لا تنفك التطورات التكنولوجية تحدث الكثير من التغيرات الجذرية في جميع القطاعات الحيوية، بل إنها سهلت كل مناحي الحياة اليومية للبشر، وحلت محل الإنسان وتفوقت عليه في العديد من المجالات الحساسة، كالقطاع العسكري الذي أصبح الذكاء الاصطناعي قلبه النابض.
ومما لا شك فيه أن الثورة الصناعية الرابعة قد أفقدت في وقتنا الحالي العديد من الناس وظائف طالما كانت تعتمد على مهاراتهم المكتسبة، وتكاد هذه الثورة أيضاً أن تصل إلى العديد من الحيوانات وتفقدها وظائف كانت حكراً عليها، حيث فتح الذكاء الاصطناعي الباب أمام امتلاك الآلة والروبوتات في المجالات العسكرية والأمنية العديد من المهام البشرية، وتم منحها مؤخراً حاسة الشم، بعد ابتكار أنف اصطناعي يمكن أن يوسع أدوارها بشكل كبير ويعزز استحواذها على وظائف دفاعية بشرية وأخرى حيوانية كالتي تعتمد على الكلاب المدربة في تنفيذها، منها على سبيل المثال البحث عن المتفجرات والمواد الكيميائية الخطيرة، والمخدرات، والمواد المحظورة، وعمليات الإنقاذ، واختبار جودة الهواء، إضافة إلى العديد من المهام التي تعتمد على حاسة الشم.
أهمية وطريقة عمل حاسة الشم
لعبت حاسة الشم دوراً حاسماً في تطور الإنسان منذ قديم الزمان، وما زالت تلعب دوراً هاماً في قدرته على مواجهة التحديات، حيث إن قدرات الأنف تتفوق في خارطة التمييز بين عدد هائل من المثيرات الحسية المختلفة، مما يمكن البشر من التعرف على تريليون رائحة مختلفة حسب ما يقول العلماء في هذا الشأن. وتأتي القدرة على الشم من خلايا حسية متخصصة، تسمى الخلايا العصبية الحسية الشمية، والتي توجد في رقعة صغيرة من الأنسجة عالياً داخل الأنف. تتصل هذه الخلايا مباشرة بالدماغ. لكل خلية عصبية شمية مستقبل واحد للرائحة. وتحفز الجزيئات المجهرية التي تطلقها المواد من حولنا هذه المستقبلات. وبمجرد اكتشاف الخلايا العصبية للجزيئات، فإنها ترسل رسائل إلى الدماغ، والذي بدوره يحدد الرائحة ويتعرف عليها كرائحة معينة.
يبدو أن محاولات العلماء والباحثين قد بدأت تؤتي تمارها في صناعة عقول اصطناعية تحاكي أحاسيس وعقول الكائنات الحية، فقد ابتكرت شركة Intel شريحة كمبيوتر جديدة يمكنها أن تشم المواد الكيميائية الخطيرة والمتفجرات والمخدرات والمواد الأخرى، ويمكن أن تحل محل الكلاب المدربة على القيام بهذه المهام قريباً، وفقاً لما نشرته مجلة Machine Intelligence مؤخراً.
وحتى وقت قريب كانت عملية تطوير آلات تمتلك قدرات الأنف الطبيعي أمراً أشبه بالخيال، رغم تمكن العلماء والباحثين من تطوير روبوتات تستطيع محاكاة معظم الحواس البشرية، كالنظر والسمع واللمس.
ويأتي الابتكار الجديد في وقت تتزايد فيه مخاوف دول العالم من تطور أساليب الحروب وتهديدات إدخال الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في النزاعات المسلحة باعتبارها من أسلحة الدمار الشامل.
رقاقة ذكية تحاكي حاسة الشم
الاختراق الكبير المحقق في محاكاة حاسة الشم وفك شيفراتها المعقدة، جاء بعدما ابتكر باحثو Intel، بالتعاون مع علماء من جامعة “كورنيل” Cornell University، رقاقة «عصبية الشكل» تسمى «لويهي» Loihi، ويمكنها أن تحول أجهزة الكمبيوتر إلى التفكير مثل العقول البيولوجية.
وقام فريق الباحثين بصياغة دائرة على الرقاقة نفسها، التي تعكس الدائرة الموجودة في الحواس الشمية لمخ الكلب، والتي يستخدمها لمعالجة الروائح.
وقالت Intel إن رقاقة Loihi يمكنها اكتشاف رائحة معينة من المحاولة الأولى، حتى في ظل وجود روائح أخرى، ويمكن استخدامها للكشف عن الروائح التي تصدر عن بعض المصابين بأمراض معينة، علاوة على الروائح المرتبطة بالأدوية والغازات البيئية.
وتعتمد الرقاقة، مثلها مثل الكلاب البوليسية المدربة، على الذكاء الاصطناعي الذي تم تدريبه على التعرف على الروائح الفردية، حتى تتمكن الرقاقة من اكتشافها مرة أخرى عندما تتعرض لها.
وتتولى الرقاقة ذاتيا معالجة المعلومات بنفس الطريقة التي تنتهجها أدمغة الثدييات باستخدام الإشارات الكهربائية لمعالجة مختلف الروائح، فعندما يشم كائن حي رائحة ما، فإن الجزيئات تتفاعل مع المستقبلات الأنفية، التي ترسل إشارات إلى حاسة المخ الشمية. ويقوم المخ بعد ذلك بترجمة الإشارات للتعرف على الرائحة المحددة، بناءً على التعلم أو الخبرة السابقة بتلك الرائحة.
واستخدمت Intel نتائج أبحاث حول طريقة عمل أمخاخ الحيوانات أثناء قيامها بالشم، جنباً إلى جنب وحالات تنشيط الدوائر العصبية، بناءً على الروائح المختلفة. كما تم محاكاة طريقة تشغيل الدوائر الكهربائية في المخ لإعادة تخليق العملية على السيليكون.
وتحتوي رقاقة Loihi على 130 ألفاً من الخلايا العصبية الاصطناعية و130 مليوناً من المشابك العصبية، التي تحمل إشارات على طول “الخلايا العصبية”. وتقوم الرقاقة بإعادة توصيل شبكتها الداخلية للسماح بشكل مستمر بإتمام كافة أنواع عمليات التعلم.
وتمكن الباحثون من إعادة بناء عملية الشم برمتها في شريحة Loihi باستعمال 72 مجساً كيميائياً. حيث تم نقل استجابات المجسات للروائح الفردية إلى الشريحة حيث تقوم دوائر السيليكون بمحاكاة دوائر الدماغ الكامنة وراء الحاسة المعقدة.
ثم قام الباحثون باختبار قدرة الذكاء الاصطناعي على شم الروائح من بين روائح أخرى لم يتم تدريبه على اكتشافها. وتمكن من تسجيل نجاح وصلت نسبته إلى 100 بالمئة تقريباً لثماني روائح و90 بالمئة للباقيتين.
«لويهي».. الآفاق والتحديات
وقال البروفيسور نبيل إمام، رئيس الباحثين في مختبر الحوسبة العصبية في Intel: “نعمل على تطوير خوارزميات عصبية في Loihi تحاكي ما يحدث في مخ الكائن الحي عندما يشم شيئا ما، حيث توفر قدرات استشعار قوية يمكن استغلالها في الصناعات المختلفة أيضاً”.
وأضاف البروفيسور إمام: “بالشراكة مع العلماء الذين يدرسون أدمغة الحيوانات أثناء شمها، ومراقبة تنشيط دوائرها العصبية استناداً للروائح المختلفة اخترعنا الشريحة، وجربناها على 10 روائح ضارة منها الميثان والأمونيا والأسيتون وأول أكسيد الكربون، حيث أثبتت قدرتها على اكتشافها، ويمكن وضعها على الروبوتات في الأماكن التي تستدعي الحاجة لهذه المهمة”.
وفيما يخص مستقبل هذه التكنولوجيا يقول إمام إن خطوته التالية هي إضافة المزيد من الحواس وتعميم هذا النهج على نطاق أوسع من المشاكل ليشمل تحليل المشهد الحسي والقضايا المجردة مثل التخطيط واتخاذ القرار.
وأكد أن فهم كيفية حل الدوائر العصبية للدماغ لتلك المشاكل الحسابية المعقدة سوف يوفر وسائل مبتكرة لتصميم ذكاء اصطناعي فعال وقوي.
ومن بين التحديات في حاسة الشم التي يسعى الفريق للتغلب عليها، يقول إمام “عندما تمشي في البقالة قد تشم رائحة الفراولة ولكن قد تكون رائحتها مشابهة لرائحة التوت أو الموز والتي تثير أنماط نشاط عصبي متشابهة في الدماغ. وفي بعض الأحيان يكون من الصعب على البشر التمييز بين فاكهة واحدة من مزيج من الروائح. وهي تحديات يأمل الفريق حلها خلال العامين المقبلين”.
وقام إمام مع توماس كليلاند Thomas A. Cleland من جامعة كورنيل Cornell University في نيويورك بإنشاء منظومة ذكاء اصطناعي قائمة على البصلة الشمية في الثدييات، وهي بنية عصبية في الدماغ الأمامي، معنية بمعالجة وإدراك الروائح. وتحاكي الخوارزمية التي تم تطويرها جزءاً من هذه المنطقة وتميز بين الروائح المختلفة، التي عادة ما تكون موجودة كمزيج من المركبات في الهواء.
وحسب ما أفاد الباحثون مؤخراً في دورية Machine Intelligence فإن الذكاء الاصطناعي الجديد يتعلم التعرف على الروائح من عينة اختبار واحدة فقط وبشكل أكثر كفاءة وموثوقية مقارنة بأي نظام تقليدي للتعرف، بما في ذلك نظام التعلم العميق، الذي يتطلب حوالي 3 آلاف اختبار لعينات التدريب للوصول إلى نفس المستوى من الدقة والكفاءة. ويمكن لهذا النظام التعلم والتعرف على كل مادة كيميائية على أساس رائحتها من دون تعطيل الذاكرة للروائح التي تم تعلمها مسبقاً.
الفوائد والاستخدامات
من المؤكد اليوم أنه مع انتشار وتطور تكنولوجيا حاسة الشم سيكون بالإمكان الاعتماد عليها لإدارة العديد من التحديات بما في ذلك تنبيهنا للجزيئات السامة في الهواء وتسرب الغازات، وفي العمليات العسكرية والدفاعية والأمنية التي تتطلب في الكثير من جوانبها الاعتماد على حاسة الشم.
كما أن هذا الإنجاز الفريد، سوف يسمح للعلماء بتجهيز الروبوتات في المطارات وأماكن التفتيش بالرقاقة الجديدة للكشف عن وجود أي مواد خطرة، بالإضافة إلى إمكانية استخدام الرقاقة كأجهزة استشعار في المستشفيات، أو محطات توليد الطاقة للكشف عن الغازات، حيث يقول الباحثون إن الرقاقة يمكن أن تتعلم كل رائحة فردية من بضع عينات فقط – مقارنة بآلاف العينات التي عادة ما تحتاجها تقنيات التعلم العميق. ويمكن استخدام رقاقة Loihi لأي أغراض أخرى، حيث يمكن تكييفها لتكرار مجموعة من وظائف المخ.
تجدر الإشارة إلى أن النجاحات المحققة في مجال تطوير حاسة الشم بالذكاء الاصطناعي لا تقتصر على جهود Intel وجامعة كورنيل Cornell University فحسب، وإنما تحاول شركات أخرى مثل IBM تطوير قدرات الروبوتات في تمييز الروائح، كما يعمل فريق Google Brain team بالتعاون مع شركات مصنعة للعطور على تدريب الذكاء الاصطناعي على الشم من خلال تحليل الهياكل الجزيئية، فيما يحاول باحثون في روسيا تطوير ذكاء اصطناعي يستطيع تحديد مخاليط الغاز القاتلة وكذلك إعادة إنتاج روائح الأنواع المنقرضة من الزهور من خلال التعلم الآلي.