ضمن الدول التي تصنف تحت هذه الفئة من الدول.
ومع ذلك، فإن وجود بنية تحتية نووية متطورة ذات قدرة على إنتاج دورة وقود كاملة، وإن عكس قدراً من الكمون النووي، فإنه لا يعني بالضرورة أن الدولة تسعى إلى حيازة الأسلحة النووية، إذ إن ما يميز استراتيجية التحوط هو مزيج من الجهود المتضافرة لتحقيق الكمون النووي مصحوباً بوجود أدلة على سعي الدولة لحيازة السلاح النووي. وببساطة، يمكن تعريف التحوط النووي بأنه حالة الكمون النووي مع امتلاك الدولة للنية لامتلاك قنبلة نووية في النهاية.
ويلاحظ أن الولايات المتحدة قامت بسحب أسلحتها النووية من كوريا الجنوبية في عام 1991، كجزء من سعي واشنطن لإقناع بيونج يانج على فتح منشآتها النووية لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومع إخفاق الجهود الأمريكية لإثناء كوريا الشمالية عن المضي قدماً في تطوير برنامجها النووي، فضلاً عن امتلاك الأخيرة لقدرات نووية يمكنها من استهداف بعض المدن الأمريكية، فقد طالبت سيؤول واشنطن في أكتوبر 2017 بنشر أسلحة نووية تكتيكية أمريكية على أراضيها. ولكن على الجانب الآخر، تصاعدت الدعوات في كوريا الجنوبية لامتلاك السلاح النووي، فقد كشف استطلاع للرأي أجرته جالوب أن 60 % من الشعب هناك يؤيدون امتلاك بلادهم للسلاح النووي.
ويلاحظ أن هناك حالة من الخلاف بين واشنطن وسيؤول حول دور الولايات المتحدة في المعادلة النووية بين الكوريتين. ففي حين أن كوريا الجنوبية تفضل أن تقوم واشنطن بالإعلان صراحة عن استخدامها للسلاح النووي ضد كوريا الشمالية في حال استخدمت الأخيرة السلاح النووي، فإن واشنطن تفضل استخدام تصريحات غامضة، من قبيل أن استخدام بيونج يانج للسلاح النووي ضد جارتها الجنوبية سوف يقابل «برد سريع وساحق وحاسم»، و«سيؤدي إلى نهاية نظام كيم». كما أعلنت واشنطن كذلك أن الردع الأمريكي الموسع يستخدم «مجموعة كاملة من القدرات الدفاعية الأمريكية، بما في ذلك القدرات النووية والتقليدية والدفاع الصاروخي والقدرات غير النووية المتقدمة». ويفسر الكوريون الجنوبيون هذا التصريح الأمريكي بأنه غامض حول نوع القدرات التي ستستخدمها الولايات المتحدة رداً على هجوم نووي كوري شمالي، لأنه يعني ضمناً أنه حتى لو استخدمت كوريا الشمالية أسلحة نووية، فإن الولايات المتحدة قد تفضل الرد بالأسلحة التقليدية فقط. وبالنسبة للكوريين الجنوبيين، فإن مثل هذه السياسة المعلنة الغامضة تثير مخاوفهم.
ولذلك، فإن التحوط النووي قد يكون هو الخيار الأفضل بالنسبة لكوريا الجنوبية، خاصة وأن بعض الخبراء يؤكدون أن الأخيرة تعد قوة تكنولوجية ذات قدرات متقدمة في مجال التكنولوجيا النووية، إذ إن برنامجها النووي المدني هو أحد أكبر البرامج النووية المدنية وأكثرها تطوراً في العالم، مما يوفر أساساً كبيراً للتطبيقات العسكرية المحتملة. وتعني تقدم البلاد التقني في هذا القطاع أن الانتقال من القدرات النووية المدنية إلى القدرات النووية العسكرية يمكن أن يتحقق بسرعة نسبياً إذا ما اعتُبر ذلك ضرورياً من جانب القيادة السياسية للدولة.
ويرى بعض الخبراء أن السعودية قد تتجه هي الأخرى لتبني استراتيجية التحوط النووي، وذلك في حالة مضي إيران قدماً في تطوير برنامجها النووي وصولاً إلى امتلاك السلاح النووي، بينما يرى البعض الآخر أن هناك احتمالاً قائماً بأن تقدم المملكة العربية السعودية على الحصول على سلاح نووي من باكستان رداً على حيازة إيران للسلاح النووي. ويرى نفس هؤلاء الخبراء أن منع الرياض من امتلاك السلاح النووي ممكن، إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على تقديم ضمانات أمنية للسعودية في مواجهة احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي.
امتلاك سلاح مماثل: يلاحظ أن الدول تلجأ أحياناً إلى امتلاك السلاح النووي في مواجهة خصومها، كما هو الحال في حالة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، أو الهند وباكستان.
وهددت السعودية، في أكثر من مرة بامتلاك السلاح النووي في حالة امتلكت إيران سلاحاً مماثلاً، وجاء آخر هذه التهديدات، في 20 سبتمبر 2023، إذ ألمح ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في مقابلة مع قناة فوكس نيوز إلى أن بلاده «ستضطر» إلى الحصول على سلاح نووي في حال طورت إيران سلاحها النووي. وسبق وأن أعلن مسؤولون حكوميون كبار نيتهم تحقيق الاستقلالية الكاملة عبر امتلاك دورة الوقود النووي بأكملها، بما في ذلك قدرات التخصيب وإعادة المعالجة. وعلى الرغم من أن السعودية قد تواجه صعوبات في الحصول على التكنولوجيا النووية والوقود اللازم لبرنامجها من الولايات المتحدة، فإن الصين تبدو أكثر استعداداً للتعاون مع السعودية، بما في ذلك في المجالات المتعلقة بتخصيب اليورانيوم في الحدود التي تسمح بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ويلاحظ أن السياسات سابقة الذكر ليست مستقلة عن بعضها بعضاً تماماً، إذ قد يكون هناك ارتباط فيما بينها. وعلى سبيل المثال، فإن تهديد كوريا الجنوبية بامتلاك السلاح النووي لمواجهة تهديدات جاراتها الشمالية قد يهدف، في حقيقة الأمر، إلى فرض ضغوط على الولايات المتحدة لدفع واشنطن لتوفير المظلة النووية لكوريا الجنوبية في مواجهة بيونج يانج.
وفي الختام، يمكن القول إن الدول تتبنى استراتيجيات مختلفة لمواجهة مخاطر امتلاك خصومها للسلاح النووي. وهذه السياسات تتنوع في ضوء الفرص والقيود المتاحة لكل دولة، وكذلك حجم تطور برنامجها النووي المخصص للأغراض النووية، ومدى تقدمه، واستثمار هذا التقدم لأغراض امتلاك السلاح النووي.
» د. شادي عبدالوهاب
أستاذ مشارك في كلية الدفاع الوطني