في وقت تؤثر فيه الحروب والنزاعات الأهلية والكوارث وتغير المناخ على كل ركن من أركان العالم تقريباً، يتوجب المزيد من الدراسات، خصوصاً باللغة العربية، لمنطقة يبدو أنها ستكون من بين أكثر المناطق تأثراً بذلك السياق، وذلك لسببين رئيسيين: الأول، لأن القطب الشمالي قد يصبح خالياً من الجليد البحري في وقت مبكر من ثلاثينات القرن الحالي، حتى في ظل سعي الدول والمنظمات الدولية لخفض أو تصفير الانبعاثات الكربونية، وذلك قبل نحو عقد من الزمن أسرع مما كان متوقعاً سابقاً. والثاني، الحرب الروسية الأوكرانية الممتدة منذ عام 2022 والتي تبلور من خلالها التحديات التي يواجهها النظام الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية، ومن أهمها التوترات المتجددة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي )الناتو( وبين الصين والغرب.
يجب الإشارة إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد تم في ظل رئاسة روسيا لمجلس القطب الشمالي (2021 – 2023). وفي ضوء ذلك، أصدرت أطراف مجلس القطب الشمالي بياناً في 3 مارس عام 2022، ذكروا فيه أنهم لن يسافروا إلى روسيا لحضور اجتماعات مجلس القطب الشمالي، ولن يشاركوا في أي من اجتماعات المجلس، ما أدى إلى توقف معظم أنشطة مجلس القطب الشمالي. وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل سياق وواقع الصراع الجيوسياسي المتنامي في القطب الشمالي وتأثيره على القوات البحرية، ولتحقيق ذلك، تنقسم الدراسة إلى قسمين: الأول يعين ويحلل سياق وواقع الصراع الجيوسياسي المتنامي في القطب الشمالي. والثاني تأثير هذا التنافس الجيوسياسي المتنامي في تلك المنطقة على القوات البحرية للدول المتنافسة.
1. سياق وواقع التنافس الجيوسياسي في القطب الشمالي
لمحة تاريخية
تغطي الدائرة القطبية الشمالية مساحة تبلغ حوالي 14.5 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل تقريباً 3 % من سطح الأرض. وفي مركز الدائرة القطبية الشمالية يوجد القطب الشمالي الجغرافي، الذي يحيط به حوض المحيط المتجمد الشمالي والأجزاء الشمالية من الدول القطبية الشمالية الثماني (كندا والدنمارك (عبر جرينلاند، أكبر جزيرة في العالم) وفنلندا وآيسلندا والنرويج وروسيا والسويد والولايات المتحدة). وعلى عكس القارة القطبية الجنوبية، فإن المناطق القطبية الشمالية لها تاريخ طويل من الوجود البشري الذي خلف وراءه تاريخاً يمتد لآلاف السنين.
بدأ الاستكشاف والاستعمار الأوروبي في وقت مبكر من القرن التاسع الميلادي، حيث بدأ البحث عن الثروات الحيوانية، وأدى هذا لاحقاً إلى تدشين ممرات بحرية تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ. وقد كشفت تلك الممرات والرحلات التي سمحت بها عن النطاق الثري لموارد المنطقة المتنوع: بدءاً من زيت الحيتان وفراء الفقمة وصولاً إلى الفحم والمعادن (من أهمها الماس والنيكل والنحاس)، ما أدى إلى الاستغلال التجاري لتلك المنطقة.
خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة، ازدادت الأهمية الجيوسياسية للقطب الشمالي وأصبح ساحة للتوتر الجيواستراتيجي، فازدادت وتيرة عسكرة المنطقة طوال القرن العشرين (تموضع للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية العابرة للقارات والقاذفات بعيدة المدى والقوات العسكرية) وأصبحت المنطقة فعلياً خطاً أمامياً عسكرياً للقوي المتنافسة. ومثَّلَ خطاب ميخائيل جورباتشوف في مورمانسك عام 1987 التحول الأكبر في التاريخ الجيوسياسي لتلك المنطقة، فلقد بشر ببداية علاقة تعاونية بين موسكو والغرب، ما مهد الطريق لتشكيل مجلس القطب الشمالي وذلك بتوقيع الدول الثماني في القطب الشمالي على إعلان أوتاوا الذي أنشأ المجلس في عام 1996. ويركز المجلس على حقوق الشعوب الأصلية وقضايا الموارد والبيئة ويتفادى في المقابل المناقشات حول الأمن العسكري في المنطقة. والآن عادت المنطقة مرة أخرى لتكون موضع نزاع متزايد، كما أصبح القطب الشمالي منطقة ذات أهمية لمجموعة أوسع من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، وكثير منها بعيدة جغرافياً عن المنطقة، وذلك نظراً للوجود البحري المتزايد، ولقرب فتح القطب الشمالي طرقاً بحرية جديدة ولكشفه عن المزيد من ثرواته بسبب التغيرات المناخية. كما أصبحت المنطقة وجهة سياحية جذابة وتشهد توسعاً في نشاط الصيد العالمي. ما دفع دولاً لتحديث وتوسيع وجودها العسكري في المنطقة لحماية مصالحها، ما قوض بشكل كبير رؤية القطب الشمالي كمنطقة سلام وتعاون.
الأهمية الجيوسياسية
أفادت دراسات متعددة، من أهمها دراسة لمعهد الدراسات الجيولوجية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008 بأن المنطقة القطبية الشمالية قد تحتوي على ما يناهز 1390 مليار برميل من النفط (16 % من الإجمالي العالمي)، و1669 تريليون قدم مكعب من الغاز (30 %) و44 مليار برميل من سوائل الغاز الطبيعي (38 %)، وحوالي 22 % من موارد الوقود الأحفوري غير المكتشفة، ولكن القابلة للاستخراج من الناحية الفنية في العالم.
كما سيستمر الاحترار العالمي في تحرير مياه المنطقة القطبية الشمالية من سطوة الجليد كل سنة، الأمر الذي يتيح فتح مسارات جديدة للملاحة البحرية تدريجياً، ما سيسهم في اختصار المسافة الفاصلة بين روتردام ويوكوهاما بنسبة 40 %، مقارنة بطريق قناة السويس. ومن جانب آخر، فإن المسارات الجديدة قبالة سواحل كندا، من شأنها أن تقلل من جانبها أيضاً بشكل كبير المسافة بين المحيطين الأطلسي والهادئ. ما يعني كثيراً من التغيرات الجيوسياسية، منها على سبيل المثال أن مضيق «بيرينج» بين ألاسكا وروسيا، وبحر بارنتس شمال النرويج «أصبح أكثر قابلية للملاحة وأكثر أهمية اقتصادياً وعسكرياً».
تبلغ مساحة القطب الشمالي القارية والبحرية 20.946 مليون كيلومتر مربع أي ما يقرب من 38 مرة ضعف منطقة العاصمة باريس. وتبلغ مساحة المحيط الجليدي القطبي الشمالي 14.2 مليون كيلومتر مربع، وتشمل الأحواض الكندية والأوراسية، والبحار السيبيرية (كارا، لابتيف وسيبيريا الشرقية)، بحر تشوكشي، بحر بوفورت، بحر بارنتس، بحر جرينلاند، خليج بافن وخليج هدسون. حوالي 60 % من سطح المحيط المتجمد الشمالي على بعد أقل من 200 متر عمق. وأقصى عمق 5,400 متر (Litke Deep). ومن أهم الموارد الطبيعية الرئيسية في تلك المنطقة بجانب الغاز والنفط: الخشب، النيكل، أسماك المياه الباردة، الماس، والأتربة النادرة. ووفقاً لأحدث الدراسات الاستشرافية، ستمتلك روسيا ما يقرب من 41 % من حجم احتياطيات النفط والغاز الطبيعي غير المكتشفة، في حين تمتلك الولايات المتحدة (عبر ألاسكا) 28 % والدنمارك 18 % وكندا 9 % والنرويج 4 %.
الدول والمنظمات الفاعلة
يوضح الشكل التالي الدول الفاعلة، ومنها ما يطل على المحيط المتجمد الشمالي، ومنها دول المنطقة القطبية الشمالية غير المتاخمة للمحيط المتجمد الشمالي، ومنها الدول غير القطبية الشمالية التي تم منحها صفة مراقب، كما يوضع المنظمات الأخرى الفاعلة في منطقة القطب الشمالي:
وبموجب إعلان أوتاوا الذي وقعته في عام 1996 كل من الدول التالية: كندا، والدانمارك، والولايات المتحدة الأمريكية، وفنلندا، وآيسلندا، والنرويج، وروسيا، والسويد، ومن أجل التعاون بين دول المنطقة، تم انشاء مجلس المنطقة القطبية الشمالية، والذي يمثل المؤسسة التنظيمية السياسية المرجعية للتعاون بشأن قضايا المنطقة القطبية الشمالية. والمجلس ليس منتدى لحوكمة المنطقة، وإنما منتدى للتعاون بين الدول القطبية الشمالية، فهو لا يتناول القضايا العسكرية والجغرافية الحدودية والقضايا السيادية الخارجة عن نطاق صلاحياته، بل يركز بالأساس على مناقشة مواضيع من شأنها أن تلقى إجماعاً من الأعضاء بسهولة، مثل: التعاون العلمي، حماية البيئة، رفاهية الشعوب الأصلية وتنميتها الاقتصادية، سلامة الملاحة، وما إلى ذلك من قضايا.
تأثير الحرب الروسية الأوكرانية
وفيما يتعلق بتأثير الحرب الروسية الأوكرانية على التوازنات العسكرية في القطب الشمالي، أكد الدكتور لوسون بريغهام، الباحث في جامعة ألاسكا فيربانكس، أن منطقة القطب الشمالي التي انضمت بلدان من دولها إلى حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الروسية الأوكرانية باتت مسرحاً للعسكرة أكثر من أي وقت مضى، وذلك للأسباب التالية:
1. انضمام فنلندا والسويد للناتو يجعل من 7 من دول القطب الثماني جزءاً من الناتو، مما يعني أن روسيا (الدولة الثامنة) سيكون عليها في المستقبل الجلوس إلى طاولة التعاون مع 7 أعضاء من الحلف. وهذا من شأنه أن يجعل التعاون الأمني والعسكري بين موسكو وباقي دول القطب صعباً، إن لم يكن مستحيلًا. من جانب آخر انضمام فنلندا والسويد للناتو سيغير بالطبع من خطط الحلف والسعي أكثر لامتلاك أدوات الردع وتطوير القدرات العسكرية في تلك المنطقة.
2. مستقبل مجلس القطب الشمالي بات غامضاً أكثر من أي وقت مضى، فالمجلس الذي أسس عام 1996، اتخذ أعضاؤه، باستثناء روسيا، قراراً بتعليق عمله بعد الحرب الروسية على أوكرانيا. وفي هذا السياق، قالت الولايات المتحدة وكندا والدنمارك وفنلندا وآيسلندا والنرويج والسويد في بيان مشترك، إن «الدول السبع لا تزال مقتنعة بالقيمة الدائمة لمجلس القطب الشمالي للتعاون المحيطي»، مؤكدة دعمها لهذا المنتدى وعمله المهم، و»بناء على ذلك أعلن عن اعتزام تلك الدول استئناف العمل ضمن إطار المجلس، على أن يكون ذلك مقتصراً على المشاريع التي لا تنطوي على مشاركة الاتحاد الروسي»، ويزيد من صعوبة هذا السياق: 1. أن إحدى دول القطب الشمالي وهي الولايات المتحدة ما زالت خارج معاهدة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وما زال تنفيذ العديد من المواد ذات الصلة بالمحيط القطبي الشمالي محل جدل بين الدول الأعضاء. مما يثير القلق بشأن استقرار المنطقة. 2. عدم حسم بعض الخلافات الحدودية بين دول القطب الشمالي، من أهمها الحدود بين الولايات المتحدة وروسيا وبين الولايات المتحدة وكندا وبين النرويج وروسيا.
مما سبق، أدى إلى تسارع وتيرة العسكرة وتعزيز قدرات الدول العسكرية للفاعلين في تلك المنطقة خصوصاً في مجال القوات البحرية.
2. تزايد التسلح البحري نتيجة للتنافس الجيوسياسي في القطب الشمالي
الولايات المتحدة الأمريكية
قدمت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عام 2022 نسخة محدثة من الاستراتيجية الوطنية الأمريكية لمنطقة القطب الشمالي حتى عام 2032 تستهدف:
1. تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في القطب الشمالي.
2. تكثيف التدريبات مع الدول الشريكة.
3. تحديث أنظمة الدفاع الجوي لردع العدوان في القطب الشمالي من طرف روسيا بشكل أساسي. كما دعت استراتيجية القطب الشمالي، التي صدرت في يوليو 2024، للعديد من الإجراءات من أهمها:
1. زيادة الوجود العسكري والقدرات الاستخباراتية والتعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها.
2. حتمية الاستعداد لمواجهة آثار تغير المناخ والتحديات التي تطرحها ومن أهمها ذوبان الجليد الذي سهل وصول العديد من الجهات الفاعلة إليها.
3. تحديث البنية التحتية الأمريكية في القطب الشمالي، والتي تم بناؤها في الغالب خلال الحرب الباردة، والتي تواجه تدهوراً ملحوظاً بسبب ذوبان الجليد الدائم وتآكل السواحل.
4. تعزيز قدرات الولايات المتحدة التكنولوجية في القطب الشمالي بما في ذلك المزيد من الأقمار الصناعية والبيانات الضخمة والمتكاملة.
قامت البحرية الأمريكية بتدريب (ICE CAMP) في المحيط المتجمد الشمالي في 8 مارس 2024، وذلك بعد بناء معسكر جليدي أطلقت عليه Whale بمشاركة غواصتين هجوميتين سريعتين جديدتين للبحرية الأمريكية. استمر المعسكر والتدريبات لمدة ثلاثة أسابيع، وشملت أنشطة مصممة للبحث واختبار وتقييم القدرات التشغيلية في منطقة القطب الشمالي. وشارك في التدريب البحرية الأمريكية والجيش والقوات الجوية ومشاة البحرية وقوات الفضاء، كما شارك أفراد من القوات الجوية الملكية الكندية والبحرية الملكية الكندية والبحرية الفرنسية والبحرية الملكية البريطانية والبحرية الملكية الأسترالية. وفي يوليو من عام 2024، وقعت الولايات المتحدة وفنلندا وكندا اتفاقية ثلاثية لإنتاج مشترك لكاسحات الجليد القطبية.
حلف شمال لأطلسي (الناتو)
شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً متزايداً من حلف شمال لأطلسي (الناتو) بمنطقة القطب الشمالي، وفي هذا الصدد، يؤكد الأدميرال روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي بأن الحلف يجب أن يستعد للصراعات العسكرية الناشئة في القطب الشمالي، وأن المنافسة والعسكرة المتزايدة في منطقة القطب الشمالي، وخاصة من جانب روسيا والصين، أمر مثير للقلق، وأن ما يزيد الأمر سوءاً أنه ليس لدى الحلف وروسيا خط عسكري ساخن فعال رفيع المستوى لخفض أي تصعيد سريع ومفاجئ. من جانبه حذر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف من «استعداد روسيا التام لخوض صراع» مع حلف شمال الأطلسي «الناتو» في القطب الشمالي، مؤكداً قدرة بلاده على الدفاع عن مصالحها سياسياً وعسكرياً. في هذا السياق، شارك أعضاء حلف الناتو في أكبر مناورة له منذ الحرب الباردة في المياه الباردة، أطلق عليها Steadfast Defender 24. وشملت التدريبات التي تمت بين يناير ومايو 2024 مشاركة أكثر من 90 ألف جندي من 32 دولة، وتضمنت مناورات بحرية حية وتدريب على الهجوم البرمائي بهدف إظهار وجود دفاعي قوي وقادر للحلف في القطب الشمالي.
كندا
أعلنت كندا عام 2022، تحديث نظامها الدفاعي الجوي والصاروخي في القطب الشمالي بالتعاون مع الولايات المتحدة. وستحل الأنظمة الجديدة محل نظام الإنذار الشمالي القديم، الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة، والذي لم تعد محطاته الـ 50 قادرة على رصد الصواريخ الحديثة. كما أعلنت الحكومة الكندية نيتها شراء 88 مقاتلة أمريكية من طراز «إف-35»، لتحل محل أسطولها القديم، للقيام بدورياتها البحرية في القطب الشمالي. واستضافت القوات المسلحة الكندية عملية NANOOK-NUNALIVUT، من 1 إلى 17 مارس 2024، حيث شارك أكثر من 300 عضو من القوات المسلحة الكندية مع ما يقرب من 50 عضواً من القوات المسلحة من الولايات المتحدة وبلجيكا وألمانيا وفرنسا، والتي أظهرت قدرة القوات الجوية للبحرية الكندية على فرض السيطرة والسيادة في القطب الشمالي في ظل أقسى الظروف، وتقييم قدرات معداتها الجديدة، وتحسين التشغيل البيني مع حلفائها. وترى الحكومة الكندية، كما صرح وزير الدفاع الكندي بيل بلير، أن الوصول المتزايد يزيد من التحديات الأمنية، وفي هذا السياق تسعى كندا لنشر سفن دورية جديدة ومدمرات بحرية وكاسحات جليد وغواصات قادرة على العمل تحت الصفائح الجليدية، فضلاً عن المزيد من الطائرات والطائرات بدون طيار. وفي يوليو 2024 أعلنت وزارة الدفاع الكندية أنها تمضي قُدماً في شراء ما يصل إلى 12 غواصة، وبدأت عملية رسمية للقاء الشركات المصنعة، وذلك في إطار سعيها لتعزيز دفاعها في القطب الشمالي.
فرنسا
ترى فرنسا من جانبها أن الافتتاح التدريجي للطرق البحرية في القطب الشمالي، وزيادة الحركة التجارية التي ستشارك فيها قطع بحرية ترفع العلم الفرنسي، سيشكل تحديات جديدة لفرنسا، التي تعتبر نفسها قوة بحرية رائدة، مما سيتطلب منها: حماية السفن وإنقاذها، ومكافحة التلوث، والمسائل القانونية الأساسية المتعلقة بحرية الملاحة، وما إلى ذلك. وأخيراً، فإن الفضاء القطبي الشمالي هو مساحة مناورة للقوات البحرية الفرنسية. وعلى المستوى العملياتي، ترى القوات المسلحة الفرنسية أنه يتعين عليها أن تظل قادرة على استخدام منطقة القطب الشمالي من قبل قواتها الجوية والبحرية، وربما الجوية البحرية.
في 12 سبتمبر 2024، وصلت للمرة الأولى السفينة Le Commandant Charcot الفرنسية التي صنعتها شركة Ponant الفرنسية وعلى متنها 20 عالماً إلى القطب الشمالي الذي يتعذر الوصول إليه Poles of Inaccessibility في مهمة لجمع البيانات المهمة. وهي من أكثر السفن تطوراً المصممة خصيصاً لبيئة القطب الشمالي والذي يسمح هيكلها القطبي PC2 بالتنقل في المناطق القطبية مع تقليل تأثيرها البيئي إلى الحد الأدنى بفضل الدفع الكهربائي الهجين الذي يعمل بالغاز الطبيعي المسال (LNG). وبذلك حققت إنجازاً ملاحياً تاريخياً بعبورها من نومي، مروراً بألاسكا، ولونجييربين، وسبيتسبيرجين، وعبورها أيضاً القطبين الشماليين المغناطيسيين في 13 سبتمبر والقطب الشمالي الجغرافي في 15 سبتمبر 2024، كما توضحه الخريطة المرفقة:
وقبل هذه الرحلة لم تطأ قدم أحد هناك من قبل. ويتم تعريف «القطب الشمالي الذي لا يمكن الوصول إليه» بأنه النقطة في القطب الشمالي التي تكون إحداثياتها هي الأبعد عن أي أرض. تم تسميته ووصفه لأول مرة في عام 1909 من قبل المستكشف القطبي الروسي ألكسندر كولتشاك، وتم تحديد الإحداثيات الجغرافية الدقيقة له في عام 2013 من قبل جيم ماكنيل بمساعدة وكالة ناسا والأقمار الصناعية، عند 85°48’ شمالاً، 176°09’ شرقاً. وتقع هذه النقطة على بعد 1,465 كم من أوتكياسوك في ألاسكا، و1,390 كم من فرانز جوزيف لاند في روسيا، و1,070 كم من جزيرة إليسمير في كندا.
روسيا والصين
من جانبها، لا تتوقف روسيا عن تدعيم قوة أسطولها الشمالي، حيث زودته في السنوات الأخيرة بأحدث سفن الصناعة الروسية المزودة بصاروخ «تسيركون» الذي تفوق سرعته سرعة الصوت، وقامت موسكو في شهر سبتمبر 2024 بأكبر مناورة عسكرية لها منذ 30 عاماً في مياه المحيطين الهادئ والمتجمد الشمالي والبحر المتوسط وبحرَي قزوين والبلطيق بمشاركة سفن حربية صينية لإظهار التعاون العسكري في القطب الشمالي واستعداد الصين للمشاركة في مواجهة الهيمنة الأمريكية في تلك المنطقة الجغرافية. وشارك في تلك المناورات ما يزيد على 400 سفينة وغواصة وسفينة دعم، ونحو 120 طائرة ومروحية من الطيران البحري التابع للقوات البحرية والقوات الجوية للبحرية و7 آلاف وحدة من الأسلحة والمعدات، وحوالي 90 ألف جندي.
كما أعلنت الشركة الروسية المتحدة لبناء السفن، منتصف عام 2024، أن الخبراء في روسيا يعملون على مشروع لتطوير سفن مدنية جديدة قادرة على الإبحار في مناطق القطب الشمالي، وهي عبارة عن نسخ مطورة من كاسحات الجليد التي تصنعها، مميزة بتجهيزات خاصة تمكنها من الرسو في المياه المغطاة بالجليد أو في المناطق المائية غير المجهزة بالموانئ. كما أنها مزودة بمنصات لحمل الطائرات المسيّرة ومنصات لحمل المروحيات، ويمكنها العمل في المياه دون الحاجة للتزود بالوقود والمؤن. كما تسعى موسكو لبناء كاسحة جليد نووية جديدة سميت «لينينغراد»، لشق طريق مختصر إلى آسيا عبر مياه القطب الشمالي. وفي العقود القليلة الماضية، أكدت الصين نفسها كقوة كبرى في القطب الشمالي، وعززت من قدراتها على تغيير التوازنات الجيوسياسية والجيواقتصادية في تلك المنطقة. فالصين تُعرِّف نفسها بأنها «دولة مجاورة للقطب الشمالى» ستتأثر من ذوبان ذلك المحيط المتجمد. وفى يناير عام 2018 نشرت بكين كتابها الأبيض لطريق الحرير القطبي والاستراتيجية الصينية بخصوص القطب الشمالي، والذي دافعت فيه عن حقها في الملاحة في تلك المنطقة. كما أنها نجحت في عام 2013 بعد خمس سنوات من المفاوضات ومحاولتين فاشلتين، من أن تقتنص صفة مراقب دائم في مجلس القطب الشمالي. ويمثل توسع التعاون الروسي الصيني في منطقة القطب الشمالي الهاجس الأكبر للولايات المتحدة وحلفائها، كما تشير إلى ذلك تصريحات السفير الأمريكي لشؤون القطب الشمالي مايكل سفراجا الذي قال إن بلاده «تراقب عن كثب تكرار وتعقيد التعاون العسكري بين روسيا والصين في المنطقة»، معتبراً أنها تنقل «إشارات مثيرة للقلق».
وتستند الرؤية الصينية بخصوص القطب الشمالي على حقيقة مفادها أنه بعد فتح الممر الشمالي الغربي، سوف يصبح «طريقاً بحرياً محورياً جديداً بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ»، وسوف يتم تقصير الطريق البحري بين أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية بمقدار 5200 إلى 7000 ميل بحري. ومن يسيطر على الطريق البحري في القطب الشمالي سوف يسيطر على الاقتصاد العالمي وممراً استراتيجياً دولياً جديداً، وذلك كما يؤكد لي تشنغفو LI ZHENFU، الأستاذ المتخصص بعلوم المحيطات والسياسة والحوكمة، بجامعة داليان البحرية DMU أن الصين تعمل مع شريكتها روسيا على تدويل القطب الشمالي بشكل محدود، حتى تقلل من أهمية الخطاب الأمريكي الساعي لاستبعاد الدول نظراً لأنها «غير قطبية» .
كما أجرت سفن خفر السواحل الصيني وحرس الحدود الروسي في عام 2024 دورية مشتركة في المحيط المتجمد الشمالي لأول مرة، وذلك في أعقاب مذكرة تفاهم وقعها الطرفان عام 2023 بشأن إنفاذ القانون البحري وتوسيع نطاق الملاحة لخفر السواحل الصيني الروسي في البحر بشكل فعال، واختبار دقة قدرة السفن على تنفيذ المهام في المياه غير المألوفة، واختبار قدرة تقديم الدعم للمشاركة النشطة في حوكمة المحيطات الدولية والإقليمية.
الخاتمة
من المرجح أن تشهد منطقة القطب الشمالي تحولات هيكلية نتيجة لتزايد وتيرة تغيير المناخ ولتزايد سعي اللاعبين العالميين والإقليميين إلى زيادة نفوذهم فيها، مما يحولها إلى نقطة أكثر سخونة جيوسياسياً وعسكرياً، وفي هذا السياق، هناك مجموعة متنوعة من أوجه عدم اليقين الحرجة التي قد يكون لها تأثيرات غير متوقعة على مستقبل القطب الشمالي، ومن أهمها: وتيرة تغير المناخ، ومسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية (فعالية السياسات واللوائح البيئية والاجتماعية والديموغرافية، وتوافر الحوافز المالية وجودة الحوكمة، ووتيرة تطوير التكنولوجيا والابتكار، بما في ذلك مستوى التحول الرقمي والاتصال، وتسويق التكنولوجيات، وتكلفة ممارسة الأعمال التجارية)، وديناميكيات الجغرافيا السياسية وغيرها. وفي ظل هذه المجموعة المتنوعة من أوجه عدم اليقين المذكورة بالأعلى، والتي قد يكون لها تأثيرات غير متوقعة على مستقبل القطب الشمالي، فالسيناريو الأقرب للحدوث هو تسارع في وتيرة التغيير المناخي وفي التنمية وفي التنافس الجيوسياسي والعسكري، ما يرجح استمرار تزايد التسلح البحري والوجود البحري العسكري للمتنافسين في القطب الشمالي في السنوات القادمة.
ويبدو أن منطقة القطب الشمالي قد باتت من منظور الجغرافيا السياسية «منطقة تحديد مصير البشرية»، إذ تربط تلك المنطقة الجغرافية ما بين قلب البر الأوراسي وقلب أمريكا الشمالية. ومع بدء تلاشي السور الجليدي الذي كان يفصل بين العالمين، سنشهد عالماً جديداً أصبحت فيه المسافة بين المتنافسين الرئيسيين على الجغرافيا السياسية في العالم أقصر من أي وقت مضى. وبهذا ربما تتأكد مقولة الأدميرال الروسي فاليري ألكسين «من يسيطر على القطب الشمالي يسيطر على العالم»، والدراسة التي بين أيدينا أكدت من جانبها أن مستقبل القطب الشمالي ربما هو الذي سيحدد مصير العالم.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات