أدت حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاستقطاب العالمي الحاد إلى إعادة التاريخ لمرحلة النزاعات والصراعات، لكنها تختلف عن صراعات القوى العظمى في القرن التاسع عشر، فقد أتاحت الثورات المتسارعة في التكنولوجيا الرقمية والمعلوماتية فرصة لتعزيز قوة الدول على شن الحروب بطرق غير مسبوقة. ورغم التقدم الهائل في القدرات العسكرية التي استفادت أيضاً من هذه الثورات، بيد أن السلاح الأبرز أضحى متمثلاً بالأساس في توظيف القدرات المعلوماتية لخدمة مصالح الدول المختلفة.
تعد وسائل التواصل الاجتماعي أحد أهم هذه الأدوات، وربما أكثرها فاعلية، في ظل اعتماد أغلب المجتمعات على هذه الوسائل، ما جعل الدول المختلفة قادرة بدرجة كبيرة على تشكيل تصور المواطنين للواقع من دون أي قيود.
بالتالي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تشكل أداة قوية للأفراد والحكومات وغيرها من الفواعل من غير الدول، حيث يتم استخدامها في نشر الدعاية والتلاعب بالرأي العام والتأثير على الانتخابات، وذلك بسبب قدرتها على الوصول إلى جمهور واسع للغاية في كافة أنحاء العالم، بسهولة وسرعة فائقة. وفي هذا الإطار، بدأت الفواعل المختلفة في استخدام تكتيكات متطورة لتوظيف هذه الوسائل لتحقيق أهدافها، بينما عمدت بعض الدول إلى تطوير تقنيات مضادة لمكافحة هذه التكتيكات وضمان الاستخدام المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي. ما أدى إلى طرح مفهوم «تسليح وسائل التواصل الاجتماعي» في إطار حرب المعلومات بين الدول والفواعل المختلفة. ما أثار تساؤلات عدة بشأن ماهية هذه الحرب، وكيفية تطور استخدامها من خلال الخصوم والأطراف المتنافسة، ومن ثم انعكاساتها على مسارات الحروب الحديثة والمستقبلية.
ماهية مفهوم تسليح وسائل التواصل الاجتماعي
بينما أُطلق على حرب الخليج عام 1991 اسم «حرب الإنترنت الأولى»، وكذا حرب يوغوسلافيا في نهاية التسعينات اسم «حرب الويب الأولى»، جاء غزو العراق عام 2003 ليتضمن صراحةً «عمليات المعلومات» كمكون رئيسي في القوة القتالية في عصر المعلومات. لكن يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي سيكون لها دور محوري في الحروب الحديثة. ويستند هذا الطرح إلى فرضية رئيسية مفادها أن المعلومات تشكل مورداً حيوياً في وقت الحرب، وأن تحقيق الهيمنة على الخطوط الأمامية عبر الإنترنت يمثل الأهمية ذاتها للسيطرة على المناطق والخطوط الأمامية الفعلية في ساحات المعارك. فحروب المعلومات أضحت جزءاً حقيقياً من الحروب الفعلية.
ويشير مفهوم «تسليح وسائل التواصل الاجتماعي» إلى استخدام منصات التواصل الاجتماعي، على غرار Facebook وInstagram وWhatsApp وTelegram وYoutube وX، بغية نشر الدعاية والمعلومات المضللة والأخبار المزيفة والتلاعب بالرأي العام والتأثير على النتائج السياسية. وتعمد عملية تسليح وسائل التواصل الاجتماعي على استخدام تكتيكات مختلفة لتوظيف هذه الوسائل وتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية مختلفة، يمكن عرض أبرزها على النحو التالي:
• نشر المعلومات المغلوطة والأخبار المزيفة: وتعد من أبرز أدوات تسليح وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد عليها الأطراف المختلفة، لنشر نظريات المؤامرة والأخبار المزيفة عن الخصوم لاستهدافهم والتأثير السلبي عليهم.
• الدعاية: والتي تستهدف التأثير على الرأي العام لخدمة أجندة سياسية أو أيديواوجية، حيث يتم نشر الصور ومقاطع الفيديو المقنعة للتأثير على الأفراد، ناهيك عن الصور والنصوص الفكاهية التي يتم نشرها على نطاق واسع. كما يمكن أن تنطوي الدعاية على إنشاء حملات شعبية مزيفة للترويج لقضية معينة أو اتجاه معين.
• روبوتات وسائل التواصل الاجتماعي: وهي عبارة عن حسابات آلية يتم استخدامها من أجل تضخيم رسائل معينة أو نشر معلومات كاذبة بنطاق واسع وبشكل مكثف من خلال إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بمعلومات مغلوطة. حيث يتم برمجة هذه الحسابات لبلورة انطباع عام بوجود دعم واسع لقضية معينة.
• التصيد الاحتيالي «التصيد بالرمح»: تشير عملية التصيد الاحتيالي (المعروفة أيضاً باسم التصيد بالرمح) إلى استهداف فرد أو مجموعة من الأفراد، من خلال إغراء الضحايا للقيام بعمل ما، يتضمن عادة النقر على رابط ضار أو فتح مرفق يحمل برامج ضارة، يمكن أن يؤدي إلى مواقع ويب مزيفة تطلب بيانات تسجيل الدخول أو تنزيل البرامج الضارة مباشرة على جهاز الضحية، وهو ما يتم استغلاله للوصول إلى شبكة أوسع أو سرقة معلومات حساسة، وغالباً ما يظل المهاجمون غير مكتشفين لفترات طويلة. وبينما كانت هذه الأداة تستخدم سابقاً لتنفيذ هجمات عبر البريد الإلكتروني، جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتشكل نقاطاً هجومية جديدة للهجمات الإلكترونية، لا سيما تلك المرتبطة بالدوافع السياسية. وتشكل وسائل التواصل الاجتماعي أدوات مناسبة للغاية لاستهدافها من خلال عمليات التصيد الرمحي، كونها تعد بيئات عالية الثقة.
• الهجمات الإلكترونية: والتي تتضمن العديد من الأدوات كاختراق حسابات الخصوم أو بعض المؤسسات الحيوية في الدول المنافسة، أو استخدام البرامج الضارة لاستهداف البنية التحتية الاستراتيجية أو سرقة المعلومات.
• تقنيات الذكاء الاصطناعي: باتت أدوات الذكاء الاصطناعي تمثل محدداً مهماً في تعزيز قدرات وسائل التواصل الاجماعي، من خلال إنشاء ونشر المحتويات المقنعة للغاية والتلاعب غير المسبوق بالخطابات السياسية والمعلومات المختلفة، بل وأصبح من الصعب اكتشاف هذه الدعاية الممنهجة ومواجهتها. وفي هذا الإطار ظهر مفهوم «التزييف العميق»، والذي يشير في قدرة الذكاء الاصطناعي إلى نشر مقاطع فيديوهات مزيفة للزعماء السياسيين، على سبيل المثال، يظهر الزعيم السياسي وكأنه يلقي خطاباً غير حقيقي، وهو ما يخلق حالة من الارتباك وانعدام الثقة. كما باتت تقنيات الذكاء الاصطناعي تساعد الجهات المختلفة في التهرب من الاكتشاف.
• عمليات المعلومات (IO): والتي تعتمد على حملات تضليل منسقة بغية تعطيل عملية صنع القرار لدى الخصوم ونزع الشرعية عنهم وتقويض التماسك الاجتماعي. ويتم ذلك من خلال جمع المعلومات الاستخباراتية عن أهداف محددة وتطوير روايات تحريضية ونشرها بشكل ممنهج.
• تضخيم خطاب الكراهية الرقمي: حيث تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتضخيم خطاب الكراهية ونشره في سياقات هشة، الأمر الذي يزيد من فرص تأثيرها، كما يمكن استخدامها لدفع الأطراف المختلفة لإثارة العنف، وتوسيع نطاقه.
• التطرف والتجنيد: باتت وسائل التواصل الاجتماعي تمثل قناة مفضلة لبعض التنظيمات المتطرفة لتجنيد عناصر جديدة لديها، ناهيك عن استخدامها كوسيلة للتنسيق والتلاعب، وقد تمكن تنظيم داعش الإرهابي بدرجة كبيرة من الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي.
ويجب الأخذ في الاعتبار أن حملات التضليل وترويج خطابات الكراهية وتجنيد الجماعات العنيفة عبر التلاعب بالرأي العام لا تعد ظاهرة حديثة، فلطالما حدثت هذه الأنشطة في الماضي عبر وسائل الإعلام التقليدية، بيد أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دوراً محورياً في تغيير قواعد اللعبة، حيث تزيد منصات التواصل الاجتماعي من قوة الاتصال على النطاق الدولي، ما يعني أن حجماً أكبر من المعلومات المسلحة يمكن أن يصل لعدد هائل من الأفراد وبشكل أسرع. من ناحية أخرى، تقوم منصات التواصل الاجتماعي المختلفة بتخصيص المعلومات وفقاً لتفضيلات الأفراد، ما يجعلها أكثر اتساقاً مع تفضيلاتهم ومن ثم قدرة أكبر على التأثير. بل إن عملية التعلم الآلي التي تعتمدها هذه المنصات تأخذ التخصيص لدرجة أبعد، من خلال تقديمها لمحتوى أكثر استهدافاً، مع تضييق نطاق المعلومات التي يستقبلها الفرد بموضوعات ووجهات نظر تؤكد بعضها بعضاً. كذا، تؤدي عملية التخصيص إلى تفاقم خطر الصراعات والاستقطابات الاجتماعية الحادة، حيث تنظم المنصات المختلفة مستخدميها إلى مجموعات مشتركة في التفضيلات والخصائص الديموغرافية، ما يجعل الشائعات وكأنها حقائق ذات مصداقية، مع تحول الغضب الجماعي على وسائل التواصل الاجتماعي لعنف في الواقع الفعلي.
تطور استخدام الخصوم لوسائل التواصل الاجتماعي كسلاح
بدأت العديد من الدول، والفواعل من غير الدول، إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متزايد لخدمة أغراضها المختلفة، لا سيما في ظل الحديث عن أكثر من 3.2 مليار مستخدم لهذه المنصات المختلفة، وهو ما زاد من التهديدات التي يطرحها مفهوم «تسليح وسائل التواصل الاجتماعي»، في ظل إمكانية الوصول إلى كميات هائلة من البيانات الشخصية. وقد شهدت السنوات الماضية تطور تسليح وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بطرق متباينة، وتعددت الأمثلة التي تعكس ذلك لتحقيق أهداف سياسية أو أيديولوجية مختلفة، ويمكن الإشارة لأبرز هذه الأمثلة على النحو التالي:
• الانتخابات الرئاسية الأمريكية عامي 2016 و2020: وجهت العديد من التقارير الأمريكية اتهامات لروسيا بشأن توظيف وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016 و2020، من خلال نشر الدعاية المضللة والمعلومات المغلوطة على المنصات المختلفة بغية توجيه الناخبين الأمريكيين، وهو ما اعتبرها البعض نقطة تحول في تسليح وسائل التواصل الاجتماعي للتأثير على العمليات السياسية والانتخابية في الدول المختلفة. وفي هذا الإطار، تشير بعض التقديرات إلى وجود شبكة من الروبوتات، التي ضمت أكثر من 60 ألف حساب روسي، استهدفت وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما تويتر، من خلال التأثير على خوارزميات الشبكة ونشر فديوهات متنوعة ومنشورات مختلفة للتأثير على توجهات الناخبين.
وبعد أسابيع قليلة من انتخابات 2016، تم إرسال أكثر من 10 آلاف تغريدة، كل منها محملة بروابط تشعبية تحتوي على برامج ضارة، إلى موظفي وزارة الدفاع الأمريكية على تويتر (منصة X حالياً)، من خلال استهداف أسر الموظفين، الأمر الذي تمخض عنه اختراق الأجهزة التي تحتوي على معلومات حكومية حساسة، عن طريق شبكات الإنترنت المنزلية المشتركة، في هجوم تم اعتباره آنذاك بمثابة الهجوم الأكثر تنظيماً وتنسيقاً ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
• استفتاء بريكست لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي: أشارت العديد من التقارير إلى أن استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي تم تنظيمه عام 2016 في المملكة المتحدة تأثر أيضاً بالكثير من المعلومات المضللة والدعاية التي تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم استهداف بعض الفئات السكانية المحددة بهذه المعلومات والدعاية. فقد أشار تقرير صادر عن مؤسسة «الراديو الوطني العام» الأمريكية، أن حوالي ثلث المحادثات التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت عبارة عن روبوتات تستهدف دعم اتجاه معين.
• العملية الانتخابية في الدول المختلفة: شهدت السنوات الأخيرة اعتماداً متزايداً على وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه مسارات العمليات الانتخابية في العديد من الدول. ففي الهند، على سبيل المثال، عمدت الاحزاب السياسية إلى تسليح منصات التواصل الاجتماعي واستخدامها لاستهداف فئات سكانية محددة عبر نشر رسائل مخصصة لهذه الفئات للتأثير عليها وتصويتها في الانتخابات المختلفة. وعلى المنوال ذاته، كشفت بعض التقارير عن دور رئيسي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه مسارات العمليات الانتخابية المختلفة في المكسيك.
• نموذج الائتمان الاجتماعي الصيني: ثمة نموذج آخر تطرحه الصين حالياً، يسمى نظام الائتمان الاجتماعي، وهو نظام يعتمد على مراقبة كافة أنشطة الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي، فكل ما يبحث عنه الفرد أو يقوم بشرائه يتم جمعه في درجة واحدة من الجدارة الاجتماعية، وبناء على هذه الدرجة يتم إعطاء الفرد مكافآت مختلفة، أو عقوبات متباينة. بل ويصل الأمر أن درجة الفرد لا تعتمد فقط على ما يقوم به فقط، لكنها تعتمد أيضاً على ما يفعله الآخرون في شبكة الفرد من أسرته، الأمر الذي يعطي نمطاً جديداً في توجيه سلوك الأفراد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
• حرب متبادلة على وسائل التواصل الاجتماعي: بدأت الدول المختلفة تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كأدارة رئيسية في تصعيدها المتبادل ضد بعضها بعضاً، فقد قضت المحاكم الألمانية بعقوبات على النقر على زر الإعجاب للمنشورات الموالية لروسيا. ناهيك عن الضغوطات المتزايدة التي تتعرض لها شركات وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من قبل المفوضية الأوروبية لمحاولة حظر وسائل الاعلام الروسية التي لديها ملايين المتابعين، بل وتم حظر بعض الصحفيين المستقلين ووضعهم تحت تصنيف وسائل الإعلام التابعة لموسكو. في المقابل، ردت الأخيرة بحظر فيسبوك وانستغرام باعتبارهما منظمتين متطرفتين.
تسليح وسائل التواصل الاجتماعي ومسارات الحروب الحديثة
لطالما تم اعتبار وسائل الإعلام الاجتماعية أداة حيوية لخدمة الأغراض السياسية، فهي لا تؤثر فقط على الآراء والمستمعين، لكنها أنطوت على تأثيرات جوهرية على مسارات الحروب، بداية من الحرب العالمية الثانية، عندما اعتمدت ألمانيا آنذاك لغزو فرنسا على الراديو، كوسيلة اتصال جديدة وسريعة ذات تأثير عسكري استراتيجي وتكتيكي، لربط الدبابات والطائرات بالسكان على نطاق واسع. فلم تساعد الاتصالات اللاسلكية فقط في تحقيق التنسيق والتحرك بشكل أسرع للألمان، لكنها ساعدت على تحقيق الاتصال المباشر بالسكان الفرنسيين، ونشر عدوى الخوف. وقد تكررت هذه الاستراتيجية مع تنظيم داعش الإرهابي، والتي اعتمدت أيضاً على الترويج لنفسها وتسليحها لوسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما تويتر، في غزوها المفاجئ للعراق، وهو ما مكنها من هزيمة قوة تتفوق عليها بعدة أضعاف، من خلال شبكاتها من الروبوتات على تويتر للدعاية لهجماتها وتصوير تحركاتها ونشر عدوى الخوف، في مؤشر مهم بشأن كيفية تغيير وسائل التواصل الإجتماعي، التي تشكل أبرز أدوات الاتصال الراهنة، لمسار الحروب الراهنة.
وانطلاقاً من هذا الطرح، أصبح العصر الحالي يتم تعريفه من خلال حروب المعلومات عبر الإنترنت، باعتبارها جانباً رئيسياً للعقيدة والسلوك العسكري للدول المختلفة، إلا أن ذلك سيؤدي على الأغلب إلى طمس الحدود بين المقاتلين الفعليين وغير المقاتلين، ومن ثم بلورة منطقة رمادية تشكل جزء رئيس من ملامح الحروب الحديثة.
تسليح وسائل التوصل الاجتماعي في الحرب الأوكرانية
تزايدت وتيرة تسليح وسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية. وعلى الرغم من تكرار استخدام عمليات تسليح وسائل التواصل الاجتماعي في الحروب الحديثة، فإن مركز ابتكار الحوكمة الدولية أشار إلى أن الحرب الروسية – الأوكرانية تعد أول حرب كاملة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأنها تشكل نقطة فاصلة في مسار الحروب المستقبلية. فقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعيد تشكيل المشهد المعلوماتي في الحروب الحديثة.
ولقد تطورت الحرب الروسية – الأوكرانية لتصبح واحدة من أكثر حروب المعلومات تعقيداً في التاريخ الحديث، والتي لم تبدأ فعلياً منذ اندلاع الحرب المباشرة في فبراير 2022، لكنها بدأت منذ عام 2014، حيث بدأ الاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي كأداة قوية لتشكيل التصور العام العالمي، وهو ما أفرز حالة من الانقسام بين السردية الغربية الخاصة بأوكرانيا في مقابل السردية الروسية، في إطار حرب المعلومات والحرب الهجينة بين الجانبين.
من ناحية أخرى، بينما عمدت روسيا للترويج لمنظورها الخاص بالعلاقات التاريخية بين الروس والأوكرانيين، اعتمد الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينيسكي، على حسابه الخاص على منصة «x» للتواصل الفعال مع الجمهور العالمي منذ بداية اندلاع الحرب في أوكرانيا. بل إن وسائل التواصل الاجتماعي أدت إلى ظهور ما يعرف بـ «مؤرخي المواطنين»، وهم الأفراد الذين يشاركون التطورات والتحديثات في الوقت الفعلى من خلال حساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي، وهي أحد أبرز الأدوات التي عملت على إعادة تشكيل مشهد التضليل في هذه الحرب. فبينما تمثل وسائل التواصل الاجتماعي آلية جيدة لتوثيق حقائق الحرب، بيد أنها سهلت أيضاً عملية انتشار المعلومات المضللة. وهو ما ظهر أيضاً في استراتيجيات التضليل التي اتبعتها أوكرانيا أيضاً في هذه الحرب، حيث عمدت كييف إلى نشر الكثير من القصص البطولية التي تم الكشف لاحقاً عن كذبها، في محاولة لحشد مزيد من الدعم الدولي لها، وفي الوقت ذاته تعزيز الروح المعنوية لجنودها. كذا تم الكشف عن كثير من المواقع التي تنشر الروايات الكاذبة والمعلومات المضللة لصالح طرفي الصراع، ومحاولة كل طرف الترويج للسرديات واستراتيجيات التضليل الداعمة لموقفه.
كذا، للمرة الأولى في تاريخ الحروب الحديثة التي تتمكن فيها دولة محاربة من حشد مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعي في مختلف أنحاء العالم، من خلال الأجهزة الرسمية للدولة. فقد كشفت بعض التقارير الغربية عن قيام وزارة التحول الرقمي الأوكرانية بالتفاوض على صفقات سرية مع منصات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، كما تمكنت الحكومة الأوكرانية من تجنيد الآلاف في الداخل والخارج كجزء من قواتها المسلحة الرقمية التي تستخدمها ضد روسيا. وتتراوح مهام هذه القوات الرقمية بين حرب المعلومات، بما في ذلك استهداف المواقع ووسائل الاعلام الروسية وتلك المتعاطفة مع موسكو في الغرب، وصولاً إلى مهاجمة البنية الأساسية العسكرية والمدنية في الداخل الروسي.
التداعيات والمخاطر
باتت عملية تسليح وسائل التواصل الاجتماعي تثير حالة من القلق المتزايد لدى الدول المختلفة، في ظل التداعيات والمخاطر التي تثيرها، والتي يمكن عرض أبرزها على النحو التالي:
• الدعاية والتضليل: يمكن أن يؤدي تسليح وسائل التواصل إلى نشر معلومات كاذبة ودعاية مضللة، الأمر الذي قد يؤول إلى تداعيات سلبية على القرارات السياسية والرأي العام، وتقويض الثقة في المؤسسات الحكومية والأنظمة السياسية ووسائل الإعلام.
• الحرب النفسية واضطرابات اجتماعية: يتم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي للتلاعب بالأفراد وإحداث حروب نفسية، كالشعور بالوحدة والاكتئاب، واضطرابات اجتماعية في بعض الدول.
• الترويج لخطاب التطرف والكراهية: يقوم بعض الأطراف بتسليح وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الترويج للأيديولوجيات المتطرفة ونشر خطاب الكراهية، الأمر الذي قد ينتج عنه تفاقم العنف والاضطرابات الاجتماعية، من خلال تفاقم الاستقطاب والانقسامات الاجتماعية في هذه الدول.
• تآكل خصوصية الأفراد: يتم توظيف وسائل التواصل الاجتماعي من أجل جمع واستخدام البيانات الشخصية، وهو ما يقوض كثيراً من خصوصية وأمن الأفراد ويعرضها للخطر.
• التأثير في مسار الانتخابات والعمليات السياسية: تقوم بعض الدول باستغلال وسائل التواصل الاجتماعي من أجل التدخل في الانتخابات والعمليات السياسية في بعض الدول الأخرى، ما قد يؤثر في مسار هذه الانتخابات وربما يؤدي إلى تقويض الاستقرار السياسي في هذه الدول.
• الهجمات الإلكترونية والحروب السيبرانية: باتت وسائل التواصل الاجتماعي أدوات رئيسة في الهجمات الإلكترونية التي تشنها الدول والفواعل من غير الدول ضد بعضها بعضاً، وهو ما يؤثر بالسلب على البنية التحتية الحيوية في الدول المختلفة ويعرض أمنها القومي للخطر، ناهيك عن الأضرار المرتبطة بالأنظمة المالية، كعمليات الاحتيال وسرقات الملكية الفكرية والأزمات المالية الي قد تضر بالمؤسسات المختلفة، وربما الدول.
• تفكك شبكة الإنترنت العالمية: يمكن أن يؤدي تسليح وسائل التواصل الاجتماعي إلى تحول خدمات الإنترنت المحايدة إلى أصول فعلية للخصوم، أو ما بات يطلق عليه «التسييس الجيوسياسي»، فضلاً عن إمكانية تفكك شبكة الإنترنت كظاهرة عالمية نتيجة تسليح شركات تقديم خدمات الإنترنت الجيوسياسي.
ورغم أن منصات التواصل الاجتماعي تعمل على التخلص الدوري من الروبوتات والحسابات المزيفة، لكن الأخيرة لديها القدرة على التجديد تلقائياً، كما أن هذه الروبوتات بإمكانها إنشاء حسابات وإبقائها خاملة وتنشيطها بعد أشهر أو حتى سنوات، الأمر الذي يزيد من صعوبة اكتشافها.
وثمة إشكالية أخرى تتعلق بالوضعية القانونية الغامضة لعمليات تسليح وسائل التواصل الاجتماعي، فالنظم القانونية لم تنظم حتى الآن المشكلة بشكل كافٍ، الأمر الذي أفضى إلى مزيد من التحديات المرتبطة بهذا الأمر، كحرية التعبير وتسييس مقدمي خدمات الإنترنت وتفتيت شبكة الإنترنت العالمية. وبينما ينظم القانون الدولي الإنساني الحرب السيبرانية، إلا أن تسليح وسائل التواصل الاجتماعي لا يتناسب تماماً مع معايير القانون الدولي الإنساني، خاصةً وأن الجهات الفاعلة في حرب المعلومات التي تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي هي في الواقع ليست أفراداً متخصصين، بل غالباً هم من مستخدمي الإنترنت المدنيين.
وفي الختام، تشكل عمليات تسليح وسائل التواصل الاجتماعي أدوات رئيسية في الحروب الحديثة، حيث يمكنها تأجيج الأوضاع السياسية والاجتماعية في الدول المستهدفة، وتقويض الثقة في الموسسات الحكومية، وخلق حالة من الاستقطاب الحاد. وتكشف عمليات تسليح وسائل التواصل الاجتماعي عن الحاجة لتعزيز المعرفة الرقمية، ومزيداً من الاصلاحات التي ينبغي أن تقوم بها شركات التواصل الاجتماعي لتحسين الشفافية حول السياسات والخوارزميات التي تشكل الخطاب العالمي.●
» عدنان موسى (مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـــــ جامعة القاهرة)