ينصب عمل الاستخبارات الجوية، بالأساس، على توفير معلومات تشغيلية مفيدة لتقدم الوحدات في مسرح العمليات: البيانات الجغرافية والمادية والبشرية والسياسية، وما إلى ذلك من تدابير لجمع المعلومات المحددة والمحدثة عن تحركات العدو وتحديد مواقعه ونواياه: وذلك بالاستفادة من ميزة الوصول إلى عمق العدو وعلى ارتفاعات لا يستطيع العدو منع الوصول اليها. أو من خلال وسائل لا يستطيع العدو رصدها أو منع عملها.
نظراً لأن القوات الجوية هي أكثر القوات التي يستهدفها العدو ويحاول اختراقها نظراً لأنها القوة الحاسمة في الحروب الحديثة، فإن عمليات التمويه تعد أيضاً من صلب مهام الاستخبارات الجوية، سواء التمويه بالشكل التقليدي كإخفاء الطائرات على الأرض وفي الجو أو من خلال تقنية التعمية والتشويش على الرادارات والاتصالات على سبيل المثال. وبنظرة معمقة لتاريخ الاستخبارات الجوية، يبدو أن هناك ثابتين أساسيين في هذا المجال: الارتفاع (للتمكن من الرؤية الدقيقة والكاملة) والسرعة. ومن أجل الحصول على الميزة التنافسية للارتفاع، والتي تهدف لتوسيع مجال المراقبة والرؤية، يتصدر أولويات الاستخبارات الجوية توفير المعلومات للتغلب بشكل حازم على العقبات التي يمكن أن تحد من الوصول للارتفاع والتمكن من المراقبة من علو، والحد من قدرات العدو في هذا المجال. أما فيما يتعلق بالسرعة فرصد المعلومات ونقلها ومعالجتها وتحليلها بمعدل بالغ السرعة، بحيث يمكن استخدامها لتقييم الوضع واتخاذ القرارات في الوقت المناسب، من صميم عمل الاستخبارات الجوية منذ نشأتها. ومما لا شك فيه، أن إمكانات القوات الجوية، مثلها مثل الأفرع الأخرى للجيوش، يجب أن تُبنى بشكل تام على سياقات عالم اليوم، وطبيعة الحروب الحديثة المختلفة في ساحتها وكثافتها وسرعتها العالية، والتي تتطلب تكامل جميع الإمكانات والقدرات لتحقيق المهام المستهدفة، وفي القلب من هذه الإمكانات النفيسة، تلعب الاستخبارات الجوية الدور الرئيسي في مجابهة كافة أشكال التهديد، خصوصاً، الجوية منها في السلم أو أثناء العمليات. في هذا السياق، هل تعيد الاستخبارات الجوية ترتيب أولوياتها وكيف؟ تهدف هذه الدراسة للإجابة عن هذا السؤال في السطور القادمة.
أولاً: إعادة ترتيب أولويات نظام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) للقوى العظمى
أكدت دراسة لمركز أبحاث الكونجرس الأمريكي، صدرت عام 2018، بعنوان «تصميم منظومة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع لمنافسة القوى العظمى»، أن نظام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) للقوات الجوية الأمريكية كان يركز على مكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد. وأنه فقط في عام 2018 تم إقرار التحول نحو مجموعة من القدرات، تتألف أكثر من أي وقت مضى من طائرات مأهولة وغير /مأهولة، محدثة ومنصات وأجهزة استشعار حديثة جديدة قادرة على العمل بنجاح ضد المنافسين الجيواستراتيجيين. ولتحقيق ذلك، قررت قيادة القوات الجوية الأمريكية إعادة توجيه الاستثمارات التي كانت موجهة لقدرات استخباراتية لمكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد للاستثمار في قدرات أكثر ملاءمة للعمليات الاستخباراتية داخل المناطق الرمادية (المسافة الواقعة بين السلام والحرب)، وفي البيئات الجيوسياسية شديدة التنافس، وذلك للحفاظ على التفوق التشغيلي المتعلق بالمراقبة الذي يساعد في الحفاظ على الوعي الظرفي الواسع المستدام لكل مسارح العمليات الاستخبارية المستهدفة الآنية والمستقبلية.
ويمكن للشكل التوضيحي المرفق أن يوضح كيفية إعادة ترتيب أولويات نظام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الأمريكي بحلول عام 2028:
ثانياً: أهم التحديات التي دفعت بإعادة ترتيب أولويات الاستخبارات الجوية
1 تقلص الزمن المعطى للاستجابة والتمدد المطرد لمجال العمل
عدم الاستقرار الأمني المتزايد في عالم متعدد الأقطاب، سيؤدي إلى زيادة الحاجة إلى الاستخبارات الجوية، وتوسيع مجالات عملها بشكل كبير، لتتمكن ليس فقط من مراقبة مناطق الأزمات الحالية، بل والمحتملة أيضاً، واكتشاف التهديدات الجديدة، وفهم نوايا المنافسين الاستراتيجيين الأكثر تعقيداً. كما ستؤدي ثلاثية «التنافس والتنازع والمواجهة» التي باتت تحكم معادلات العلاقات الدولية إلى تعديل النهج الاستخباراتي وفي القلب منه الاستخبارات الجوية. حيث أصبحت الحاجة إلى تقييم القدرات والنيات الحقيقية لكل منافس ولكل منافس محتمل أمراً ضرورياً، لا سيما مع التطور المذهل في وسائل الخداع الحربي والتخفي.
أخيراً، تؤدي عودة الصراعات عالية الحدة في العالم إلى حتمية تطور النظام البيئي الاستخباراتي بشكل كبير وتخطيه لحدوده الحالية. فلقد ولَّد الصراع في أوكرانيا حاجة هائلة إلى تطوير الاستخبارات الأوروبية المتعلقة بالمصالح الجوية والتي تمتد من المستوى الاستراتيجي إلى المستوى التكتيكي بسرعة أكبر من أي وقت مضى.
ومن المتعارف عليه أنه لكي تكون سلسلة الاستخبارات فعالة، فإنها تعتمد على سرعة وكفاءة دورة عملياتية تبدأ بالملاحظة ثم التوجيه واتخاذ القرار وأخيراً التصرف (Observe-Orient-Decide-Act) والتي تختصر عادة بدورة (OODA)، والتي نظر لها العقيد جون بويد، الذي خدم في سلاح الجو الأمريكي (USAF) لمدة أربعة وعشرين عاماً وخاض ثلاث حروب. ومن أجل التمكن من الفوز، يجب أن تعمل المخابرات الجوية بوتيرة أو إيقاع أسرع من خصومها.
وفي سياق الصراعات عالية الحدة في عالم اليوم، عادة ما تستهدف الأطراف المتصارعة اختراق حلقة (OODA) الخاصة بخصومها، في كل مراحلها أو في بعضها (الملاحظة، التوجيه، اتخاذ القرار والتصرف).
2 تضخم البيانات وحتمية الانتقال «من الاستنزاف المعرفي إلى الإدراك المعرفي»
نظراً للنمو الهائل في البيانات، تعيد الاستخبارات الجوية التفكير في كيفية إجراء معالجة المعلومات الاستخبارات، واستغلالها، وتحليلها، ونشرها. ومن جانب آخر ربط منصات وأجهزة الاستشعار الاستخباراتية المتعددة مع الطيارين المكلفين للحصول على معلومات استخباراتية في الوقت الفعلي تقريباً.
ويكفي القول في هذا السياق إنه في عام 2013، استقبلت وكالة الاستخبارات الجوية والمراقبة والاستطلاع والتي تتبع القوات الجوية الأمريكية، والتي يطلق عليها الفرقة الجوية (25) 20 تيرابايتا من البيانات يومياً، عالجت منها 460 ألف ساعة فيديو، ونشرت 2.6 مليون صورة.
لمواجهة التحدي المعرفي الناتج عن النمو الهائل في البيانات التي تقدمها البيئة الاستراتيجية العالمية الجديدة، وأنشأت القوات الجوية الأمريكية أول مؤسسة قيادة مركزية للحرب المعلوماتية، والمعروفة باسم القوات الجوية السادسة عشرة 16th Air Force (16 AF)، والقوات الجوية السيبرانية Air Forces Cyber. يهدف التغيير إلى تحديث القوات الجوية من أجل نهج جديد للحرب، وقد وصفت القوات الجوية هذا التحول بأنه «من الاستنزاف إلى الإدراك».
لذا، تلجأ العديد من الاستخبارات الجوية لبرامج مثل برنامج C-cube والذي يقوم ببناء وتجميع ومعالجة عدد كبير من البيانات، بفضل مساهمة الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الحوسبة السحابية. وهو برنامج واعد يصنف الكائنات تلقائياً ويكشف التغيير ويحلل ساحة العمليات بإمكانياته الهائلة في استخراج المعلومات وتجميعها ودمجها تلقائياً في تدفقات بيانات ضخمة متعددة المصادر ومتعددة المجالات.
وبمثل تلك البرامج، يمكن للاستخبارات الجوية متابعة تطور الوضع لحظة بلحظة في بلد يعاني أزمة على سبيل المثال، وذلك بفضل الخوارزميات الذكية الكاشفة للإشارات والتغييرات الضعيفة المرتبطة بردود الفعل التنبيهية والتي تسهل أعمال التحليل التي يقوم بها العنصر البشري. من جانب آخر، تعمل قيادة القوات الجوية السادسة عشرة على توحيد تسلسل قيادي وتنسيق القدرات والتخصصات بين جميع أفرع المخابرات ذات الصلة بالقوات الجوية، لتشمل الاستخبارات والمراقبة، والاستخبارات السيبرانية، واستخبارات الطقس، واستخبارات الاستطلاع التي تضم أسلحة مثل RQ-4 Global Hawk وطائرة التجسس U-2 لتوفير قدرة حرب معلومات أكثر فهماً وتكاملاً وتزامناً. ولكن ما هي انعكاسات إعادة ترتيب الأولويات على الاتجاهات الحاكمة في مجال الاستخبارات الجوية؟
ثالثاً: أبرز اتجاهات إعادة ترتيب أولويات الاستخبارات الجوية
1تحديث أجهزة الاستشعار المختلفة للمراقبة الجوية فائقة الجودة وضرب الأهداف بدقة
في جميع أنحاء القوات الجوية، أصبح جمع المعلومات ممكناً بفضل أجهزة الاستشعار المختلفة، المحمولة جواً أو الأرضية، الثابتة أو المتنقلة، والتي باتت تستخدم أكثر من أي وقت مضى الأشعة تحت الحمراء، أو المسح الصوتي، أو التصوير الفوتوغرافي، أو التكنولوجيا الكهرومغناطيسية.
وتشمل أجهزة الاستشعار المتقدمة الكاميرات الكهروضوئية/الكاميرات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء (EO/IR) وأنظمة الرادار ومُعدات استخبارات الإشارات (SIGINT). والتي تُتيح الكشف عن الأهداف والأنشطة المختلفة وتتبعها وتحليلها من الجو.
توفر أجهزة الاستشعار المتقدمة ميزة الحصول على البيانات ونقلها في الوقت الفعلي، مما يسمح بالإلمام بالوضع بشكل فوري ويسمح باتخاذ قرار مستنير سريع. فتوفر أنظمة الاستشعار الموجودة على متن الطائرات بيانات وصوراً ومقاطع فيديو عالية الدقة، وتلتقط معلومات استخباراتية قيّمة تدعم عملية التحليل الصحيح والتخطيط السليم وتحقيق المهام. ويتم توظيف إمكانات الاستخبارات الجوية في مجموعة من القطاعات، تشمل الدفاع وأمن الحدود وإنفاذ القانون وإدارة الكوارث والمراقبة البيئية. حيث إنها تدعم عمليات مثل تحديد الأهداف، وتتبع الأنشطة المعادية وغير المشروعة، ومراقبة الحدود، ومهام البحث والإنقاذ، ومراقبة البنية التحتية الحيوية.
كما تدعم أجهزة الاستشعار المختلفة والتخطيط الشامل للمهام والقدرات الاستخباراتية الأخرى قدرات الضرب الموجه الدقيق وذلك من خلال الوعي الظرفي في الوقت الحقيقي، وتحديد الهدف وتدقيق احداثياته، والتنسيق مع القوات الأخرى كالقوات البرية، وتعزيز الفعالية الشاملة للعمليات.
ولمراقبة جوية فائقة الجودة، وللتمكن من ضرب الأهداف بدقة متناهية، باتت الاستخبارات الجوية تعتمد أكثر من أي وقت مضى على «شبكة استشعار تعاونية»، وهي شبكة مركزية للبيانات من منصات متعددة المجالات، تربط بين أجهزة الاستشعار والطيارين بتقنيات ثورية لتوفير بيئة تشغيلية مترابطة من شبكة استشعار مرنة وثابتة ومستدامة، تستخدم منصات مأهولة وغير مأهولة ومجهزة بتقنيات ثورية قادرة على جمع ودمج وربط الفاعلين بالمعلومات في الوقت الفعلي.
2 تعزيز الذكاء البشري بالذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات أسرع وأكثر استنارة
هناك نظم تشغيل مثل نظام Flyways المعزز بالذكاء الاصطناعي، يعمل على تحسين وتسريع مختلف مراحل دورة الاستخبارات الجوية. فهو يسمح أولاً بفهم لا مثيل له لبيئة التشغيل وذلك بمعالجة كميات هائلة من البيانات المكانية والزمانية وعلى نطاق واسع لتوليد صورة تشغيلية دقيقة وبسرعة قصوى.
كما تم تصميم تلك البرامج والنظم لدعم اتخاذ قرارات عالية المخاطر في بيئة سريعة التغير، حيث يجب على المشغلين البشر اتخاذ قرارات عالية الجودة بسرعة. فهي تدمج البيانات المنظمة وغير المنظمة لتوليد صورة تشغيلية تنبؤية، وتوصي المشغل البشري بإجراءات تأخذ في الاعتبار السياق وتعقيدات مستوياته المتشابكة والتكيف بشكل مستقل مع السياق المتغير ديناميكياً ومع تعقيداته.
كما تقدم تلك النظم والبرامج المعززة بالذكاء الصناعي نظرة مستقبلية رباعية الأبعاد لما هو أكثر احتمالاً أن يحدث في بيئة التشغيل عبر المستويات المتعددة للمجال الجوي، وذلك من خلال نظم محاكاة بيئات التشغيل رباعية الأبعاد، مما يوفر مستوى لا مثيل له من الوعي الظرفي التنبئي، ما يسمح بالانتقال من «فهم ما يحدث» إلى «معرفة ما سيحدث».
3 تخطي الثقافة السائدة التي تقدر الاستثمار في امتلاك المقاتلات عن الاستثمار في الاستخبارات
تحاول الكثير من الجيوش تخطي الثقافة السائدة التي «تقدر الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع بشكل أقل بكثير من امتلاك المقاتلات والقاذفات». فالجيوش عادة ما تجنح عادة لتحويل الاستثمارات من الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع لدعم التمويل لشراء طائرات مقاتلة وقاذفة إضافية، وذلك على الرغم من أن الاستخبارات هي التي ترجح كفة من سيربح الحرب في حقيقة الأمر.
4 تطوير العنصر البشري هو الضمان لقيام بدورها على أكمل وجه
في ظل الفوضى المعلوماتية، التي يتصف بها عالم اليوم، ستبذل أجهزة الاستخبارات، ومنها الاستخبارات الجوية، جهداً إضافياً في الفهم والتفسير والشرح والتأكد من الحقائق الواقعية للتطورات التي تعرض لمتخذ القرار. وبالتالي، سيكون على الاستخبارات إجراء البحوث المعمقة حول القضايا الجديدة أو الناشئة، وإعمال الفكر التأملي النقدي والاستشراف فيما يمكن أن يطرأ في المستقبل من تحديات. لذا، سيظل تدريب وتطوير العنصر البشري هو الضامن الأول لقيام الاستخبارات بدورها على أكمل وجه، وبعد هذا يأتي الدور المساعد للذكاء الصناعي وبقية الوسائل الحديثة.
الخاتمة
في بيئة أمنية حبلى بالصراعات، وتتطلب أكثر من أي وقت مضى السرعة والاستجابة والكفاءة، يتوجب على الاستخبارات الجوية حتماً أن تتجاوز حدودها الحالية، وأن تتكيف مع التطورات وتعيد ترتيب أولوياتها بالاستثمار أكثر من أي وقت في أصولها وعناصرها، واللجوء أكثر من أي وقت مضى للتكنولوجيا والقدرات المبتكرة لتغذية عمليات الإعداد والتخطيط والتنفيذ في بيئات مقيدة وحساسة بشكل متزايد.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات