أعطت الدول الغربية الحليفة كييف الضوء الأخضر لضرب العمق الروسي بصواريخ غربية من طراز «أتاكامز»، وهو ما ردت عليه روسيا من خلال توجيه صاروخ فرط صوتي من طراز «أوريشنك» أو «شجرة البندق» بالروسية لضرب منشآت حيوية في مدينة دنيبرو وسط أوكرانيا، وهي الصواريخ التي لا تمتلك أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية أو الغربية عموماً القدرة على اعتراضها.
حذر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنه لا يستبعد «ضرب الدول التي تستخدم أوكرانيا أسلحتها لضرب الأراضي الروسية، في إشارة إلى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، مؤكداً أنه سيرد «بقوة موازية في حال تصاعد الأعمال العدوانية». ويلاحظ أن توظيف موسكو للصاروخ الباليستي يهدف إلى إرسال رسائل (Signaling) أو تهديدات من خلال تحركات عسكرية معينة، مثل استخدام الصاروخ السابق. ويهدف التحليل إلى توضيح الرسائل التي سعت موسكو إلى إرسالها إلى أوكرانيا والغرب، وذلك بعد توضيح المقصود بمفهوم إرسال الرسائل، وكذلك أبرز أشكالها.
تعريف الرسائل العسكرية وأشكالها:
على الرغم من أن مفهوم «إرسال الرسائل» متداول في الكثير من الدراسات العسكرية، فإن أغلبيتها أحجم عن تقديم تعريف محدد لهذا المفهوم. ومع ذلك، نجد أن بعض الدراسات السياسية قد قدمت تعريفاً لإرسال الرسائل على أنها «الكشف الهادف والاستراتيجي عن المعلومات حول النية والعزيمة و/أو القدرات بهدف التأثير على سلوك الخصم». وعادة ما ترتبط الرسائل في هذه الحالة بالتأكيد على والدفاع عن «المصالح الحيوية» للدولة، وهي تلك المصالح التي تكون الدولة مستعدة للقتال من أجلها إذا ما تم تحديها. ولذلك تنشأ معضلة عند إرسال رسائل التهديد، إذ أن الدولة المعرضة للتهديد قد لا تقتنع بأن الدولة المهددة جدية في تهديدها، وأنها لا تخادع، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري متبادل. وباستقراء التفاعلات الصراعية بين الدول، يمكن القول إن الرسائل العسكرية تأخذ العديد من الأشكال، وذلك على النحو التالي:
•المناورات العسكرية: تكون الرسائل، في هذه الحالة، مكلفة للغاية، لأنها تنطوي على حشد قوات، أو استعراض للقوة، أو نشر أصول عسكرية، وغيرها من الإجراءات، وهي كلها أشكال تنطوي على دفع تكلفة مادية مرتفعة للقيام بهذه الإجراءات السابقة. ولكن في المقابل، فإن إرسال الرسائل من خلال المناورات العسكرية يكشف عن جدية الدولة في التهديد، خاصة في سياق الأزمات العسكرية، والتأكيد على فاعلية قدراتها العسكرية، وعن استعدادها لدفع التكلفة الباهظة للحرب، وبالتالي، فإن الدولة، في هذه الحالة، تستهدف تحقيق هدفها السياسي، وذلك مع محاولة تجنب خوض حرب مكلفة. ونظراً لما سبق، فإن مثل هذا الأسلوب يتسم بقدر عالٍ من المخاطرة، إذ أنه في حالة فشلت رسالة التهديد العسكري في ردع الخصوم، فإن الخيارات المطروحة أمام الدولة ستكون سيئة، إذ إنها إما أن تنفذ تهديدها، أي الذهاب إلى الحرب، وهو خيار مكلف للغاية، ومحفوف بالمخاطر، وإما أن تتراجع عن التهديد، وهو ما ينتقص من مصداقيتها. ولعل من الأمثلة على ذلك المناورات العسكرية الروسية السابقة على حربها ضد أوكرانيا في فبراير 2022. فقد قام الجيش الروسي بتحريك قواته ومعادته العسكرية من مروحيات الهجوم والنقل وكذلك وحدات الدعم إلى مناطق بالقرب من الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية مع أوكرانيا، ثم قامت بنشر قوات إلى شمال أوكرانيا، وكذلك إلى جنوبها، في شبه جزيرة القرم. وهدفت موسكو من هذا الحشد العسكري هو انتزاع تنازل من أوكرانيا يتمثل في إعلانها الصريح وغير المشروط بعدم انضمامها إلى حلف الناتو، والالتزام بالحياد، وهي السياسة التي لم تنجح، وترتب عليها، في النهاية، شن روسيا هجومها العسكري ضد أوكرانيا، لإجبارها على الانصياع إلى مطالب روسيا بالقوة.
•تجارب الأسلحة: توظف التجارب العسكرية أحياناً بهدف إرسال رسائل عسكرية إلى الدول الأخرى، خاصة الدول المعادية. ويأتي من الأمثلة على ذلك، قيام روسيا بالاختبار الناجح لصاروخ مضاد للأقمار الصناعية في 15 نوفمبر 2021، والذي تمكن من إسقاط القمر الصناعي السوفييتي «كوسموس – 1408» ما نتج عنه حقل من الحطام في المدار الأرضي المنخفض. وهدفت روسيا من وراء هذه التجربة إلى تحقيق عدد من الأهداف أبرزها تعزيز الردع وكذلك القدرات الدفاعية الروسية ضد محاولات الولايات المتحدة لتحقيق «ميزة عسكرية شاملة» في الفضاء، وذلك وفقاً لما جاء على لسان وزير الدفاع الروسي حينها، سيرجي شويجو. فقد قامت الولايات المتحدة بتجربة نظام مماثل في عام 2008. وبالتالي، كان من المهم لروسيا ضمان امتلاك سلاح مماثل تستطيع من خلاله تهديد الأقمار الاصطناعية الأمريكية لردع واشنطن عن محاولة استهداف الأقمار الاصطناعية العسكرية الروسية في أي مواجهة عسكرية مستقبلية، خاصة وأن هذه التجربة جاءت قبل أقل من ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في فبراير 2022. ومن المعلوم أن أنظمة الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية تعد مهمة من أجل توجيه الأسلحة الحديثة، من الصواريخ الباليستية والمجنحة، وكذلك الطائرات المسيرة، بالإضافة إلى أهميتها في اتصالات القيادة والتحكم، وغيرها من الأمور، وبالتالي، فإن امتلاك موسكو القدرة على إسقاط الأقمار الاصطناعية يساعد على ردع واشنطن عن التفكير في استهداف الأقمار الاصطناعية الروسية، وإلا فإن موسكو سوف تتجه هي الأخرى إلى استهداف الأقمار الأمريكية.
•الوثائق الاستراتيجية: تستخدم الوثائق الاستراتيجية، مثل الاستراتيجيات العسكرية للدول، خاصة الدول الكبرى لتوضيح سياستها الدفاعية تجاه خصومها. ومن ذلك على سبيل المثال، أشارت الاستراتيجية العسكرية الوطنية الأمريكية لعام 2022، أن كلاً من جمهورية الصين الشعبية وروسيا تمتلكان الإرادة والوسائل اللازمة لتشكيل تهديد وجودي للولايات المتحدة. كما أشارت الوثيقة إلى أن واشنطن سوف تسعى لمواجهة هذه التحديات من خلال ثلاث آليات، أبرزها «الردع المتكامل»، وهو النهج الاستراتيجي الرئيسي لاستراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي، والذي يقوم على تحقيق التفوق العسكري من خلال مزامنة العمليات عبر أفرع القوات المسلحة المختلفة، وأدوات القوة الوطنية المختلفة، وكذلك من خلال الشراكة بين الوكالات الحكومية والقطاع الخاص، إلى جانب الحلفاء والشركاء، ويهدف الردع المتكامل للتأثير على حسابات وقرارات الخصم من خلال رفع تكاليف المواجهة وتقليص الفوائد المحتملة من أي تصعيد، لإجباره في النهاية على ضبط النفس.
وتستهدف مثل هذه الوثائق، في حالات أخرى، إرسال رسالة واضحة للخصوم بخطوطها الحمراء لتجنب التصعيد العسكري، ومن ذلك على سبيل المثال، العقائد العسكرية الحاكمة لاستخدام الأسلحة النووية. فوفقاً لـ «مراجعة الوضع النووي» الصادرة في عام 2022 عن إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، فإن «الدور الأساسي للأسلحة النووية (الأمريكية) هو ردع الهجوم النووي على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها. ولن تفكر الولايات المتحدة في استخدام الأسلحة النووية إلا في الظروف القصوى للدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة أو حلفائها وشركائها». ومع ذلك، فإن هذه السياسة لا تخلو من غموض متعمد، إذ أنها لا تقدم تعريفاً للظروف القصوى، سوى القول إن هجوم الخصم سيكون له «تأثير استراتيجي»، وذلك بهدف منح الحرية لصانع القرار لتحديد ماهية الظروف القصوى.
وفي المقابل، كانت أحدث عقيدة نووية لروسيا هي «المبادئ الأساسية لسياسة الدولة الروسية بشأن الردع النووي لعام 2020»، والتي حددت أربعة شروط يمكن لروسيا بموجبها أن تستخدم الأسلحة النووية، لتشمل تلقي بيانات حول هجوم صاروخي باليستي قادم، واستخدام الأسلحة النووية أو أي سلاح آخر من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا أو حلفائها، والهجمات على البنية التحتية للقيادة والتحكم والاتصالات النووية الروسية، والهجمات ضد روسيا بالأسلحة التقليدية التي تهدد «وجود» الدولة الروسية. كما أشارت العقيدة أيضاً إلى أهمية الأسلحة النووية لمنع «تصعيد الأعمال العسكرية وإنهائها بشروط مقبولة للاتحاد الروسي و/أو حلفائه». وأشارت هذه اللغة، إلى جانب الخطاب في دوائر الدفاع الروسية، إلى أن روسيا ستعتمد على أسلحتها النووية ليس فقط عندما يكون بقاء الدولة في خطر، ولكن أيضاً عندما تكون منخرطة بالفعل في قتال تقليدي وتسعى لإجبار دولة أخرى على الخضوع لإرادتها.
وفي نوفمبر 2024، أدخلت روسيا تعديلات إضافية على عقيدتها النووية، وذلك لتتضمن استخدام الأسلحة النووية في حالة قيام خصم محتمل بمحاولة «عزل جزء من أراضي الاتحاد الروسي»، وذلك في إشارة إلى جيب كالينينغراد الروسي المحاط بدول حلف شمال الأطلسي التي يمكن، نظرياً، أن تفرض حصاراً عليه لمنع موسكو من الوصول إليه. كما أدخلت تغييراً إضافياً على عقيدتها النووية لتوضيح أن موسكو ستعتبر أي عدوان من قوة غير نووية بدعم من قوة نووية بمثابة هجوم مشترك، وأنها ستنظر إلى أي هجوم من أي دولة من دول الناتو على أنه هجوم من الحلف بأكمله. ويستهدف الكرملين من ذلك إرسال رسالة إلى حلف الناتو بأنه لا يمكن للدول التي تنضم إلى تحالفات أو ائتلافات معادية لروسيا أن تختبئ وراء القوى المسلحة نووياً. كما أن التعديل الأخير يعني تهديد موسكو باستخدام السلاح النووي الآن ضد «الدول التي تسمح باستخدام الأراضي التي تسيطر عليها و/أو المجال الجوي و/أو البحار للتحضير لعدوان على روسيا أو تنفيذه». وهذه رسالة تهديد واضحة إلى أوكرانيا، التي تعتبرها موسكو، بيدقاً في يد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لتهديدها. وهَدَفَ الكرملين من تغيير عقيدة روسيا النووية إلى إرسال رسالة إلى واشنطن تستهدف دفعها إلى وقف التصعيد العسكري ضد موسكو عبر إمداد أوكرانيا بالصواريخ طويلة المدى لاستهداف الأراضي الروسية، إذ أن التعديل الأخير يعني أن موسكو سوف تستخدم السلاح النووي ليس فقط ضد أوكرانيا، ولكن كذلك ضد الولايات المتحدة، وذلك إذا ما سعت كييف إلى استهداف المواقع الاستراتيجية داخل روسيا، سواء كانت مواقع عسكرية تحتوي أسلحة استراتيجية، أو مواقع نووية، كالمفاعلات النووية. وصحيح أن توسيع الحالات التي يمكن للكرملين استخدام الأسلحة النووية فيها قد يؤدي إلى إضعاف الموثوقية من مثل هذه التهديد، فإنه من المؤكد أنه طالما أن روسيا ماضية في تحقيق أهدافها العسكرية في أوكرانيا، وأن الأخيرة لم تستهدف قدرات موسكو الاستراتيجية، فإن الأخيرة سوف تمتنع عن استخدام الأسلحة النووية. وعلى الجانب الآخر، فإن هناك ما يعيب الاعتماد على مثل هذه الوثائق في استقراء الرسائل التي تبعث بها الدول، وهي أن السياسة المعلنة قد لا تكون بالضرورة هي نفسها السياسة الفعلية التي ستتبناها الدولة بالفعل في أزمة أو نزاع، ولذلك عادة ما يتم تقييمها بالاستناد إلى الخبرة بالخصوم، وسياستهم السابقة، وكذلك تقييم ما يمتلكونه من قدرات عسكرية حقيقية.
•التصريحات والتحركات المهددة: غالباً ما تكون التصريحات الصادرة من كبار المسؤولين في الدولة، أو الشخصيات المقربة منهم من الإعلاميين والأكاديميين، والتي تتعلق بأبعاد عسكرية، أحد أشكال الرسائل العسكرية الصريحة، غير أن التحدي الذي يرد على مثل هذا الأسلوب هو أنه قد ينظر إليه على إنه يفتقد إلى المصداقية، أو قد يتم التشكيك في صحته باعتباره محاولة للترهيب تفتقد إلى المصداقية. ومن ذلك على سبيل المثال، ما أطلقه هو شيجين، رئيس تحرير صحيفة جلوبال تايمز المملوكة للحكومة الصينية، في مايو 2021، من تهديدات على حسابه على تويتر، إذ كتب: «أعتقد أنه بمجرد أن تأتي القوات الأسترالية إلى مضيق تايوان للقتال ضد جيش التحرير الشعبي الصيني، هناك احتمال كبير بأن الصواريخ الصينية ستطير باتجاه القواعد العسكرية والمنشآت الرئيسية ذات الصلة على أراضي أستراليا، وذلك للانتقام منها». وجاء ذلك بعد نشره مقالاً افتتاحياً سابقاً كتبه في صحيفته الخاصة بعنوان «الصين بحاجة إلى وضع خطة لردع القوات المتطرفة لأستراليا». ويبدو أن هذا هو أول تهديد صيني علني بعمل عسكري ضد أستراليا. وفي حين أن التقييمات تباينت حول هذا التهديد، ومدى جديته، فإن الرأي الغالب نظر إلى مثل هذا التهديد باعتباره أن كانبيرا أصبحت هدفاً متكرراً بشكل متزايد لإشارات أو رسائل صينية تستهدف ردعها عن التورط في صراعها مع تايوان.
ويأتي من ضمن الأمثلة كذلك تحريك الولايات المتحدة قاذفاتها الاستراتيجية لردع إيران عن استهداف إسرائيل. ففي خضم التصعيد العسكري المتبادل بين إيران وإسرائيل في أواخر 2024، أطلقت طهران وابلاً كبيراً من الصواريخ الباليستية على إسرائيل في 1 أكتوبر. وردت إسرائيل في النهاية في 26 أكتوبر بضرب العديد من مواقع الدفاع الجوي والمواقع العسكرية في إيران، مما دفع طهران إلى التهديد بشن هجوم انتقامي آخر. وتدخلت واشنطن لوقف أي محاولة إيرانية للرد، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية، في 1 نوفمبر، عن نشر ما يصل إلى ست قاذفات من طراز «بي – 52» مسلحة بصواريخ كروز وعدة أسراب من المقاتلات التكتيكية ومدمرات الدفاع الصاروخي في مواقع مختلفة في المنطقة. وقد هدفت هذه التحركات لتحذير طهران من الرد على العمليات العسكرية الإسرائيلية.
ولعل ما عزز من مصداقية هذه التحركات المهددة قيام قاذفتين استراتيجيتين أمريكيتين من طراز «بي-2 سبيريت»، في 16 أكتوبر، بتنفيذ ضربات ضد خمسة مواقع حوثية محصنة تحت الأرض، في مدينتي صنعاء وصعدة، والتي كانت تُستخدم لتخزين وتجميع الصواريخ والطائرات المسيّرة. وفي نفس اليوم، وصف وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، الضربة بالقاذفتين بأنها «عرض فريد لقدرة الولايات المتحدة على استهداف المنشآت التي يسعى خصومنا إلى إبقائها بعيدة المنال، بغض النظر عن مدى عمقها تحت الأرض، أو قوتها، أو تحصينها». كما أكد أن ذلك «يظهر القدرات الأمريكية لضرب هذه الأهداف عند الضرورة، في أي وقت وأي مكان» وكانت هذه الرسالة موجهة بالأساس إلى طهران، والتي تحتفظ بجزء كبير من برامجها النووية والصاروخية في منشآت مدفونة بعمق ومحصنة بشدة تحت الأرض، أي أن التهديدات الأمريكية في نوفمبر ضد إيران، قد سبقها استعراض عملي لقدرة واشنطن ضد الحوثيين، حلفاء طهران، وهو ما يهدف، في النهاية، إلى إرسال رسالة واضحة لا لبس فيها لطهران بقدرة واشنطن على تدمير منشآت إيران النووية إذا ما فكرت في استهداف إسرائيل مجدداً. ونجحت واشنطن في تحقيق أهدافها بدرجة كبيرة، إذ تراجعت طهران عن استهداف إسرائيل مجدداً.
•الاستفزازات العسكرية: يمكن أن يستخدم العمل العسكري المحدود كتكتيك لإرسال رسائل للخصم إذا اتسم بما يكفي من القوة لإظهار العزم وإثبات مصداقية تصميم الدولة على زيادة وتيرة أو كثافة القوة إذا لزم الأمر. وغالباً ما تستخدم الصين مثل هذه الأسلوب في بحر الصين الجنوبي. وتقدم حادثة إمبيسكابل مثالاً واضحاً في هذا الإطار، لأن المناورة الصينية كانت أكثر عدوانية وتزيد بشكل كبير من خطر التصادم أو سوء التقدير مع البحرية الأمريكية.
ووقعت الحادثة في مارس 2009، حيث قامت خمس سفن صينية بمراقبة السفينة البحرية الأمريكية إمبيكابل (Impeccable) والقيام بعملية مناورة تحمل قدراً من التهور، إذ اقتربت منها بشدة، وذلك بما يتعارض مع الممارسات البحرية المتعارف عليها. وعند حدوث هذه المواجهة، كانت السفينة إمبيكابل على بعد 75 ميلاً بحرياً تقريباً جنوب شرق قاعدة سانيا البحرية الصينية، في المياه الدولية لبحر الصين الجنوبي، ولكن داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تطالب بها الصين. واعتقد القادة الصينيون على الأرجح أن السفينة الأمريكية كانت تقوم بجمع بيانات صوتية تحت الماء يمكن أن تساعد في تعقب الغواصات الصينية الموجودة في مكان قريب، وسعوا لعرقلة أنشطة المراقبة الأمريكية هذه. واقتربت سفينتان من السفن الصينية الخمس المتورطة في هذه الحادثة، وهما سفينتا صيد صينيتان على بعد 50 قدماً من السفينة الأمريكية وحاول طاقمهما تعطيل السونار الصوتي المقطور للسفينة.
وهدفت الصين من هذه الحادثة إرسال رسالة لواشنطن بضرورة وقف جهود الولايات المتحدة للتجسس على التحركات الصينية في المياه القريبة من الصين، كما أن هذه الخطوة جاءت بعد تحذيرات صادرة من بكين ضد واشنطن تحذرها في أكثر من مرة من القيام بأنشطة غير شرعية من وجهة نظر الصين في المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تدعي الصين أحقيتها بها، أي أن الصين رأت أن تصريحاتها المحذرة لواشنطن لم تكن كافية لوقف محاولات التجسس الأمريكية ضدها، ولذلك سعت إلى التصعيد عبر تبني أساليب عسكرية استفزازية في محاولة لإرسال رسالة إلى واشنطن بضرورة وقف تحركاتها المستفزة.
رسائل أوريشنك الفرط صوتي:
بعد تعريف إرسال الرسائل العسكرية، وبيان أشكالها، يمكن تحليل استخدام الجيش الروسي لصاروخ أوريشنيك، فقد قامت روسيا، في 21 نوفمبر 2024، باستخدام الصاروخ الفرط صوتي متوسط المدى «أوريشنيك»، أو «شجرة البندق» بالروسية، ضد تصنيع الأقمار الاصطناعية بيفدينماش في دنيبرو الأوكرانية. وكان هذا السلاح، غير المعروف حتى استخدمته روسيا للمرة الأولى ضد أوكرانيا في ذلك التاريخ. ويستطيع الصاروخ أن يبلغ أهداف يتراوح مداها بين 3000 و5500 كيلومتر. وصحيح أن الصاروخ لا يدخل ضمن فئة الصواريخ العابرة للقارات (التي يزيد مداها على 5500 كيلومتر)، فإنه يمكن لـ«أوريشنيك» إذا أُطلق من الشرق الأقصى الروسي أن يضرب أهدافاً على الساحل الغربي للولايات المتحدة. وحتى عام 2019 لم يكن بوسع روسيا والولايات المتحدة نشر مثل هذه الصواريخ بموجب معاهدة القوى النووية متوسطة المدى الموقّعة في عام 1987 خلال الحرب الباردة. لكن في عام 2019 انسحب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خلال فترته الرئاسية الأولى من هذا الاتفاق، متهماً موسكو بانتهاكه؛ مما فتح الطريق أمام سباق تسلح جديد لامتلاك هذه النوعية من الصواريخ.
ومنذ بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا في عام 2022، استخدمت موسكو أوكرانيا كساحة معركة لاستعراض أحدث ابتكاراتها العسكرية، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية والطائرات المسيرة والأنظمة الموجهة بدقة. وكانت هذه التجارب تسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين، وهما إنهاك الروح المعنوية للقوات الأوكرانية، واستعراض القوة العسكرية الروسية أمام جميع الدول الأوروبية. وفي هذا الإطار، يمثل إدخال صاروخ أوريشنيك في نوفمبر 2024 تصعيداً كبيراً، سواء على صعيد التطور التكنولوجي أو الأهداف الاستراتيجية المتوخى تحقيقها، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
•تأكيد التفوق التكنولوجي: يكشف هذا الاستخدام للصاروخ الفرط صوتي عن قدرات الصاروخ أوريشنيك الذي تمكن من توجيه ضربة دقيقة، فضلاً عن إظهار البراعة التكنولوجية الروسية وعن تفوقها عن الغرب في هذا الإطار. فقد أعلن الجيش الأمريكي عن اختبار طيران ناجح لصاروخ تقليدي فرط صوتي من محطة كيب كانافيرال للقوات الفضائية في فلوريدا، في ديسمبر 2024، وتعد هذه التجربة هي الثانية للولايات المتحدة في العام الماضي، وتكشف أن الولايات المتحدة اقتربت من الإنتاج النهائي لهذا الصاروخ لصالح الجيش الأمريكي، أي أن واشنطن باتت على اعتاب اللحاق بالنادي الفرط صوتي، والذي يضم روسيا والصين. ومع ذلك، فإن موسكو تمكنت من تطوير هذه القدرات وإنتاج صواريخ مختلفة منها، وسبقت واشنطن بنحو بضع سنوات، على اعتبار أن أول تجربة روسية ناجحة لمثل هذه النوعية الجديدة من الصواريخ جاءت في العام 2018.
•الكشف عن الضعف الغربي: تفتقد الدول الغربية، خاصة أوروبا، إلى أنظمة الدفاع الجوي القادرة على اعتراض الصواريخ الفرط صوتية، إذ تجمع هذه الصواريخ بين السرعة الفائقة (سرعة تزيد على 5 ماخ) والقدرة على المناورة، إذ أنه بخلاف الصواريخ الباليستية التقليدية، يمكن للأنظمة الفرط صوتية أن تتفادى أنظمة الدفاع الصاروخي من خلال إعادة الدخول إلى الغلاف الجوي بشكل أسرع من الصواريخ الباليستية التقليدية، كما أن الفئة الأخيرة من الصواريخ تتبع مساراً ثابتاً يسهل اكتشافه بواسطة أنظمة الرادار، وذلك على عكس الصواريخ الفرط صوتية. ومن الأمثلة على هذه التكنولوجيا صاروخ أفانجارد الروسي، والصاروخ المجنح كينزال. وتتمتع هذه الصواريخ بدقتها وقدرتها على ضرب أهداف عالية القيمة بأقل قدر من الإنذار المبكر، وهو ما يعزز بشكل كبير من فائدتها الاستراتيجية. وعلى الرغم من ذلك، فإن الصاروخ أوريشنيك هو أكثر تفوقاً عن الصاروخين السابقين، من زاويتين، وهما أن حمولته تشتمل على قذائف صاروخية ذاتية الدفع تعرف باسم «مركبة إعادة الدخول المتعددة ذات الأهداف المستقلة»، أي أن الصاروخ يستطيع أن يحمل رؤوس حربية نووية أو تقليدية تصل إلى ثمانية رؤوس نووية، وكل رأس له مسار مستقل عن الآخر، وهو ما يعزز من قدرة الصاروخ على إرباك الدفاعات الصاروخية، فضلاً عن ضرب أهداف متعددة.
وقد أكد الرئيس بوتين استحالة اعتراض الصاروخ الجديد، في ديسمبر 2024، حينما دعا الغرب لإجراء مبارزة تكنولوجية بين صاروخ «أوريشنيك» الروسي وجميع أنظمة الدفاع الجوي الغربية، وذلك من خلال تحديد هدف لضربه بالصاروخ الروسي ومحاولة الأنظمة الدفاعية الغربية توفير الحماية له، مضيفاً بأن هناك 24 منظومة للدفاع الصاروخي في رومانيا وبولندا، ومؤكداً في النهاية بأنه لا توجد فرصة لإسقاط الصاروخ الروسي. وجاء هذا التصريح للرئيس الروسي تعليقاً على تصريحات خبراء أفادوا بأن بعض الأنظمة الصاروخية الغربية قادرة على اعتراض الصاروخ الروسي «أوريشنيك».
•تهديد واشنطن ضمنياً: تسعى موسكو من خلال الاختبار الناجح لصاروخ أوريشنيك في أوكرانيا إلى التأكيد على القدرات التكنولوجية الفريدة لصواريخها الفرط صوتية الأخرى، التي تمتلكها، خاصة تلك الصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات، مثل صاروخ «سارمات آر إس – 28»، المعروف أيضاً باسم «الشيطان 2». وكشفت روسيا عن سارمات رسمياً في عام 2022، وهو صاروخ باليستي ثقيل عابر للقارات يعمل بالوقود السائل وقادر على إطلاق ما يصل إلى 10 صواريخ باليستية عابرة للقارات أو مركبات صاروخية فائقة السرعة. ويتجاوز مداه 18,000 كيلومتر، وهو مصمم خصيصاً لتجاوز الدفاعات الصاروخية الأمريكية من خلال مسارات غير تقليدية، مثل المرور فوق القطب الجنوبي، حيث لا يتم توجيه أنظمة الدفاع الصاروخي التقليدية الغربية. وفي ضوء ذلك، فإن تجربة أوريشنيك الناجحة تضفي المصداقية على الادعاءات الروسية حول قدرات سارمات. كما أن ما سبق يعني أن موسكو تمتلك صواريخ نووية قادرة على اختراق الدفاعات الجوية الأمريكية، وذلك دون أن تمتلك واشنطن منظومة مماثلة بعد. ولكن ذلك لا يعني أن واشنطن معرضة للتهديدات الروسية، ولا تستطيع أن ترد عليها تماماً، إذ أن الولايات المتحدة تمتلك صواريخ عابرة للقارات تحافظ من خلالها على الردع النووي مع موسكو.
•تقويض الدعم الأوروبي لأوكرانيا: استخدمت روسيا الصاروخ أوريشنك، والذي يصل مداه إلى خمسة آلاف كيلومتر، وذلك بهدف إرسال رسالة تهديد إلى الدول الأوروبية، إذ تمتلك موسكو العديد من الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، والتي تستطيع أن تضرب أي نقطة في أوكرانيا، مثل الصاروخ الباليستي قصير المدى إسكندر أو الصاروخ الفرط صوتي كينزال، والذي يصل مداه إلى ألفي كيلومتر. وبالتالي، كان المدى الأطول لأوريشنك هو رسالة تذكير لأوروبا بأن موسكو لديها ترسانة أكبر من الصواريخ الأكبر حجماً والأطول مدى، والتي يمكن أن تستهدف بها الدول الأوروبية. وإذا كان هناك أي شك حول هذه الرسالة، يلاحظ أن وسائل الإعلام الروسية قد بددت الشك تماماً حيال ذلك، فقد نشرت رسومات بيانية تقدر الزمن الذي سوف تستغرقه صواريخ أوريشنك للوصول إلى عدة عواصم أوروبية رئيسية.
ويلاحظ أن روسيا قد تكون نجحت في تحقيق بعض النجاح في رسالتها التهديدية هذه، إذ أنه على الرغم من استمرار الداعمين الدوليين في تقديم الدعم لأوكرانيا، فإن هذا الدعم يتم بشكل بطيء، وفقاً للمعهد الملكي للخدمات المتحدة البريطاني، كما أن التصعيد الأوكراني ضد موسكو لايزال منضبطاً، ولم يتجاوز الخطوط الحمراء الروسية، وذلك من خلال استهداف المنشآت أو الأسلحة الاستراتيجية الروسية، أو مفاعلاتها النووية على سبيل المثال.
•التراجع عن التهديدات النووية الروسية: سبق وأن حذرت موسكو الغرب باستخدام الأسلحة النووية، ليس فقط ضد أوكرانيا، ولكن كذلك ضد الدول التي تمدها بالقدرات اللازمة لاستهداف روسيا، وذلك في حال أعطي الضوء الأخضر لأوكرانيا لاستهداف العمق الروسي بالصواريخ الغربية، مثل أتاكامز الأمريكية، وستورم شادو البريطانية. وسعى الغرب إلى تجاهل هذه التهديدات الروسية، وهو ما يمثل محاولة لتقويض التهديدات الروسية، وتوضيح أنها غير ذات مصداقية. ورداً على ذلك، قامت روسيا باستخدام «أوريشنك»، عوضاً عن تنفيذ تهديداتها، فقد أكد بوتين أن استخدام الصاروخ الأخير جاء رداً على ضرب أوكرانيا أهدافاً في مقاطعتي كورسك وبريانسك الحدوديتين جنوب غربي روسيا بصواريخ أتاكمز الأمريكية، وستورم شادو البريطانية. كما أكدت روسيا تمكنها من صد الصواريخ السابقة، وهو ما يؤشر إلى حرص روسيا على التراجع عن التصعيد مع حفظ ماء الوجه، وذلك على أساس أنه ليس هناك داعٍ للتصعيد طالما تمكنت موسكو من اعتراض الصواريخ الغربية.
الخاتمة:
يلاحظ أن رسائل التحذير الروسية هدفت بالأساس إلى تعزيز الردع مع واشنطن، ومحاولة كبح جماح التصعيد مع واشنطن، خاصة بعدما وافقت الأخيرة لأوكرانيا على استخدام بعض منظومات الأسلحة الغربية، مثل أتاكامز الأمريكية، وستورم شادو البريطانية، في استهداف الأراضي الروسي. وبالتالي، فإن هدف موسكو من التصعيد مع الغرب هو وقف جماح التصعيد. ولعل ما يؤكد ذلك أن كلا الطرفين لم يتجاوزا الخطوط الحمراء الحرجة للطرف الآخر، إذ لم تنتشر قوات الناتو بشكل مباشر في أوكرانيا لقتال القوات الروسية، ولم تشن روسيا هجوماً عسكرياً تقليدياً على دول الناتو. ومن ناحية أخرى، تم الإبقاء على الحد الأدنى من التواصل العسكري بين موسكو وواشنطن، حيث أبلغت الأولى الثانية قبل إطلاق الصاروخ أوريشنك، وإن بفترة زمنية قصيرة. وبالتالي، تعكس حالة استخدام أوريشنك نجاحاً روسياً في إرسال رسائل إلى الغرب تستهدف بدرجة أساسية ضبط التصعيد في الميدان الأوكراني.
د. شادي عبدالوهاب أستاذ مشارك في كلية الدفاع الوطني