رغم مرور نحو عشر سنوات على إطاحة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، لا تزال تونس تعاني عدم الاستقرار، والمحور الأساسي للخلافات والتوترات فيها هو «حركة النهضة» الإخوانية، وهي التوترات التي زادت بعد تولي زعيم الحركة راشد الغنوشي رئاسة البرلمان التونسي بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2019، وما أدى إليه ذلك من الكشف عن الوجه الإخواني الحقيقي للحركة وزعيمها، على الرغم من زعمه منذ سنوات الانفصال عن جماعة الإخوان المسلمين.
بعد فقدانها وزنها الانتخابي في انتخابات عام 2019 ،وخسارة مرشحها للرئاسة عبدالفتاح مورو، وفشل حكومتها المُقترحة بقيادة حبيب الجملي فى نيل ثقة البرلمان، تتسارع وتيرة الأحداث لتلاحق حركة النهضة وزعيمها، خاصة فيما يتعلق بعلاقته مع تركيا وقطر، وتتسع حركة المعارضة لها، سواء في الشارع أو في الساحة السياسية، حيث تتعالى الأصوات المطالبة بحل البرلمان وتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة وتشكيل حكومة تصريف أعمال مصغرة وتغيير النظام السياسي واستبداله بنظام رئاسي وتنقيح قانون الانتخابات وإقالة الغنوشي من منصبه. وما بين تصدعات داخلية ورفض شعبي، تعاني حركة النهضة التونسية وزعيمها الذي خضع لمساءلة في جلسة برلمانية استمرت لنحو عشرين ساعة.
الغضب تجاه حركة «النهضة».. الأسباب والتجليات
• بدأت الأحداث منذ منتصف يناير 2020، حينما توجه راشد الغنوشي بزيارة إلى تركيا ليلتقي رئيسها رجب طيب أردوغان عشية رفض مجلس النواب التونسي منح الثقة لحكومة الجملي المدعومة من حركة النهضة، وعشية حضور الغنوشي لاجتماع مجلس الأمن القومي التونسي، وقد سبق واستقبل سفير تركيا في مكتبه بمقر البرلمان، مما أثار غضباً واستياءً من عدد من نوابه الذين رأوا أن هذه الزيارة تعد دليلًا على أن قرارات حركة النهضة مرتبطة بتوجيهات تركيا، كما طالب البعض بمساءلته وإصدار عريضة لسحب الثقة منه والتشكك فى إفشائه أسرار تتعلق بأمن تونس إلى الرئيس التركي. بينما دافع الغنوشي قائلًا إنه زار أردوغان بموعد مسبق وبصفته رئيساً لحركة النهضة وليس بصفته رئيسا للبرلمان، وأن سبب الزيارة هو تهنئة تركيا على إنتاج سيارة جديدة!!
• ثم تسبب مشروعا اتفاقيتين تجاريتين مع تركيا وقطر في إثارة جدل واسع في الشارع التونسي واتهامات وُجهت للغنوشي باستغلال منصبه لتمكين أنقرة والدوحة من التغلغل فى الاقتصاد التونسي فى إطار أجندة تنظيم الإخوان المرتبطة بالمشروع التركي والقطري. وارتأى العديد من التونسيين أن تلك الاتفاقيات تخل بشرف تونس لأنها أعلى قيمة من القوانين الداخلية والتي تمنع الأجانب من حق التملك فيها. وحذر الاتحاد التونسي للشغل من استغلال أزمة كورونا لتمرير مشاريع واتفاقيات تعادي مصلحة تونس وأجيالها القادمة لصالح أحلاف خارجية، وطالب التونسيون رئيس الجمهورية باتخاذ موقف حيال ذلك.
• وفي التاسع عشر من مايو 2020 أجرى راشد الغنوشي اتصالاً هاتفياً مع فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الليبية ليهنئه على سيطرة الميليشيات التابعة له على قاعدة الطوية، وهو ما اعتبرته عدة أحزاب، تجاوزاً لمؤسسات الدولة وتوريطاً لها في النزاع الليبي لصالح جماعة الإخوان وحلفائها، وتوريطها كذلك مع الاحتلال التركي، وأصدرت هذه الأحزاب بياناً مشتركاً بهذا الشأن، وشاركتها فيه دوائر سياسية عديدة خاصةً أن السراج هو من أعلن عن هذا الاتصال وليس الغنوشي. وبالعودة للدستور فإن الاتصالات الخارجية من اختصاص رئيس الجمهورية وحده، وهذا التصرف كان موضع رفض من التونسيين الذين لا يرغبون في الزج ببلادهم في أتون حرب أهلية ليبية على حدود دولتهم.
ضغوط متصاعدة
ونتيجة لذلك تصاعدت الضغوط
على حركة النهضة، حيث:
• أعلنت عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر عن عزمها التقدم بلائحة للبرلمان لتصنيف جماعة الإخوان جماعة إرهابية وهو ما يضع مزيداً من الحرج على الغنوشي وحركته حال رفضها، مما سيضعه شعبياً وبرلمانياً في موضع اتهام بالدفاع عن المنظمات المتطرفة.
• وتوالت الأحداث ليقرر البرلمان جلسة عقدها في الثالث من يونيو 2020 لمساءلة رئيسه راشد الغنوشي، مع تنامي زخم عريضة شعبية انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب بالتدقيق في مصادر ثروته التي وصلت إلى نحو مليار دولار، على الرغم من أنه ليس له أي نشاط اقتصادي أو تجاري.
• وعادت مجموعة من الأحزاب المعارضة لتتهم حركة النهضة باستخدام عناصر متطرفة وتجنيد الجهاديين لاغتيال معارضيها وعلى رأسهم شكري بلعيد ومحمد البراهمي، واتهام الحركة بالتدخل في الشأن القضائي بتعيين مجموعة من القضاة المواليين للتعتيم على هذا الأمر.
• وشهدت جلسة البرلمان التونسي المنعقدة في السابع عشر من يونيو 2020 جولة من الفوضى عقب رفع نواب ائتلاف الكرامة – وهو أحد مكونات الإسلام السياسي التونسي– صورة محمد مرسي في ذكرى وفاته، وهو ما أثار غضب عدد غير قليل من النواب باعتبار مرسي أحد رموز الإخوان المسلمين المتهم بالإرهاب والتورط في أعمال عنف.
حركة النهضة.. أبعاد الأزمة
في ضوء ما سبق، تواجه حركة النهضة وضعاً صعباً ومعقداً أهم مظاهره هي:
• يدلل البعض على هذا الوضع الصعب باضطرارها قبول حكومة إلياس الفخفاخ خشية تنفيذ الرئيس التونسي قيس سعيد تهديداته بحل البرلمان والدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة قد لا تحظى فيها بمقاعد ذات وزن في البرلمان.
• يواجه راشد الغنوشي انتقادات حادة بسبب انحيازه الواضح لحزبه على حساب منصبه وعدم قدرته على إدارة الجلسات بحكمة وخاصة في مواجهة معارضيه.
• وعلى الصعيد الداخلي لحركة النهضة فإن الصورة تبدو متوترة هي الأخرى خاصة بعد سلسلة استقالات من قبل أعضاء بارزين فيها مثل عبدالفتاح مورو النائب الأول لرئيس الحركة ورفيق الغنوشي في تأسيسها منذ علم 1972، وعبد الحميد الجلاصي وزياد العذارى الأمين العام، هشام العريض وزياد بو مخلة عضوي مجلس شورى الحركة وقبلهما زبير الشهودى رئيس مكتب رئيس الحركة وغيرهم.
• تنامت أصوات عدة داخل حركة النهضة لتطالب بالتجديد في سلم قيادتها التي يحتكرها الغنوشي منذ نحو خمسة عقود ويضيق ذرعاً بآراء من يخالفه. وقد اعترض عدد من قيادات الحركة على طريقة تسييرها واتخاذ القرار فيها وتجاوز الغنوشي لمقررات مجلس شورى الحركة أكثر من مرة بل وإعلانه مؤخراً عن حل المكتب التنفيذي للحركة والذي يعد أعلى هيئة تنفيذية بها.
ويطرح البعض داخل الحركة أن الغنوشي لم يعد حريصاً على مستقبلها داخل الحياة السياسية التونسية بقدر حرصه على تنفيذ أجندته الشخصية، وهي أجندة إخوانية تماماً. وفي هذا السياق قدمت مبادرة حملت عنوان «مجموعة الوحدة والتجديد» من أعضاء الحركة عرضاً لخارطة طريق بشأن دور رئيسها وموعد المؤتمر العام للحركة الذي تعطل عن موعده بسبب عدم تحمس الغنوشي لعقده، حيث تنتهي فترة رئاسته الثانية والأخيرة لحركة النهضة وفق لائحتها التي تنص على عدم تجاوز رئاسة الحركة لأكثر من دورتين متتاليتين، والغنوشي يؤجل انعقاد المؤتمر بحجة أزمة كورونا أملاً فى إجراء تعديلات على هذه اللائحة.
وقد دعت المبادرة إلى ضمان التداول القيادي فى الحركة بما يسمح بتجديد نخبها ويواكب متطلبات الحياة السياسية ويحاول استعادة شعبية الحركة التي تقلصت كثيراً بسبب رئاسة الغنوشي.
• على الرغم من أن حركة النهضة ربما رأت في الرئيس قيس سعيد، شخصاً يمكن احتواؤه، بالنظر إلى عدم خبرته بالعمل السياسي، فإنه منذ تولى السلطة يتبنى مواقف استقلالية عنها، ويؤكد دائماً أن لتونس رئيس واحد يمثلها في الداخل والخارج. وفي الوقت الذي يؤيد فيه الغنوشي وحركة النهضة فايز السراج المدعوم من تركيا في ليبيا، فإن سعيد اتخذ موقفاً مخالفاً، حيث قال في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم 22 يونيو 2020، في باريس، «السلطة القائمة في طرابلس تقوم على شرعية دولية، ولكن هذه الشرعية الدولية لا يمكن أن تستمر، هي شرعية مؤقتة، ويجب أن تحل محلها شرعية جديدة، شرعية تنبع من إرادة الشعب الليبي». وهو ما دعا «حزب العدالة والبناء»، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، إلى شن هجوم حاد على الرئيس التونسي.
دلالات مهمة
وفي الختام يمكن القول إن أزمة حركة النهضة في تونس تؤكد مجموعة من الأمور المهمة أبرزها:
1
مواقف النهضة المؤيدة لتركيا، والداعمة للإخوان المسلمين في ليبيا، على الرغم من إعلانها منذ سنوات ما قالت إنه انفصال عن جماعة الإخوان، يثير الشك في مواقف كل القوى الإخوانية في العالم العربي التي قالت إنها انفصلت عن الإخوان بعد إطاحة الجماعة الأم في مصر عام 2013، لأنه من الواضح أن هذه المواقف هي مواقف تكتيكية ومن باب التقية السياسية دون تغيير حقيقي في التوجهات والقناعات.
2
حينما كانت ترى أنها مهددة بالانتفاضة عليها وإلقاء قادتها في السجون في تونس، تبنت حركة النهضة نهجاً بعيداً عن التوجهات الإخوانية، لكن حينما رأت أو قدرت أن الظروف ربما تسير في صالحها على الساحة السياسية التونسية، خاصة بعد انتخابات البرلمان الأخيرة، والتشققات التي لحقت بحزب نداء تونس، كشفت عن نواياها الحقيقية وعبرت عن مواقفها الإخوانية، وهذا هو حال كل قوى الإخوان في المنطقة.. تنتظر الوقت المناسب للكشف عن حقيقة مواقفها علناً.
3
طبيعة جماعة الإخوان المسلمين، تجعل من الحديث عن تغيير بعض القوى التابعة لها لتوجهاتها، محل شك كبير، وأي تغيير غنماً يكون مؤقتاً. وهذا ينطبق على حركة النهضة وغيرها.
» سحر محمد صالح ( باحثة في الشؤون الاستراتيجية(